الخط : إستمع للمقال وأنا أتصفح قبل الخلود إلى النوم، مجمل الرسائل التي وصلتني على هاتفي النقال، من بعض الصديقات والأصدقاء، انتابتني حالة غير مألوفة من الالتفات العميق نحو الذات، والاهتزازات المختلفة التي شهدتها من مرحلة المراهقة الأولى إلى اليوم. استعرضت بكثير من التفاصيل عبور حياتي من حقبة زمنية إلى أخرى، وما رافق ذلك العبور، من مخزون تذكاري فيه من التنوع والتعقد، ما جعل اللوحة المرسومة، ملفوفة بضباب كثيف من التأملات في تفاصيل العمر، وكيف مرّ بكل هذه التقلبات الجاثمة على المخيلة والوجدان. أحسست ببعض الانتشاء يتملّكني كوني أنتمي إلى جيل الستينات، وهو الجيل الوحيد الذي شهدت بنيات وسمات حياته الاجتماعية والعلائقية والفكرية، تحولات بسرعة قياسية من وضع إلى وضع، لتوازي في نصف قرن، معدل التحولات التي شهدها المغرب في مئات السنين. جيل يعتبره الكثيرون الأسعد حظا، والأهْنأ بالاً، والأرغد عيشا، من كثير من الأجيال التي سبقته وحتى التي لحقته. انتقلنا نحن أبناء الستينات من البنية الاجتماعية التقليدية، بما فيها الطور البدوي المتميز بانعدام الصرف الصحي ومراحيض الوضوء، وانعدام الكهرباء والماء الشروب لأزيد من ثلثي الساكنة المغربية التي كانت تشكل البادية آنذاك، إلى نمط عيش جديد وبنية عائلية مُتمدّنة في أكثر من مجال. انتقلنا من الناحية الهندامية، من الجلابيب والرزات والطرابيش المختلفة التي كانت تنتصب فوق رؤوسنا كرمز للهوية والشرف عند بعضنا، وكعنوان للأناقة والاحتماء من البرد والحر، عند البعض الآخر. انتقلنا من هكذا هندام، إلى البذلة العصرية، ومعها الكوستيم وربطة العنق، والسروال الموحد اللون بقصّات رجولية محتشمة، سيتوارى تدريجيا ليحُلّ محله، مع بروز جيل الألفية الحالية، سروال الجينز الذي تفنن مصممو الموضة في أن يجعلوه أكثر نزولا إلى المؤخرة، حتى وأنت ترقب ذلك البنطلون، تخشى أن يقع من على خاصرة كثير منهم. فالموضة تقتضي أن يظهر جزء من التبّان حتى يمارس سلطة اجتذابية غالبا ما تكون مرفقة عند هؤلاء الشباب، بالعناية الدقيقة بالوجه والشعر والحواجب، وكل مستلزمات الإطلالة الذكورية المكتملة. عايشنا من الناحية العلمية نزول الآدميين على سطح القمر، والابتكارات العلمية والتكنولوجية المُبهرة، على رأس كل دقيقة، ومعها النجاحات الطبية التي وفرت لنا أنجع الأدوية والعقاقير، فيما كان من سبقونا، يتداوون بالكَيْ وبول البعير. نستحضر من الناحية التربوية والتعليمية، نحن تلامذة الستينات والسبعينات، عصا المعلم المصنوعة من الخيزران، وتسابُقنا لكسب وُدّه ورِقّته، بعد أن يرسخ فينا ثقافة الاستماع.. شهدنا مع تعاقب الأجيال، كيف توارت قيم التوقير والانضباط للمعلم، ونزوحه إلى إنهاء الحصة بخير، بعد تحمّله أسوأ درجات المهانة، من خلال المشاغبة والتمرد المتعمدين، ناهيك عن اعتراض سبيله إن سجل نقطة أو ملاحظة سيئة في دفتر التلميذ.. تشبّعنا بقول الشاعر أحمد شوقي: "قم للمعلم وفّه التبجيلا"، وقد نظم على منواله الشاعر إبراهيم طوقان، في بداية الألفية الحالية، قصيدة تهكّمية ساخرة، يقول في مطلعها: قم للمعلم يا بُني عجولا// واضربه حتى يرتمي مقتولا هاجمه بالكرسي واكسر رأسه// ثم اشهر له الساعد