دمنات للذين لا يعرفونها ، مدينة أو بالأحرى قرية كبيرة رابضة منذ الأزل على صدر سفح من سفوح الأطلس الكبير، و لا يعرف بالضبط متى استوطنها الإنسان رغم ما يقال وما كتب هنا وهناك مما لا يعتد به في غياب دراسات علمية تقطع الشك باليقين . وما يهمنا في هذا الباب هو أن دمنات قفزت من قرية مغمورة ومنسية إلى علم مشهور يتصدر الأخبار والتقارير والمراسلات وقصاصات الأنباء على الأقل في الشبكة العنكبوتية ( أما إعلامنا بجميع تلاوينه فهو مشغول باطباق موازين وبأسبوع الفرس وبالصراع حول البطولة وبما تقدمه شميشة مما لذ وطاب ...) وأصبح اسم دمنات – بعد أن كانت نسيا منسيا - متداولا على نطاق واسع ، ويرجع سبب هذه الطفرة الإعلامية –إذا صح التعبير – على ما عرفته من أحداث ليلة الأحد 28 ماي 2013 ( السبت 27 ماي ليلا ) بعد أن خرج السكان للاحتجاج على الانقطاع المتكرر للكهرباء ، وانفلات زمام الأمور وتحول مسار الاحتجاجات التي كانت عفوية ( حسب ما قيل) إلى فوضى وعمال شغب أدت إلى إتلاف بعض الممتلكات. وقد عزت بعض تلك التقارير أسباب ردة الفعل الغاضبة تلك إلى انتقام ثلة من الشباب لحرمانهم من متابعة مباراة في كرة القدم !!!!! كما اتهمت تقارير أخرى عناصر تخريبية مدسوسة !!!!! باستغلال الفرصة لتعيث خرابا في الممتلكات ، كما لوحظ غياب تدخل الجهات المفروض فيها أن تتدخل لحفظ النظام والتي ظلت تراقب الوضع عن بعد ولم تتدخل لوضع حد للتخريب وللفوضى . وعلى إثر هذه الأحداث شنت السلطات حملة طالت عددا من الأشخاص المعروفين بانتماءاتهم الحزبية والنقابية والحقوقية ، ويوم الأحد اجتمعت بعض الفعاليات السياسية والحقوقية والنقابية وأصدرت بيانا تتأسف فيه على الإحداث التي عرفتها المدينة وما ترتب عنها من خسائر مادية وتحتج على الاعتقالات العشوائية التي طالت 12 شخصا واعتبرته منافيا لضمانات المحاكمة العادلة وطلبت بإطلاق سراح المعتقلين و محاسبة المسؤولين عن الإدارة باعتبارهم المسؤولين المباشرين عن كل ما حدث كما قررت تنظيم وقفة احتجاجية يوم الاثنين على الساعة 7 مساء أمام البلدية للمطالبة باطلاق سراح المعتقلين ورفع التهميش عن المدينة . هذه موجز للإحداث سقتها لكم كما تم تداولها سواء في الإخبار او بين الناس . إن ما يجب ان يسجله كل متتبع هو ان احتجاج الشباب الدمناتي والذي ليس وليد اليوم السبت 28 ماي 2013 ،كما يعتقد البعض ، بل جاء بسبب تراكم المشاكل التنموية الصعبة التي تتخبط فيها دمنات منذ سنوات ، كما جاء نتيجة لأخطاء كثيرة ومتداخلة ومترابطة مرتكبة في حق هذه المدينة وفي حق ساكنتها و توالت مع مرور الأجيال ، وان من أبرز الأسباب التي فجّرت الوضع يوم السبت هو البطالة الخانقة التي تعصف بالشباب مع انعدام مرافق و ومتنفسات شبابية يلجؤون إليها ، وان انقطاع التيار الكهرباء لم يكن إلا الشرارة التي أججت في نفوسهم نار الإحساس بالحكرة والتهميش واليأس وكان وتزامنها مع احدى وسائل الترفيه التي يغرقون فيها همومهم اليومية