من حسن حظ جون واتربوري وريمي لوفو ووليام زارتمان وبرنار كوبيرطافون، وغيرهم من الأجانب الذين درسوا النسق السياسي المغربي في تمفصلاته الداخلية، أنهم أنجزوا دراساتهم السوسيولوجية والسياسية لنظام المخزن المغربي قبل أن يبتدع المعطي منجب وبوبكر الجامعي وخالد البكاري وفؤاد عبد المومني مفهوم "الميثولوجيا الشعبوية" كمدخل (للتجني والتجاسر) وليس (لفهم) نظام الحكم بالمغرب. ولعل أيضا من حسنات عدم جماهيرية برنامج "المغرب في أسبوع"، أو"الأقلية" كما عبّر عنها خالد البكاري بكثير من الحنق المستتر، هي أن سطحية هذا البرنامج وإسرافه في البعد الميثولوجي ظل حبيسا في عدد محصور من المتابعين ورواد الشبكات التواصلية، ولم ينفذ لعدد كبير من الناس، وإلا فإن الفضيحة كانت ستكون ب"جلاجل" كما يقول إخواننا في صعيد أرض الكنانة. مداهنات.. المعطي منجب ترقّب العديد من المتتبعين أن تكون مداخلة المعطي منجب "حبلى" بالزخم التاريخي لمدلول المخزن عبر عقود التاريخ المتلاحقة، خصوصا قبيل عهد الحماية الفرنسية وإبانها وغداة الاستقلال، وهي الفترة التي تميزت ب "دسترة الإرث المخزني من طرف المخزن الجديد"،حسب وليام زارتمان، واتسمت كذلك "بدمج ممارسات سياسية تقليدية بأخرى حديثة ممثلة في قانون مخزني تاريخي يشتغل بطقوس ورمزيات عتيقة، مع قانون دستوري فرضته لحظة الحماية، لحظة الاحتكاك مع الغرب" وفق ريمي لوفو في كتابه "الفلاح المغربي..المدافع عن العرش". وقد اعترى هذا "الترقب المشوب بالتطلع للمعرفة" الكثير من المهتمين والمتابعين الذين كانوا يظنون أن المعطي منجب "مؤرخ حقيقي"، وأنه"ضحية مفترض بسبب أفكاره"، لكن سرعان ما وجدوا نفسهم أمام شخص "يداهن ويدجن" التاريخ بكثير من الشعبوية وبقليل من التدقيق والتحري في الوقائع المجتمعية. وكانت أولى "مداهنات" المعطي منجب هي عندما اعترف صراحة بأنه "اصطحب معه مجموعة من الحقوقيين إلى مطار الرباطسلا عند عزمه السفر نحو إسبانيا". فهذا التصريح يناقض بشكل قطعي ما جاء في تدوينته الطويلة المنشورة مساء يوم الثلاثاء 11 أكتوبر الجاري والتي ادعى فيها (بنبرة المواراة) بأن "خديجة الرياضي ومحمد رضى وبقية الرفاق التحقوا به في مهمة تضامنية بعد منعه من السفر ". فالذي يكذب في مجريات التاريخ الراهن، الذي نجايل ونعيش وقائعه اليوم، لا يمكن أن يؤتمن على الأحداث والمؤسسات الغابرة أو الضاربة في عمق التاريخ. ولم يكتف المعطي منجب بهذا القدر من "الافتراء"، بل ادعى أن تهديده بالإضراب عن الطعام بشكل حصري ومتزامن في شهر أكتوبر من سنة 2021 وسنة 2022 كان مجرد صدفة تاريخية! وقد نصدق المعطي منجب إذا كانت الصدفة تكررت مرة واحدة، أما وإنها تكررت في شهر أكتوبر من سنة 2015 و 2020 و2021 و2022 فإنها أصبحت "حالة العود" وليست مجرد صدفة! فالأمر بات أقرب إلى تخليد موعد سنوي للوعيد والتهديد بالإضراب عن الطعام. وإمعانا في تحريف الوقائع وتزييف الحقائق، زعم المعطي منجب بأن الدولة المغربية حرمته من الرجوع إلى وظيفته بعد انتهاء أمد "استيداعه الوظيفي"! وهذا الادعاء كان ينشد تغليط الرأي العام في محاولة لتثبيت وصف "الضحية" على المعطي منجب. لكن ما يجهله أو يتجاهله عمدا هذا الأخير، هو أن الفصل 