يبدو أن الذكورة المؤنثة أو على الأقل الرجولة المغشوشة، آخذة في اكتساح مظاهر الحياة في باريس بعد أن أطلت موضة الأزياء الرجالية في السنة الأخيرة بتصاميم وأشكال تلامس الأنثوية في مظهرها، وتتمرد في جوهرها على الأنماط الملبسية التقليدية التي ترمز إلى شيء من الحياء والرجولة.. دور الأزياء الباريسية ترفض اليوم اجترار الصور الهندامية المألوفة، وتصر على أن تعطي للشباب أنوثة يافعة ونعومة جسدية متدفقة تحسدهم عليها الفتيات. فحينما يأخذك قسط من الراحة للتجوال في أحياء باريس، راقية كانت أم شعبية، ينتابك الشعور أن شريحة واسعة من شباب المدينة تلقت الصرخة الموضوية الجديدة بزهو وانشراح كبيرين، بعد أن تخلت عن كل ما يرمز للرجولة «الخشنة» التي تمسك بها الآباء السذج. تبدو المسألة للوهلة الأولى مستغربة، لكن الواقع هو أن طائفة من الشباب، الأثرياء منهم والفقراء، لم تعد تكتفي بمنافسة الفتيات في رعاية البشرة واستحداث التسريحات «البناتية» المختلفة، بل تجاوزت ذلك إلى الإغراءات الجسدية، حيث تحدثك الأساور والخواتم والألبسة الضيقة التي تظهر معالم الجسد والوشم على الصدر وعلى جانب المؤخرة عن شذوذ صارخ وأنوثة تدعو إلى الرثاء. فوداعا للسروال الموحد اللون بقصّات رجولية محتشمة، ووداعا للبذلة الكلاسيكية والقميص الأبيض العادي، وأهلا بالبنطلون بالقصّات المختلفة والألوان العصرية الزاهية، وبالقمصان المفتوحة ثلاثة أرباع أزرارها. ومرحبا أيضا، وهنا بيت القصيد، بسروال الجينز الذي تفنن «علماء» الموضة في أن يجعلوه هذه المرة أكثر نزولا إلى المؤخرة من ذي قبل، حتى وأنت ترقب ذلك البنطلون، تخشى أن يقع من على خاصرة كثير منهم. فالموضة تقتضي هذا الفعل وتشترط أكثر من ذلك أن يظهر جزء كبير من التبان (سليب) حتى يمارس فعل الإغواء سلطة اجتذابية أقوى، تماشيا مع المقولة الفرنسية «الخصر هو بوصلة الجاذبية». ولذلك تجد في خلفيات الشباب الباريسي بساتين من الألوان الربيعية (وردي، برتقالي، توركوا...) المتماشية مع لون التبان المطرز أحيانا برموز وعلامات اجتذابية كالقلب أو الشفاه أو العيون النائمة، وكلها علامات تقوم عند البعض على إشباع العين لتعشق قبل مرحلة الغزل والتعارف، وعند البعض الآخر على استظهار المفاتن وممارسة جاذبية أقوى نعومة ودلالا من الفتيات، لا سيما وأن عملية الاجتذاب تكون مرفوقة بالعناية الدقيقة بالوجه والشعر والحواجب والأظافر وكل مستلزمات الإطلالة المتكاملة. والملفت أن ارتداء البنطلون السائب أو المسلول لا يقتصر على أصحاب الأجسام الرشيقة، فهناك ممن لحقوا بهذه الموضة وأجسادهم تحمل من البدانة ما يجعل شحومهم تنسل على جنبات التبان بشكل يجعلهم أضحوكة مكتومة بين الناس، وهم لا يجدون في ذلك أدنى حرج لفرط تعلقهم بالموضة الأنثوية الملعونة. سألت صديقي نوربير كازار، وقد تخلى قبل سنتين عن عمله كصحفي بوكالة الأنباء الفرنسية ليتفرغ إلى تنظيم وتعهد الحفلات الكبرى، عن سر هذا التعلق الذي ينحو بدون سابق إعلان إلى القطيعة مع كل مظاهر الرجولة والاحتشام، فأفاد معرفتي بأن السروال ذا الخصر الواطي ظهر في بعض سجون الولاياتالمتحدةالأمريكية كفعل تمردي على الأوضاع الاعتقالية، ثم اقتنصت دور الأزياء العالمية هذا الفعل المرفوض، فحولته إلى موضة يتهافت عليها شباب العالم، قبل أن تضفي عليه لمسات إغرائية قوية، عندما صممته إلى حد نصف المؤخرة. «ولن تفاجأ إذا قلت لك أن مصممي الأزياء تراودهم حاليا فكرة العودة إلى الجينز التقليدي مع ثقب دائري في المؤخرة يكشف التبان بكامله. وأخشى، في ظل العولمة المتوحشة، أن تدخل ما تسميه أنت مظاهر الرجولة والتوقير في طي النسيان أو في خانة المبادئ الماضوية الغبية». كلام نوربير، وإن كان فيه شيء من المبالغة، قد يكفيني عناء الغوص في جنون الموضة الذكورية التي توسعت لتشمل مستحضرات التجميل بمختلف أنواعها من تسريحات أنثوية للشعر واعتناء بالعيون والحواجب ورعاية بالبشرة تعطي لصديقنا الرجل المظهر الأنثوي المكتمل، بعد أن أنفق أوقاته واهتمامه في رصد ومتابعة مستجدات الموضة باريسية كانت أم عالمية. ويدعونا هذا الواقع الذي تبدو تأثيراته واضحة في الوسط الاغترابي إلى طرح أسئلة، قد لا نجد لها إجابة، حول دلالات هذه الموضة المميعة وعمقها الثقافي والاجتماعي. هل هي موضة آنية سترمى قريبا في مزبلة الماضي، أم أنها متجذرة في عمق المجتمع الغربي وتلقي بتداعياتها السلبية على شبيبتنا التي لا تملك من وسائل المناعة والتحصين إلا القليل. كل المؤشرات تدل على أن الذكورة المؤنثة آخذة في التأصل، يشجعها في ذلك اصطحاب الأمهات أطفالهن إلى المجالس النسائية التي يتلقن فيها الطفل بسهولة حركات النساء وأسلوبهن في التجميل، فينفرد لوحده ويحاول التزين بأدوات الماكياج وتقليد النساء، ويكبر الطفل وتكبر معه القابلية إلى الانتماء إلى جنس الأنوثة. وليس من قبيل الاستغراب أن تصادف غير ما مرة شبابا بمكياج أنثوي وحواجب محلقة يخاطبون بعضهم البعض باسم البنات، ويتدلعون مشية نحوك لطلب الولاعة وإهدائك قبلة هوائية قبل الانصراف. فالمشهد مألوف في الشوارع والأحياء الباريسية حتى إن هذه الشريحة انصهرت في صميم المجتمع وتمكنت بحكم حق الاختلاف وسيادة مبادئ التسامح، من استقطاب الكثير من الأنصار والانتظام في أوعية جمعوية تعرف بهم وتصون حقوقهم. وإذا كانت الموضة الذكورية بنشازها الصارخ قد اكتسحت الفضاء الملبسي الفرنسي، فإن ما يشفع لدور الأزياء أنها لا تتوقف عند تقاليد أو قناعة بعينها، بل تسعى إلى تلبية كل الحاجيات والأذواق. فبعد النجاح الذي لاقته موضة الأزياء التي حملت اسم «حلال»، والتي صممت من أجل أن تناسب التقاليد الإسلامية لمسلمي فرنسا، إثر الجدل الذي شهدته فرنسا بشأن ارتداء الحجاب في المدارس والمؤسسات الحكومية، طرحت إحدى شركات تصميم الأزياء في السنة الماضية مجموعة من سراويل الجينز «الإسلامية» صممت لتتناسب مع أداء فروض الصلاة. والسراويل هي واسعة الخصر ويسهل على من يرتديها السجود أثناء الصلاة، وقد نسجت من خيوط خضراء مستوحية دلالة اللون الأخضر عند المسلمين. وبينما بيع منها ما يزيد عن خمسين ألف سروال في السوق الفرنسية، فإن دور الأزياء غير متأكدة من أن يلقى هذا النوع الجديد من السراويل رواجا لدى غير المسلمين بالرغم من أنه لا توجد رسائل سياسية أو دينية بمفهوم سلبي وراء هذا المنتوج.