وينسون فيها بعض ما يعانونه من مآسي البطالة والحرمان والضياع مما عجل بخروجهم للشارع وهي أشارة تحذير لكثير من المنتخبين والمسؤولين عن الشأن المحلي من تراكم المشاكل التنموية وعدم فتح قنوات حوار مباشرة مع المواطنين وهي إنذار من قبل المحتجين لمحاسبة مسؤوليهم على عدم الاكتراث باحتياجاتهم ومشاكلهم اليومية. الأخطاء كثيرة ومتداخلة وممتدة عبر الزمن وكان من الممكن تفاديها لو توفرت الإرادة السياسية ، أول الأخطاء، بدأت منذ استقلال المغرب ، حيث انه كان بالإمكان فتح الطريق الوطنية الرابطة بين مراكش وورززات مرورا بدمنات باعتبارها ممرا يربط شرق المغرب ووسطه ، وهو ما كان يمكن ان يفتح بابا كبيرا للرواج التجاري سينعش المنطقة برمتها . وقد أدركت الحماية الفرنسية أهمية هذا المشروع وشرعت في انجازه لولا ان عجل استقلال المغرب برحيلها ( علما بان بعض الطرقات والممرات بالمنطقة لا زالت على حالها كما تركها المستعمر ...) كما أن البطالة ساهمت في غليان الشارع الدمناتي ، في غياب استرتيجية تتغيا تشغيل اليد العاملة المكونة من هذه الجحافل من الشباب المؤهلة وغير المؤهلة التي تخرج للبحث عن الشغل صباح مساء فأصبح الشارع ملاذها الوحيد وملجأها للاحتجاج والتظاهر اليومي، ورفع الشعارات لإبلاغ الرسالة ولاسماع صوتها لمن يهمهم الأمر. ومن الأسباب كذلك التي لا يجب ان تعزب عن البال تنامي اخطبوط لوبيات الفساد المالي والعقاري والانتخابي الذين أصبح لهم دورا أساسيا في تأجيج الحركات الاحتجاجية وإن بشكل غير مباشر ، لأنهم أصبحوا يتحكمون في السوق الاقتصادية ومنها العقارية بالخصوص ، و استحوذوا على معظم الأراضي المحيطة بالمدينة وبالتالي في السوق العقارية. موقعهم المالي فتح لهم المجال للدخول للحياة السياسية، ومنها المشاركة في العملية الانتخابية، واستعمال مختلف الطرق المشروعة منها وغير المشروعة للتحكم في الجماعة، سواء أكانت حضرية أم قروية. ماذا تنتظرون من شباب عاطل ومهمش في مدينة شبيهة بقندهار هذا الشباب استشاط غضبا لما شعر ان بعض المسؤولين على قطاع يموله ( المكتب الوطني للكهرباء ) لا يكترث بالشكايات المتكررة للساكنة بسبب الارتفاع المهول للفواتير والانقطاعات المتتالية للتيار ، ومازاد الطين بلة هو تزامن هدا الانقطاع – لسوء حظ المكتب الوطني للكهرباء - مع انتظار هذا الشباب المهووس بكرة القدم بشغف نهاية العصبة بالإضافة و مقابلة تتويج بطل المغرب في اللعبة . اذ في غياب الشغل وفي غياب ادنى وسيلة حضارية للترفيه والتثقيف تبقى كرة القدم الملاذ الوحيد لتزجية الوقت و نسيان الهموم والمعاناة اليومية . لا يمكن الا ان نستنكر ونستهجن الفوضى والتخريب والشغب ولكننا لا يمكن ان ننكر ان اتلاف الممتلكات ما هو الا نتيجة طبيعية لسياسة التهميش التي نهجها النظام لعقود ضد دمنات ، التهميش الذي يجب ان يحاسب عليه المسؤولون الإقليميون والمحليون الذين تعاقبوا على هذه المنطقة وزرعوا اليا س في نفوس شبابها ، وعلى غرار من