المفتولا تربينا صغارا على الأصول والاستقامة، وكانت إشارة واحدة من أمهاتنا تعيدنا إلى جادة الطريق.. ذاكرتنا الطفولية فارغة، تملؤها الحكايات الشعبية التي ترويها لنا الجدّة قبل النوم، وكنا نكوّن بها وجداننا كأطفال، ولا يمكن لأية وسيلة أخرى آنذاك، أن تنفذ في غربال الأذن المتعودة عليها. فيما ذاكرة أجيال الألفية الحالية شبّت وترعرعت في أحضان التكنولوجيا، والإنترنيت، وبلاي ستيشن، والهواتف النقالة التي أصبحت نواة فكرهم، تحاصرهم من كل جانب. كان جيلنا لمن عليه أن يتذكر، شغوف إلى حد التخمة بالقراءة والاطلاع والمعرفة. فلا فترة نكوص أو نفور له من الكتاب، الذي به تقاس درجة الحضارة لدى الأمم، حيث أمة لا تقرأ، لا يمكن أن تكون إلا ساذجة التفكير، معطّلةً عن الإبداع وعاجزة عن التغيير. كان الراديو في بداية شبابنا هو المؤنس والصديق في آن واحد. وكان له مفعول السحر في الارتقاء بأذواقنا وصقل طباعنا، إلى أن جاء زائر جديد، يصغره سنا ويكبره حجما وتألُّقا اسمه التلفاز، ليحدث ثورة في العلاقات الإنسانية والعائلية، بفتحه نوافذ بالصورة والصوت، على عوالم مستنبتة من صميم بيئتنا الثقافية والفنية والاجتماعية، من موسيقى وطرب ومسرح ورياضة وفنون مختلفة، بالإضافة إلى النشرات الإخبارية المفصلة، وسهرات السبت التي كانت تجمع في بيت واحد جمهور غفير من الأصدقاء والأقارب. عشنا زمن الهواتف الثابتة، ثم الهواتف الذكية، واقتنينا شريط الكاسيت الذي يباع على العربات المتنقلة في الأسواق. قبل اقتنائنا الأقراص المدمجة، وجهاز التسجيل الذي كنا نستمع فيه للطرب الأصيل، بحس أكثر متعة من سماع الطرب الآني الرديء، والأصوات السوقية القبيحة على MP 3. عايشنا الإعلام التقليدي والورقي والإلكتروني والرقمي والمجاني، في آن واحد. كان البرّاح في فترة من فترات حياتنا وسيلة ناجعة لإيصال المعلومة الرسمية لأهل البادية في الأسواق الأسبوعية، قبل تناقلها من جماعة إلى جماعة، في غياب وسائل الإعلام الحديثة. وكان الحلاق يقوم بنفس الدور في أحياء ودروب المدينة. عشنا سياسيا ملحمة المسيرة الخضراء التي استرجعنا بموجبها أقاليمنا الجنوبية، وقبلها تخليص منطقة إفني من القبضة الإسبانية (1969). وعشنا عربيا إرسال القوات الملكية المغربية لجبهة سيناء، واختضنا القمة العربية (1974) التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وبعدها شهدنا حركة حماس، تخرق هذا القرار مرات ومرات، وتقرر وحدها الحرب والسلم مع إسرائيل. عشنا نحن جيل الستينات، مشهدا دينيا قمة في النبل والتسامح والانفتاح، على يد نخبة من كبار العلماء المعتدلين الوسَطيين، وعشنا أيضا الإسلام المُتزمّت المُظلم، وقد حمل يافطته أيمن الظواهري، وأبو بكر البغدادي، وأبو مصعب الزرقاوي وغيرهم، ثم الإسلام السياسي المغربي القائم على تزوير الوعي، وبيع الكذب والدجل للمغاربة، ويرعاه اليوم البيجيدي، الذي أذهل المغاربة ببيان رسمي ساقط ومُتعفّن، ربط فيه زلزال الحوز المروع، بالمعصية التي ارتكبها أهل المنطقة بعدم تصويتهم على حزب اللحي الذي كان سيجنبهم غضب الله. عشنا، وعشنا، وعشنا، وما زال أبناء جيلنا ممن أطال الله في عمرهم، يكتبون صفحات مضيئة في دفترهم السبعيني الجميل.