أعترف الآن أن الشعب المغربي شعب حي وتاريخي (…) وأن عبد الكريم الخطابي بطل تحرير كبير في مقاومة الاستعمار…، هذه الجمل هي من إحدى الخطابات السامية للمرحوم الحسن الثاني في السنوات القليلة الأخيرة من حياته . تذكرتها وأنا أهم على كتابة هاته الافتتاحية حول الحراك الاجتماعي الشعبي، بمختلف تمظهراته في الجغرافية المغربية: الريف، اجرادة، تارودانت، امنتانوت، أزيلال، وأغلب المدن الكبرى، وفي الأشكال والأساليب النضالية: مسيرات مطلبية واحتجاجية سلمية، اعتصامات، إضرابات عن الطعام، انتقلت إلى العالم الافتراضي في مواقع التواصل لتتبلور كآلية للدعوة للمقاطعة، خصوصا بعد المقاربة الأمنية التي ووجهت بها هاته المسيرات المطلبية السلمية، من اعتقالات ومحاكمات صادمة، أدت إلى عودة المسيرات بشكل أكبر وعلى أرضية ربط تحقيق المطالب الاجتماعية بضرورة إجراء مراجعة سياسية لإزالة الاحتقان، الذي أصبح يهدد بهشاشة الاستقرار الأمني الذي ميز المغرب وسط العواصف الهوجاء التي تضرب ما سمته أمريكا بالشرق الأوسط الكبير، والذي سبقه إعلان كونداليزا رايس عن إستراتيجية الفوضى الخلاقة، لإعادة تشكيل المنطقة بما فيها الدول المغاربية، وفق خريطة جغرافية جديدة تضم عشرات الدويلات الصغيرة الإثنية والطائفية والمذهبية، تكون إسرائيل العبرية هي الأقوى والمسيطر عليها، حيث تمثل صفقة القرن أو محو فلسطين عنوانها الكبير والختامي. إلا أن ليس كل ما تخططه الامبريالية الأمريكية والغرب والصهيونية العالمية وامتداداتها العربية الرجعية، يتحقق، لأن عالم القطبية الوحيدة دخل مرحلة أفوله، كما تنبأ العالم والمفكر والمناضل المغربي الكبير المهدي المنجرة، بنهاية السيطرة الأمريكية ومكونات فلكها في سنة 2030، وما يجري الآن لا يعبر عن قوة أمريكا وإسرائيل، بل هو سعار المأزوم الذي بدأ يفقد سيطرته المطلقة بفقدانه عدة مواقع في الجغرافيا والاقتصاد والسياسة والثقافة العالمية، خصوصا بعد تمكن محور المقاومة ودولها وروسيا من إفشال مشروع الفوضى الخلاقة/ التقسيم، والقضاء على أدوات تنفيذه من داعش وأخواتها، وبداية رسم عالم متعدد الأقطاب وخريطة جديدة لتوازن الردع وموازين القوى، بأفق ستجد أمريكا نفسها غير قادرة على إعادة إنتاج هيمنتها بالقوة أو بالاقتصاد ليأتي التراجع وتفجر الداخل، على حد قول الفيلسوف الكبير هيجل الذي ميز بين الوجود بالفعل والوجود بالقوة هذا الأخير الذي بالضرورة مآله الزوال بتفجره من الداخل، وهو حال أمريكا وبانعكاس مباشر على إسرائيل، حيث اعتمد وجودهما على القوة وبنيتهم مؤسسة على الهيمنة وحكم العالم ونقيضها سيؤدي إلى خلخلة بنية وهوية وجودهما. سبق للمفكر والعالم والمناضل المغربي الكبير عابد الجابري، أن عرى البعد الإيديولوجي لأطروحة أحد أكبر منظري الخارجية الأمريكية صامويل هينكتنكتون في كتابه صراع الحضارات، الذي نسخ كتاب زميله فوكوياما نهاية التاريخ، الذي زعمه مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد أمريكا بالعالم، حيث أوضح الجابري بأن العالم سيعرف عودة الحضارات، وأن مفهوم صراع الحضارات، هو لتغطية مواجهة وجرائم أمريكا والصهيونية ضد هذه العودة والتي يشكل مسرحها الرئيسي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفعلا فإن ما يجري حاليا هو عودة الإمبراطورية الروسية/ حضارة السلاف، والإمبراطورية الفارسية/ إيران، والإمبراطورية العثمانية/ تركيا، والحضارة الكونفوشيوسية/ الصين وتوحد الكوريتين. هذا التحول لا تستقيم قراءته بالقاموس الديمقراطي الغربي، الذي يفضي إلى اعتبار قادته دكتاتوريين، والمسألة تكمن في كون هؤلاء ليسوا زعماء سياسيين، بل رجال تاريخ كاريزماتيين ينجزون مهمة إعادة بناء الدولة الأمة وحضارتها، ويسيرون وفق رؤية واضحة في المرحلي والاستراتيجي بناءا على مورثهم الحضاري. هذا الوضع العالمي المتغير والسريع، خلق فجوة هواء ونور للدول الصغيرة وهامش للاستفادة من أجل تطوير وتمنيع مجتمعاتها، لمن يثقن فن الاقتناص والتحالفات، أما التبعية العمياء وفقدان السيادة فنتيجته التمزق وتحول العامل الخارجي إلى محدد ورئيسي في رسم المصير وليس ثانوي أمام العامل الداخلي الذي يبقى هو المحدد الرئيسي والضامن للاستقرار والمصير. بعد هذا الاستحضار، يمكن التساؤل عن مغزى وصف المرحوم الحسن الثاني للشعب المغربي بالحي والتاريخي، وعبد الكريم الخطابي بالبطولة قبل وفاته، حيث كان يعلم اقترابها، وضمن السياق الحالي المتسم بعودة الشعوب لقوتها وماضيها الحضاري كمرجع لبناء الذات حاضرا ومستقبلا، فإن المغرب الحالي كان قيادة وعاصمة للحضارة والإمبراطورية المرابطية والموحدية والمرينية قبل انتكاسة الاستعمار البرتغالي والاسباني والفرنسي والعثماني، الذي تولدت عنه أكثر من خمس دول متنافرة في الحدود وغيرها بعدما كانت تسمى المغرب الكبير الممتد حدوده إلى السنغال، هذا الماضي الذي يتضح كحس شعبي كبير لدى الشعوب ولدى جزء من النخبة والحكام، بإقرارهم بوحدة الاتحاد المغاربي كإطار لحل الخلافات وتحقيق التنمية والصمود أمام الإعصار وآخرها رفع شباب لأعلام المغرب وتونس والجزائر بموسكو للمطالبة بالتنظيم المشترك لمونديال 2030. قد يبدو هذا الاستحضار بعيدا، وهو فعلا كذلك لدى النخب الحاكمة بدرجات متفاوتة، ولكنه قريب ومهيأ لدى الشعوب وحسها الشعبي الجماعي، وفي انتظار لحظة القيادة الجماعية والكاريزمية والمشروع الحضاري، تبقى الطريق المرحلية المؤدية لهذا الخيار الذي لا خيار سواه إلا التبعية وفقدان السيادة، هو الطريق المرحلية التي أعلن عنها الخطاب التاريخي للملك محمد السادس بإعلانه عن فشل المشروع التنموي وإقراره المباشر لفساد الإدارة والأحزاب ومطالبته بالمحاسبة واستفادة المغاربة جميعا من ثروتهم، الشيء الذي لا زال تفعيله معاقا، بل هناك عمل جاد ومجهودات وبرامج كبيرة ترصد لها مبالغ ضخمة من أجل إبعاد أخطار أغلبها متخيل ضد الاستقرار من طرف الاحتجاجات الشعبية وحملات التواصل الاجتماعي، تارة بالردع والاعتقال وشيطنة المناضلين والهيئات الجادة التي تنشد الكرامة والخدمات، والمدافعين عن الفقراء الذين تتسع نسبتهم بشكل سريع ومخيف، وما يصرف من مبالغ مالية قصد حراستهم وتجنب شرهم، أكثر من المبالغ الواجب رصدها لإزالة الفقر؟ !. ولن يتأتى ضمان أرضية صلبة لديمومة الاستقرار الأمني إلا بتوفير الخدمات العامة التي تحولت إلى امتيازات في حين هي حقوق أساسية للحياة نفسها، والمتمثلة في الدواء والصحة للمرضى، والعدل للمظلومين، والمدرسة للناشئة، والشغل للبالغين سنه، وإذا وفرت هذه الخدمات فلا خوف لا من المسيرات ولا الحملات الفيسبوكية. هذه الخدمات طبعا تقول الحكومة أن ميزانيتها لو وجهت كلها لقطاع واحد لن تحله؟ وهو جواب صحيح لكنه يولد سؤال: هل المغرب فقير؟ وغير ذي موارد؟ !. كما أن التشغيل ليس من اختصاص الحكومة أو الدولة وحدها، بل هو مرتبط بدينامية الاستثمار والمقاولة، كلام صحيح، لكنه يولد سؤال: هل الريع يبقي فضاءا للمنافسة التي تعتبر مثل الماء للسمكة من أجل الحياة والتطور وخلق الثروة والشغل؟ !. هذه أسئلة الإجابة عنها هي نفسها عمق المراجعة السياسية والمشروع التنموي، بل المجتمعي الجديد الذي يشكل الطريق المرحلية للتنمية والاستقرار والكرامة وإعادة إحياء مجد تاريخنا الحضاري وصمام أمان إزاء العواصف العالمية. وهو مقال الافتتاحية المقبلة.