73 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، الذي يسري على جميع الموظفين بمن فيهم المعطي منجب، ينص في فقرته الأخيرة على ما يلي " غير أن الموظف إذا أجريت عليه متابعات جنائية، فإن حالته لا تسوى نهائيا إلا بعد أن يصير الحكم الصادر عليه من المحكمة التي رفعت لها القضية، نهائيا". فرجوع المعطي منجب للوظيفة مرتبط اليوم بحكم العدالة وليس بقرار الإدارة! هذا هو القانون الذي يسري على جميع الموظفين، حتى وإن هدّد أحدهم بالإضراب عن الطعام. وفي سياق آخر، ادعى المعطي منجب في معرض حديثه عن التاريخ أن "التجار"هم أداة من الأدوات أو المرتكزات الأربعة التي كانت تتقاضى أجرا من السلطان أو القائم على دار المخزن بغرض بسط نفوذه! فهل يدرك المعطي منجب بأن كلامه هذا يشغل فيه "العبث واللامنطق الحيز الأكبر إن لم يكن الحيز كله". فالتجارة إن كانت بأجر من السلطان فهي تنتقل إلى "الإجارة" وتبتعد عن إطارها "التنافسي الإئتماني". وفي الأخير، فلولا مكرمات "ضعف صبيب الأنترنت" عند المعطي منجب لأتحفنا بكثير من الهزليات والسرديات الميثولوجية بخصوص نظام المخزن، الذي عدّد "برنار كوبيرطافون" مرتكزاته في البيعة (التي هي ميثاق متجدد يزاوج بين الخضوع والمفاوضة) وجهاز المخزن، ثم الشرعية الدينية والتاريخية بشقيها التقليداني والكاريزماتي. خالد البكاري.. والبلطجة الحقوقية تجَرّد خالد البكاري من "الدماثة المفترضة في الحقوقيين" وانبرى يهاجم بشدة، وبغضب مطبق، من يتحدثون عن حياته الخاصة في المواقع الصحفية. وربما نسي خالد البكاري أن تلك هي "ضريبة العمل الحقوقي"! ألم يسوغ هذا الأخير إهانات سعيدة العلمي لرجال الأمن بعدما وصفتهم " بأبناء العاهرات والقواويد والجرذان والميليشيات..."؟ ألم يعتبر هذه الإهانات هي "ضريبة المسؤولية"، وطالب الأمنيين بتحمل نعث أمهاتهم "بالعاهرات" لمجرد أنهم يتقاضون أجرا بسبب ما قال أنه "عبء المسؤولية" ؟ وكأن المنصب أو المسؤولية يجبان الكرامة ويمحونها من الوجود!!! ألم يستحضر خالد البكاري (كذلك) كلامه عندما كان يُبرّر السب والقذف والإهانة المؤسساتية والشخصية بدعوى " أن تلك الكلمات في المجال التداولي للسياسة لا تحتمل المعاني نفسها في المجال الجنائي أو حتى في المجال الأخلاقي"؟ فلماذا يمتعض ويشتاط اليوم غضبا من مجرد التداول الإعلامي لحياته الخاصة؟ ولماذا تدثر ب"التسلكيط" وشرع في ازدراء المنتقدين الذين طالما "تهجم"عليهم وأسدل عليهم أوصافا لا تليق بالصحافيين ولا الحقوقيين. وبغض النظر عن "البطلجة" التي بصم عليها خالد البكاري في مداخلته، فإن كلامه عن المخزن ظل حبيس الميثولوجيا ومرادفا للضبط الاجتماعي فقط. فالرجل يتمثل المخزن في وظيفة واحدة هي " وأد التمردات وإخضاع القبائل"! وقد استدل على كلامه الشعبوي هذا بالتقسيم الجغرافي لمناطق النفوذ في فترة من فترات التاريخ المغربي عندما كان "الزطاط" هو وسيلة التواصل بين مناطق السيبة ومناطق المخزن. وربما يجهل خالد البكاري، المفروض فيه البحث والتقصي قبل الخوض في مواضيع مركبة وشائكة، أن فهم تقاطعات المخزن هو أهم من فهم كينونته وماهيته. ولعل هذا ما عبّر عنه جون واتربوري في أطروحته لنيل الدكتوراه تحت عنوان " أمير المؤمنين..