زرع الريح يحصد العاصفة فإن من زرع التهميش والحكرة يزرع الفوضى والشغب ، وهم من يجب أن يعتقل وليس المناضلين الشرفاء الذين ذنبهم الوحيد هو التحامهم اليومي بقضايا السكان والدفاع عن مطالبهم بالطرق السلمية والمشروعة والذين أضم - بهذه المناسبة - صوتي الى المنادين بالإطلاق الفوري لسراحهم والإنكباب معهم باعتبارهم الممثلين الحقيقيين للسكان لمعالجة الأسباب الحقيقية للمشكلات التي تتخبط فيها هذه المنطقة . من العار أن تعجز الدولة على حل مشكلة الانقطاع المتكرر للماء والكهرباء على مدينة من حوالي 30 ألف نسمة ويعلم الله عدد ساكنة الإحياء الجديدة التي تنمو كالفطر على هوامشها بسبب الهجرة القروية و التي تفتقر إلى أدنى شروط الحياة «شبه غياب للكهرباء والماء الشروب والطرق المعبدة، وحتى المحظوظة التي تتوفر على ربط بشبكة الكهرباء فإن الفاتورة الشهرية تكون مرتفعة جدا، في الوقت الذي تتبجح فيه بأن نسبة كهربة القرى قد حققت نسبة 100% وان الماء الصالح للشرب قد عم جميع ربوع المملكة ، عار أن أن تعيش دمنات على وقع الحرمان لأيام من الماء الصالح للشرب وهي الموجودة على ضفاف عشرات الوديان والأنهار ناهيك عن الينابيع والآبار وعلى مقربة من 4 من اكبر السدود بالمغرب ، هل الإنسان الدمناتي رخيص إلى هذا الحد ، هل الدولة المغربية بقدها وقديدها التي تبعث بأطنان الأدوية والأغذية الى مختلف بؤر التوتر في العالم وتتبرع بملايين الدولارات شرقا وغربا ، عاجزة عن توفير شربة ماء ( التي وضع ملك البلاد حجر أساسها ) وقبس كهرباء على مدار اليوم لموطنيها يؤدون ثمنها اضعافا مضاعفة من قوت يومهم .( والله اني لرايت بدمنات أرباب اسر يتسولون ويستجدون المارة ثمن فاتورة الكهرباء ) ونتساءل في دمنات كمواطنين، من المسؤول عن تدبير قطاع الكهرباء بدمنات ؟ لأنه هو الذي يمكن له أن يقدم حلولا وبدائل للمشاكل المرتبطة بمؤسسة تبحث عن حل عاجل في المستقبل القريب بعد تشخيصه للوضعية. الجواب سكوت وسكون وغياب حلول والنتيجة شريحة واسعة من السكان تضررت جراء سوء التدبير لقطاع حساس داخل المدينة، هل يعي المسؤولون ان قطع الكهرباء يعني توقف العجلة عن الدوران ام انهم يريدون ان يعودوا بنا الى زمن الفتيلة والقنديل . منذ أديسون ودمنات تعاني مع انقطاع التيار الكهربائي هل يتذكر معي أترابي أننا كنا نشد الرحال من دمنات إلى العطاوية لنتابع مباريات كرة القدم إما بسبب انقطاع التيار الكهربائي أو بسبب سقوط " شبكة التلفزة او تعطلها ، حيث لم نكن نشاهد في دمنات إلا " التشاش " رغم محاولات عزي عمر حيبوط أطال الله في عمره لإصلاح الأعطاب المتكررة لتلك الشبكة الملعونة .