على غير العادة احتفل التونسيون ب"عرسهم الانتخابي" حتى قبل أن تظهر نتائج الاقتراع التشريعي الذي جرى أول أمس الأحد، مؤكدين، كما أشار إلى ذلك العديد من الملاحظين، أن تونس، وبغض النظر عن هذه النتائج وطبيعتها، قد اجتازت "الامتحان الديمقراطي بنجاح"، واختار مواطنوها المشروع الديمقراطي طريقا لبناء المستقبل، في ظل ثقافة سياسية تؤمن بالتعددية والاختلاف والتناوب على السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، بدل الاحتراب والعنف والإقصاء والتطرف والإرهاب.وكان شفيق صرصار رئيس "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" قد أعلن، في وقت متأخر الليلة الماضية، أن نسبة المشاركة غير النهائية في الانتخابات التشريعية بلغت 61,8 في المائة؛ أي نحو 3,1 ملايين ناخب من إجمالي 5,3 ملايين يحق لهم التصويت. وأشار هؤلاء الملاحظون إلى أن الوصول إلى تنظيم هذه الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في حد ذاته يشكل فوزا للديمقراطية في تونس، حيث أنه لم يكن من السهل بلوغ هذه المحطة بعد أزيد من ثلاث سنوات من الصراعات والتجاذبات السياسية والانقسامات والأحداث الخطيرة التي كانت سترهن مستقبل البلاد وترمي بها إلى المجهول في العديد من المحطات السياسية والفترات العصيبة التي مرت بها، علاوة على الوضع الإقليمي والدولي المتفجر وغير المحفز، مبرزين أن تحلي الأحزاب بحس توافقي أدى إلى هذا الانتصار الديمقراطي. وفي هذا الصدد، قال نور الدين العلوي، أستاذ علم الاجتماع، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء بتونس، إن "مختلف الأطراف اقتنعت بخيار التوافق والتعايش في ظل صراع سياسي يحتكم إلى قواعد الديمقراطية بدل الاستفراد بالقرار، وبالتالي تكريس الاستبداد الذي أدى إلى كل الويلات التي عانت منها تونس وما تزال". ومن جهته، أكد الكاتب والمحلل السياسي محمد الزغواني، في تصريح مماثل، أن "الديمقراطية هي من فاز في تونس، وأن التونسيين اختاروا الاختلاف وحكم الصناديق أسلوبا للتعايش وبناء الأفق الديمقراطي من أجل الإجابة على أسئلة التنمية ومواجهة التطرف والإرهاب". وفي نفس التوجه، سجل عدد من الملاحظين أن التونسيين أعربوا عن نضجهم واستعدادهم لمواصلة الدفاع عن المكاسب التي حققوها على مستوى الحريات العامة وحقوق الإنسان، وعن إصرارهم على عدم الرجوع بالبلاد إلى الوراء، وذلك من خلال الإقبال على صناديق الاقتراع بنسبة ناهزت 61 في المائة، في وقت كانت فيه التخوفات قائمة من عزوف محتمل للناخبين عن التصويت، خاصة في سياق وضع اقتصادي واجتماعي وأمني "صعب". كل ذلك تم في إطار أجواء سلمية عبر، من خلالها، التونسيون عن حس مدني وحضاري، مترفعين عن الحسابات الحزبية الضيقة. وفي هذا السياق، أعرب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات شفيق صرصار، عن ارتياحه إزاء نسبة المشاركة بعد مخاوف سابقة من ضعف الإقبال. وأبرز عدد من المتتبعين أن ما أعطى لهذه الانتخابات طابعها الحضاري والديمقراطي المتميز هو تسجيل مختلف الأطراف السياسية بإيجابية للأجواء التي مر فيها هذا الاستحقاق وعدم الطعن في مصداقيته ونزاهته. بل أكثر من ذلك "هذا السلوك الحضاري والديمقراطي" في التسليم بنتائج الانتخابات لدى الأحزاب وصل إلى حد تهنئة راشد الغنوشي للباجي قائد السبسي بفوز "نداء تونس" حتى قبل الإعلان عن النتائج الرسمية. وأضافوا أن تونس أنجحت أمس محطة تاريخية حاسمة في مسارها الانتقالي نحو وضعية الاستقرار السياسي. وكذا على المستوى الأمني من خلال توفير ظروف أمنية ملائمة حفزت المواطنين على