الملكية المغربية والنخبة السياسية". ففي هذا الكتاب الذي يعد من كلاسيكيات ومرجعيات العمل السياسي بالمغرب، يقول هذا الباحث الأمريكي المرموق "كنت متفاجئا من أن معظم الأشخاص في الساحة السياسية كانوا في مرحلة من المراحل داخل نظام المخزن ويفهمون طريقة عمل هذا الجهاز". فالقدرة على الاستقطاب والعمل في ظل المخزن، والاحتكام للسلطان، هي أدوات المخزن الحقيقية وليس "تمثلات الأسطورة" التي حاول برنامج "المغرب في أسبوع"تصريفها بكثير من النزق الشعبوي. بوبكر الجامعي.. حقوقي ثيوقراطي "كفاني فيك يكفوني".. ربما هي أصدق عبارة لوصف انحطاط بوبكر الجامعي وهو يحاضر بجهل في أمور العامة. فالرجل انتحل جبة الدبلوماسي المخضرم وحاول إعطاء الدروس للمغرب حول "ولاية اللجنة الرابعة للأمم المتحدة"، بل إنه استهجن حضور المغرب أشغال هذه اللجنة لمناقشة قضية الصحراء المغربية. ولولا أن "أستاذية" خالد البكاري تدخلت بسرعة لترميم شظايا الجهل المتطاير من فم بوبكر الجامعي لقلنا له بصوت عال "يكفينيا فيك يكفوني". فالرجل يجهل تماما أن المغرب هو من أدخل قضية الصحراء للجنة الرابعة باعتبارها جزءا مستعمرا من أراضيه من قبل الدولة الإسبانية. أكثر من ذلك، توهم بوبكر الجامعي أن المغرب إنما دخل أشغال اللجنة الرابعة للأمم المتحدة لشغل "المقعد" وعدم تركه شاغرا، وليس للذود عن وحدته الترابية. ومن فواجع بوبكر الجامعي التي تزاحم بعضها البعض، مثل النابيات الحقوقية التي ابتلينا بها، أنه حاول القيام بإسقاطات "الثيوقراطية" الأوروبية في العصر الوسيط على نظام المخزن المغربي! فالرجل تجسم المخزن في ذلكم "الحاكم الديني المطلق"، دون أن يعي بأن البيعة والشرعية الدينية هي واحدة من تمظهرات الحكم وإمارة المؤمنين، وليس التجلي الوحيد لنظام المخزن كنسق سياسي يزاوج بين عدة فاعلين ومتدخلين وفي طليعتهم السلطان. والذي يجهله أيضا بوبكر الجامعي، ومن معه، أن نظام المخزن عرف تطورات كبيرة وتجاذبات سياسية متعددة في مختلف الحقب والسياقات التاريخية منذ عهد الموحدين وإلى غاية اليوم. والتمظهر الديني لم يكن سوى واحدا فقط من مرتكزات المخزن، إلى جانب فاعلين آخرين متعددين مثل الزوايا والشرفاء في عهد السعديين والأعيان والملاك والنخب السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال، علاوة على رجالات الإدارة والضبط الاجتماعي...الخ. ولعل هذا ما جعل الأستاذ عبد اللطيف أكنوش يصف الدستور والنظام المغربي عموما بأنه يتكون من طابقين: طابق علوي يمثل روح الغرب، وطابق سفلي يجسد عمق الموروث التاريخي. فؤاد عبد المومني.. ودبلوماسية "الحواري" يعتقد فؤاد عبد المومني أن تدبير العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا يتم بلغة "الحواري والمقاهي والأرصفة".