أطل عليكم من جديد بعد أن فكرت في اعتزال الكتابة لأن اتخاذ قرار بالكتابة صعب وشاق جدا. فالسؤال الأنطولوجي الأول في ممارسة " هوس" الكتابة هو: هل أكتب أم لا؟ والإجابة بنعم أو لا ينبني على موقف ومبدأ أساسه السؤال الثاني: لماذا أكتب؟ ولكل منهما، أي نعم ولا تداعياته و" أعراضه الجانبية". وعندما أتخذ القرار بالإيجاب، يأتي السؤال الثالث: ماذا أكتب؟ وعندما أحدد الموضوع، أسأل السؤال الرابع: كيف أكتب؟ وهكذا تصبح الكتابة متتالية لا تنتهي من الأسئلة والمعاناة السيكولوجية و "حريق الراس". فالإنسان يتميز عن باقي المخلوقات بكونه " كائنا هادفا" و "كائنا رساليا" أي أن تحركاته وسكناته، وفي صميمها فعل الكتابة، يحكمها السبب و المقصد والهدف والغاية والرسالة... وعندما تصبح ممارسة الكتابة كفعل " بيولوجي" لا يختلف عن الأكل والشرب والجماع، يصبح الكاتب مخلوقا ضمن باقي الكائنات الحية، وأحيانا الميتة، التي تعج بها الكرة الأرضية لا فرق بينه وبين " العجماوات" إلا بالرقن على الحاسوب أو الهاتف... اخترت أن أغير أسلوب وتيمات الكتابة، مؤقتا، لذلك لن أكتب عن البلوكاج و إعفاء بن كيران ولا تعيين العثماني بديلا عنه، ولن أتطرق لأزرار " فيستة لشكر المتفاوتة" وإصداره لبلاغ يناشد فيه نفسه للدخول إلى الحكومة، في سابقة تاريخية، ولا عن " الإنقلاب" على "المنهجية الديمقراطية"... سأدع الحديث عن كل تلك المواضيع السياسية التي تسبب الضغط الدموي والتصلب الشراييني والإكتئاب النفسي جانبا، وسأسافر بكم عبر الزمن إلى العهد الإغريقي القديم حيث الحكمة والفلسفة والقصص المليء بالرسائل والدروس والمواعظ. فأحزموا حقائبكم واربطوا أحزمة السلامة في أول قصة من أرض " التانتينوس". يحكى، في التراث اليوناني القديم، عن زعيم عبقري عظيم يدعى "التانتينوس". وتحكي الأسطورة أن هذا الرجل له جسم إنسان ورأس حرباء، وتشير بعض المصادر المقارنة أن هذا الوصف أطلق عليه مجازا لعدم مبدئيته وحربائيته في اتخاذ المواقف والقرارات، و يمكن تشبيهه اليوم ب" الفنار". وقد استمد " التانتينوس" قوته من قدرته الفائقة على التعبئة والحشد. ففي زمن قياسي استطاع توحيد قبيلة "الكاريحانوس" تحت رايته بعد أن وعدهم بما يعرف حينها ب"البالاتوس"، أي ما يمكن ترجمته ب"الشبع الأبدي". فاليونان كانت تعاني قحطا مدقعا في ذلك الوقت وتوفير الحنطة غاية لا يركها إلا القليل. ولأن "التانتينوس"، لم يكن فعلا يقصد إشباع أتباعه، بقدر ما يروم إهانتهم وقضاء مآربه الشخصية وإشباع نزوات مولاه " الكيبيتوس"، والذي يطلق حينها على أي مسؤول رفيع، فقد عمد إلى تكليف أتباعه من قبيلة "الكاريحانوس" بالقيام بمهام قذرة. وكما يعرف الدارسون للتاريخ اليوناني القديم، فالإكليروس كانوا يعمدون إلى تشغيل " المزالوش"، أي الطبقة المنبوذة في المجتمع بناء على اعترافها بارتكاب "الخطيئة الكبرى"، وضمنهم "الكاريحانوس"، في مهمة يطلق عليها " أمزاساس"، وهي عملية ترويض البقرة و "إعدادها" للثور حتى يتمكن من " إقامة علاقة جنسية رضائية" تفضي إلى الحمل ومن تمة تكثير وتجويد النسل. و كان الإكليروس يرومون من خلال مهنة " أمزاساس" إهانة "المزالوش والحاريكانوس"، لأن المستفيدين الوحيدين من العملية هو الثور(الإشباع الجنسي) وصاحبه (المال)، وجعلهم دائما تحت رحمتهم مقابل وعدهم ب"البالاتوس". و تحكي الأسطورة اليونانية كذلك أن مسلسل إهانة "الكاريحانوس" لا يتوقف عن هذا الحد، بل يتعداه إلى تكليفهم بمهمة " الفرتلوس"، أي ما يعرف في زماننا هذا ب"البْرَّاحْ". ف"التانتينوس" يكلف، بناء على أوامر" الكيبيتوس" كل "هيروطيس" وهو اللقب الممنوح لكبار " الكاريحانوس"، وفق السُّلَّم الإجتماعي في ذلك الزمان، للقيام بالدعاية والتمجيد لزعيم القبيلة و رؤساء العشائر المتحالفة معه، وكذا التبشير بمشروعه المعروف اختصارا ب" كوليش"، أي ما يطلق عليه اليوم " الذكاء الترابي". ف"الهيروطيس" مُجْبَر على رسم صورة الزعيم على شكل طاووس جميل مزركش وحمامة بيضاء وديعة على ورق يعرف ب" الكالاطيش"، يوزع على أبناء القرية مجانا. وهو ما يمكن تشبيهه اليوم بالجريدة. ولا يسمح قط بانتقاد "الكيبيتوس" تحت طائلة الحرمان من " الديهينو" أي ما يصطلح عليه اليوم" البقشيش". ولضمان التبعية العمياء والولاء المطلق ل"لكاريحانوس"، قام "التانتينوس" بتنظيم رحلة ترفيهية شهيرة ل"الهيريطوس" إلى مدينة " إفيسيس" الجميلة على نفقة " البوبيولوس" أي ما يعرف في واقعنا اليوم ب"المال العام". وقد تم تجهيز عشرة جواميس لحمل حوالي ثلاثين "هيريطوسا" إلى المدينة المعروفة بنشاطها الزلزالي وبشواطئها الخلابة وب"البويوس" وترجمتها حرفيا تعني "السياحة الجنسية". وتحكي كتب التاريخ اليوناني أن تلك الرحلة كادت تنتهي باقتتال داخلي بين أفراد "الهيريطوس" بعد خلاف نشب حول مقدار"الديهينو". كما تبرز مصادر أخرى بالمكتبة الوطنية بأثينا بأن " التانتينوس" عمد إلى "تسكير" الهيريطوس بأنواع فاخرة من النبيذ المعتق حتى راجت أخبار عن موت أحدهم من فرط الثمالة. وتم انقاذه في آخر لحظة وسط دهول "الفرنجيس" وهو لقب يطلق على الأجانب الذي يفدون على المدينة من باقي الأمصار. فكتب التاريخ تعتبر تلك الرحلة " الكيشوش" أي " وداعا للجوع والعطش". وصلت إلى الشق الشيق من قصة "التانتينوس" و"الكاريحانوس" وبينهما "الهيريطوس" وحتى لا أطيل عليكم أضرب لكم موعدا قريبا مع تتمة القصة ومع قصص أخرى أكثر تشويقا وعبرة. والآن سؤال الحلقة الأولى: ماذا استفدتم من هذه القصة؟