وضع المغرب بإشراف مباشر من الملك محمد السادس البرنامج الاستثماري الأخضر الجديد للمجمع الشريف للفوسفاط (2023 -2027)، ووضع له أهدافا مدققة في الزمن والمكان، وبرنامجا مرقما من حيث التطلعات الطاقية والمناخية.. والواضح أن البرنامج الجديد يأتي ليرتقي بالموقع المغربي في مجال الأسمدة الفوسفاطية إلى مرتبة متقدمة أكثر، بعد أن كان خلال الفترات السابقة قد تمكن من ترسيخ مكانة المجموعة بقوة في سوق الأسمدة، «حيث تضاعفت قدرات إنتاج الأسمدة ثلاث مرات، مما جعل المجموعة اليوم أحد أكبر منتجي ومصدري الأسمدة الفوسفاطية في العالم» كما ورد في بلاغ الديوان الملكي.. هذا الموقع الجديد، يترجم في الحقيقة موقعا جيوستراتيجيا في العالم اليوم، في سياق تحولات عميقة، بعضها متوسط المدى تسببت فيه كورونا والحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا، وبعضها بعيد المدى له علاقة بالتغيرات المناخية والانتقال الطاقي وانعكاساتها على التغذية في العالم، الذي يحظى فيه المغرب بالمرتبة المركزية، إن لم نقل أنه أصبح في قلب الكرة الأرضية ضمانا للغذاء!... المعطيات الإحصائية تقول بأن المغرب يتوفر على احتياطي يبلغ 70 ٪ من فوسفاط العالم، وهو على المستوى الدولي المنتج الثاني بعد الصين.. والمنتج الأول إفريقيا. بالرغم من مرتبته الثانية عالميا فقد جعل لنفسه موقعا رياديا في توفير الأسمدة للعالم، بحيث أنه يوفر 31٪ من حاجيات السوق الدولية. وتبين من خلال أزمة الحرب أن الحصة المضمونة لروسيا وبيلاروسيا تعرضت للتعطيل بفعل العقوبات المفروضة على الدولتين، وأن ذلك الفراغ من المنتظر أن يملأ المغرب جزءً مهما منه، بمعنى أن نسبته من السوق الدولية مرشحة للارتفاع، مع تزايد الضغط على سلة العالم الغذائية. كما أن المغرب يستبق الأزمة المحتملة في مجال الأسمدة بفعل عوامل كثيرة، منها التوترات الدولية ومنها انقسام العالم من جديد إلى قوى باحثة عن النفوذ، ثم بفعل ارتفاع ساكنة العالم (8 ملايير نسمة منذ السنة الحالية)، وهو ما يجعل الغذاء أحد مواضيع الصراع الإضافية إلى لائحة الحروب، التكتيكية منها والاستراتيجية الموجودة حاليا، والمغرب يدرك بأن عليه واجبا إزاء البشرية، وإزاء إفريقيا في المرتبة الأولى التي تعاني بالفعل من آثار أي نزاع دولي أو وباء يشل حركاتها. وفي سياقات أخرى استعملت الكثير من الدول، ومنها دول إفريقية وأخرى شرق أوسطية أزمة النفط والغاز كأدوات حرب، تمارس بها الضغط لأجل مواقع سياسية ولو كانت ظالمة. وقد قرأنا عن «استعمال المغرب للفوسفاط كورقة ضغط سياسية». والحال أن المغرب واضح في ربط الشراكات، وليس المواد الطبيعية وحدها بالموقف من قضيته الوطنية، ولكنه لا بد من أن نسجل نقطتين أساسيتين وهما: أولا: لقد أقام المغرب علاقات ديبلوماسية عبر الفوسفاط (ديبلوماسية الفوسفاط) مع الكثير من الدول والتي كانت تعارض مصلحته الوطنية في قضية الصحراء، ولعل النماذج الأساسية هي إثيوبيا ونيجيريا. حيث أنهما تحتضنان مركبات فوسفاطية باستثمار يقارب 4 مليارات من الدولارات على مدى متوسط من ثلاث سنوات. ثانيا: منذ المرحوم الحسن الثاني كان المغرب يُعرِّف السياسة بأنها شبيهة الفلاحة ولا بد من أن تزرع وتنتظر الظروف، وهنا نجد المغرب منذئذ قد أنضج ثمار سياسته وديبلوماسيته بتخصيب حقول الآخرين وليس تربته هو. وإذا كان يحق له بأن يستعمل الفوسفاط سلاحا للدفاع عن وحدته الترابية فإنه مع ذلك لم يستعمل هذا الحق.. في خدمة الباطل بل هو حق يريد منه حقا. ومع ذلك، فقد اختار أن يقتسم ثروته الوطنية من أجل إطعام العالم. ولعل التجربة التي يخوضها المغرب اليوم مع دول في الشرق أو في أوروبا أو في إفريقا، كرهان له الأولوية، خير دليل على هذا التوجه. ويمكن الجزم بأن أول مجال استعمل فيه المغرب «التخصيب» الذي توحي به الأسمدة الفوسفاطية هو ذكاءه الجماعي..! إذ أنه فهم ببصيرة سامية وتطلع نبيل إلى أن ما يملكه من ثروة يجب أن يُستعمل بذكاء يفيد البشرية ويجعلها تقيم المقارنات اللازمة بين حكامته الرشيدة وبين الابتزاز الجيوستراتيجي الذي يمارس باسم الغاز والبترول (وقد كان هو نفسه عرضة لذلك ).. وإذا أخذنا موقعه الثاني بعد الصين فقد يتبادر إلى الذهن أن المنافسة هي التي ستطبع العلاقة بين الدولتين في مجال التنافس الدولي، والحال أن الشراكة في هذا الجانب ولا سيما العلمية والمختبرية هي التي تجمعهما معا.. والمراد من إثارة هذه العناصر، هو القول بأن هناك جيوسياسية في خدمة مخزون البشرية من الغذاء وتأمين هذا الأمن الغذائي.. ويدرك صاحب القرار في المغرب، أن الأمن الغذائي المغربي جزء من الأمن الغذائي العالمي، وعليه فإنه مطالب بالعمل على تحرير صناعته الفوسفاطية، الأسمدة بالخصوص، من تأثير الطاقات الأحفورية التي ترفع فاتورة استهلاكه لتحريك الصناعات المعنية، في كل مجالات استعمال الفوسفاط. ونعني بذلك تحرير الصناعات التحويلية للفوسفاط من الحاجة إلى الطاقات التقليدية. ومنها التحرر من التبعية لاستعمالات «الأمونياك» في استخلاص الأسمدة والهيدروجين الأخضر هو الطريق إلى ذلك، لهذا كان شعارا مركزيا في البرنامج الاستثماري الأخضر. ويضاف إلى ذلك تطوير الاحتياطي الضخم من الطاقات المتجددة وتعويض الطاقة المستوردة بالهيدروجين الأخضر.. مع الوفاء بالتزامات المغرب مع العالم وإفريقيا في طليعته. كما هو الحال دوما، فالمغرب لا يمكن أن يضع طعاما على مائدة العالم.. في جو مختنق يخنق بدوره الإنسانية! ..