الذهاب إلى صناديق الاقتراع بعد التهديدات التي كانت قد حذرت منها وزارة الداخلية، وذلك بعد نشر 80 ألفا من القوات الأمنية والعسكرية لتأمين السير العادي للانتخابات، ومواجهة أية مخاطر محتملة من شأنها أن تتهدد الأمن العام وأمن المواطنين. وفي هذا الصدد، أوضح الباحث منجي العيادي أن التونسيين تحدوا الإرهاب الذي كان يستهدف مسارهم الديمقراطي، وعبروا عن إيمانهم بالمسار الديمقراطي وبالثقة في المستقبل، مستفيدين مما يقع على المستوى الاقليمي، "لذلك انتصروا للوطن بدل النرجسية الحزبية". وأضفت ردود فعل الملاحظين الدوليين المنتدبين لمراقبة الانتخابات على هذه الانتخابات "مصداقية دولية" من خلال الإشادة بسيرها الطبيعي وبنزاهتها وشفافيتها، حيث أكدت بعثة جامعة الدول العربية أن هذه الانتخابات جرت "وفق المعايير الدولية في ما يتصل بمقاييس الحرية والسرية والنزاهة والشفافية". وأوضحت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي لملاحظة الانتخابات، أنمي نيتس ايتوبروك، في تصريح صحفي، أن عملية الاقتراع مرت "بشكل مرضي جدا وفي ظروف جيدة"، على الرغم من وجود بعض "الهنات" التي وصفتها ب"العادية جدا"، كما أكدت "شبكة الانتخابات في العالم العربي"، في تقريرها الأولي، أن يوم الاقتراع في تونس جرى "وفق القانون والإجراءات المعمول بها، واعتمد معايير السرية والمباشرة والشفافية، مما يؤشر لتوفر شروط الانتخابات الحرة والنزيهة" ،ومن جهتها أكدت بعثة الاتحاد الإفريقي أن عملية الاقتراع "استجابت للمعايير الدولية للانتخابات الآمنة والحرة والشفافة والديمقراطية". كما توالت ردود فعل الدول والمنظمات الدولية، مشيدة بهذا المسار الانتخابي. وهنأ الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، تونس على إجراء الانتخابات التشريعية، واصفا إياها بأنها "خطوة حاسمة من أجل مستقبل البلاد". وأضاف، في بيان نشر على الموقع الإلكتروني الرسمي لمنظمة الأممالمتحدة، أن الانتخابات التي جرت أمس "هي حجر زاوية في عملية التحول الديمقراطي". ومن جهته، وصف الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، هذه الانتخابات ب"الديمقراطية"، معتبرا أنها "مرحلة مهمة في الانتقال السياسي التاريخي لتونس"، مجددا، في بيان نشر على الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض، "التزام الولاياتالمتحدة بدعم الديمقراطية في تونس، وإقامة شراكة مع الحكومة المقبلة للاستفادة من الفرص الاقتصادية وحماية الحرية وضمان الأمن لجميع التونسيين". وأشاد وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، بحسن سير الانتخابات التشريعية في تونس، وقال، في تصريح صحفي، "بعد قرابة أربع سنوات من اندلاع الثورة التونسية أقبل التونسيون على هذا الاقتراع الحاسم الذي يدشن مرحلة تنصيب المؤسسات الدائمة والديمقراطية للجمهورية التونسية الثانية"، مضيفا "لقد حقق التونسيون تقدما تاريخيا يوم الأحد بتأكيد تمسكهم بالديمقراطية .. إنهم يثبتون أن الديمقراطية ممكنة في كل القارات وفي كل الثقافات". وتنافست في الانتخابات التشريعية 1327 قائمة، منها 1230 قائمة داخل تونس و97 خارجها، موزعة على 33 دائرة انتخابية بالداخل والخارج، بحسب إحصائيات "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات". وسينبثق عن هذه الانتخابات التشريعية أول مجلس نواب وحكومة دائمين، منذ الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، في 14 يناير2011. ويضم المجلس 217 نائبا منهم 199 عن 27 دائرة انتخابية داخل تونس، و18 نائبا عن ست دوائر خارج البلاد.