فالرجل لم يخجل وهو ينسب للمغرب تراجعه عما ادعى أنه "التنازل" النهائي لإسبانيا عن سبتة ومليلية، وذلك بسبب ما قال أنه " موقف بيدرو سانشيز الضبابي من قضية الصحراء المعبر عنه في كلمته أمام أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة". وقد يبدو هذا الكلام غير منطقي! ومع ذلك فقد قاله فؤاد عبد المومني بطريقة سمجة عندما ادعى بأن المغرب نفى وجود حدود برية فاصلة مع إسبانيا، كرد فعل منه على تدبدب موقف إسبانيا من الاعتراف الكامل بقضية الصحراء المغربية. والذي ينبغي أن يستوعبه فؤاد عبد المومني هو أن موقف المغرب بشأن "الحدود البرية مع إسبانيا" كان أمام أشغال مجلس حقوق الإنسان، ردا على مزاعم وادعاءات حول أحداث الهجوم المدجج على معبر مليلية من طرف المهاجرين غير النظاميين. والذي يجب أن يدركه فؤاد عبد المومني كذلك هو أن مواقف الدول الحقيقية تدون وتؤرشف للتاريخ! لأن التاريخ يحتفظ فقط بالوثائق والمحررات وليس بالتصريحات المفعمة "بالدسم" الدبلوماسي أحيانا . ومن هذا المنطلق، "فقد سجل المغرب موقفه الرسمي في وثائق مجلس حقوق الإنسان ليبقى ضمن تواتر السوابق التاريخية". لكن المثير للدهشة أكثر في كلام فؤاد عبد المومني هو عندما شرع في الحديث عن "كلفة" التغيير مع تعداد "التوافقات"التي يعتبرها مدخلا لإحداث هذا التغيير! فالرجل ينصب نفسه قائدا لمجلس الثورة، ويتوهم أنه فاعل أساسي في النسق السياسي المغربي، بل ويعتقد واهما بأن نشر مقال في الواشنطن بوست أو صدور مقرر أممي هو بمثابة "التباشير الأولى للثورة المنشودة". وهنا، ولتعميم المعرفة وتبديد الجهل، نحيل فؤاد عبد المومني على ما كتبه جون واتربوري في خلاصاته حول سوسيولوجيا النظام السياسي المغربي عندما قال "المغرب يعيش باستمرار (..) في جو من التوتر السياسي الحاد دون أن تنطلق حركة ما في أي اتجاه كان. توجد التشكيلات السياسية باستمرار على شفا المواجهة في ما بينها، أو مع القصر، لكن نادرا ما تنفجر الصراعات المفتوحة". وإمعانا في التحليل، أجرى هذا الباحث الأمريكي الشهير مقارنة بين الأنظمة السياسية في شمال إفريقيا خلص فيها إلى التأكيد على ما يلي: "في مصر، كان الجميع يتحدث عن التعبئة الاجتماعية والتغيير البنيوي نحو الاشتراكية. وفي المغرب وجدت أن كل شيء مختلف، فهناك تعددية كبيرة وصراع محموم بين المكونات السياسية المختلفة، بين عرب وأمازيغ ويمين ويسار وبين العروبيين والفرنكوفيين. في المجمل، كان المزاج العام والقاموس السياسي في المغرب مختلفا تماما عن ذلك الذي عهدته في مصر. لقد فاجأتني هذه الحقيقة. فقد وجدت في المغرب نظاما متعددا، يشهد احتكاكا وصراعات لكن يتسم أيضا بنوع من التوازن والاستمرارية. وهنا بدأت أفهم أن النظام المغربي يشتغل بهذه الطريقة: نظام متعدد في ظل مكونات سياسية تتصارع فيما بينها في احتكاك دائم، لكن دون أن يصل إلى مرحلة الأزمة الكارثية". فهل بعد هذا الكلام، الصادر عن باحث مرموق في العلوم الاجتماعية والسياسية، والذي تم تحيينه في سنة 2014 من قبل صاحبه جون واتربوري، سيبقى فؤاد عبد المومني يردد مجددا أسطوانة "الأزمة الكارثية والتغيير"! أم أنه سيعرف حجمه الحقيقي.. ككائن افتراضي يقاوم النسيان ويزجي العطالة في برنامج مغمور للأقلية، لا يصمد دقيقة واحدة إن ارتآى مارك زوكربيرغ، مالك شركة ميتا، حجبه في يوم من الأيام بسبب مخالفة قوانين النشر! فمن يتحكم مالك فايسبوك في نشاطه وحياته وشعبيته وفي سكناته وتحركاته .. لا يمكنه أن يتجاسر على بلد ونظام متجذرين في التاريخ! هذا هو نظام المخزن الحقيقي العصي على فؤاد عبد المومني وباقي الرفاق.