دمنات تزخر بتاريخ حافل من الإخفاقات في مختلف المجالات بدءا بالطريق التي ذكرتها أعلاه مرورا بالمستشفى الذي لن يرى النور حتى ترفع جميع الأمراض من الأرض وانتهاء بالماء الذي دشنه الملك محمد السادس . هذا هو ديدن دمنات وحالها (مديور ليها لعكس ) . وتستحق أن تدخل كتاب غينيس للأرقام القياسية في هذا الباب . خلاصة القول أن نقطة البداية في كل ما يجري اليوم وفي كل ما سيقع غداً سببه ان دمنات ظلت لعقود - في ظلمة حالكة ، ظلمة التهميش والحكرة والنسيان . دمنات ذات التاريخ العريق عانت طويلا ولا زالت تعاني من القهر والحرمان. لا عمل لا كرامة ولا أفق يحيي الأمل تحت سطوة البطالة . حتى اضحينا نحن الدمناتيين نعتبر التهميش والاقصاء والفقر ضمن قوانين الطبيعة بل ومن مرادفاتها ، حتى اصبح يخيل الى الناس من فرط ما هم فيه انه من العبث بل ومن قلة الأدب أن يحاول الدمناتي أن يتحدى قوانين الطبيعة هذه التي بجبروتها تقهر كل مشيئة. وركن مسؤولونا إلى هذه القاعدة المغلوطة ، ونسوا او تناسوا ان الانسان قادر على تغيير هذه القوانين ، وغاب عن اذهانهم انه حين يشتد الشوق إلى التغيير ويقع الضغط من جانب ولا من مجيب من الجانب الآخر، يكبر الضغط ويتعاظم حجمه .... فيقع الانفجار في آخر المطاف. هذا هو "القانون الطبيعي" الذي يفسر كل الثورات التي عرفها التاريخ، وهذا بالذات ما حصل في دمنات يوم 28 ماي 2013 . ان التجربة اثبتت كذلك أنه حين يقع انفجار يضيع زمام الأمر ويتعذر التحكم في الوضع، ثم إنه من عواقب حدوث الانفجار استحالة العودة إلى الوضع السابق، كما يستحيل جمع أشلاء قارورة تفجرت بفعل الضغط...لا شك أن المسؤولين يتمنون اليوم في قرارة أنفسهم لو عادت بهم الأيام إلى الوراء كي يردوا بأسرع ما يمكن هذا التيار الكهربائي الذي تسبب انقطاعه في كل هذه الظلمة الحالكة ، و.... و... و...لكن هيهات. لقد تجاوز الأمر أصحاب الاحتجاجات السلمية من أحزاب ونقابات وجمعيات وهيئات كما تجاوز الأمر أصحاب بعد النظر وفتحت الحكرة و التهميش أبوابا مشرعة أمام الانفلات والشغب ، وآل الوضع إلى ما آل إليه من فوضى ، وفي خضم هذه الأحداث وبذلا من أن تنكب الإدارة على جمع المعطيات بدقة و تشخيص الوضعية ونهج مقاربة نسقية مبنية على العلاقات بين العناصر داخل المنظومة"دمنات ومحيطها سواء في إطار اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي وثقافي..." وبين مكونات منظومات أخرى في إطار التداخل والتكامل للكشف عن الداء والبحث عن الدواء في الوقت المناسب، ، عوضا عن ذلك كله انتهجت الادارة مقاربتها الأمنية المعهودة وأتاحت لها هذه الأحداث فرصة لتصفية حساباتها مع ثلة من المناضلين المعروفين لديها واستغلت الوضع وقامت بشن حملة اعتقالات في صفوفهم ، في خطوة خرقاء مجهولة العواقب . لو أن من هم في موقع تدبير الشأن المحلي لهم غيرة على هذه البلدة ذات التاريخ العريق، لو أن برلمانيينا الذين لا يعرفهم الناس ، حنوا إليها، ووقفوا لها وقفة رجل واحد وتصدوا للمفسدين وطرقوا أبواب الوزارات الوصية وأحسوا بمعاناة وهموم مواطنيهم مع الشغل و الخبز والماء والكهرباء والدواء ، ستكون دمنات قطبا اقتصاديا ومعلمة تراثية وفضاء لإنتاج الخيرات وتوفير العيش الكريم لساكنتها الحضرية والقروية على حد سواء . لكن لا حياة لمن تنادي !!!!