قبل أن يجف مداد الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم: 2015 2030، طفا إلى السطح سؤال قديم جديد، إنه سؤال الموارد البشرية التي يعول عليها لتنزيل مشروع الإصلاح، ذلك أن أبرز معضلة طبعت الموسم الدراسي الجاري هو الخصاص المهول في صفوف هيئة التدريس بمختلف الأسلاك التعليمية؛ خصاص في هيئة التدريس دفع الوزارة الوصية لاعتماد التوظيف المباشر من خلال تعاقد مع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين يمكن "المستفيدين" من كل حقوق نساء ورجال التعليم دون أن يُفضِيَ إلى "الإدماج المباشر في أسلاك الوظيفة المباشرة". وتزامنا مع تفعيل قرار التوظيف المباشر أشر المجلس الأعلى للتربية والتكوين من خلال جمعيته العامة على مشروع قرار إلغاء مجانية التعليم جوابا على مذكرة استشارية لرئيس الحكومة خلال الولاية المنتهية ليكشف نية الدولة للتملص من أحد أهم واجباتها الاجتماعية "مجانية التعليم"، ويؤكد حرص الحكومات المتعاقبة على الخضوع لإملاء المؤسسات الدولية المالية إمعانا في استهداف الحقوق الاجتماعية وهدرا لفرص التنمية. وإذا كان قرار التوظيف المباشر غير جديد، فقد تعاقدت الحكومات المتعاقبة مع ما مجموعه 32000 أستاذ، دليلا على ارتهان قطاع حيوي للارتجال ليُستفاق على خصاص بالآلاف في صفوف هيئة التدريس في وجود مديريات للتخطيط لا تكاد شبكاتها للإحصاء تتوقف إلا لتتغير خاناتها وتصنيفاتها رصدا للبنيات التحتية وضبطا للعاملين في القطاع وعدّا للمتعلمين وتفييئهم جنسا وعمرا؟ إنه لعمْري عبث واستهتار بالمسؤولية واستخفاف بحقوق العباد وحق البلاد في أن تتبوأ مكانة معتبرة بين الأمم! فإن التراجع عن مجانية التعليم بدوره ليس جديدا، ويمكن اعتبار التضجر المتكرر من كلفة قطاع التعليم ومحدودية مردوديته في أكثر من خطاب للراحل الحسن الثاني مقدمات ورسائل تفتل في حبل إلغاء المجانية، وهو ما بلورته وثيقة "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" الذي تزامن تنزيله 1999 مع "العهد الجديد". لقد أفرد "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" موضوع التمويل بالدعامة التاسعة عشرة بعنوان: "تعبئة موارد التمويل وترشيد تدبيرها"، وتناول مسألة إلغاء مجانية التعليم بكثير من التفصيل، ومن ذلك: سعيا لتغيير العلاقة وتجديدها بين المؤسسات التعليمية، في المستويين الثانوي والعالي، باعتبارها مرفقا عموميا، من جهة، وبين المستفيدين منها من جهة أخرى، فإن إقرار إسهام الأسر يراد منه بالأساس جعلها شريكا فعليا، ممارسا لحقوقه وواجباته في تدبير وتقويم نظام التربية والتكوين وتحسين مردوديته... يراعى في تحديد رسوم التسجيل مدى يسر الأسر، بناء على ضريبة الدخل، مع تطبيق مبدأ الإعفاء الآلي للفئات ذات الدخل المحدود، والإنصاف بين الفئات الأخرى... (المادة: 173) على مستوى التعليم الثانوي، في أجل أربع إلى خمس سنوات، وبقدر ما تتحقق الإصلاحات المتضمنة في هذا الميثاق وبالأخص، الرفع من جودة التعليم، تأطيرا وتجهيزا ومضمونا، وكذا إرساء مجالس تدبير المؤسسات ...، يمكن تحديد مقادير رسوم تسجيل التلاميذ وفق المبادئ الآتية: أ. الإعفاء التام من أي أداء جديد للأسر ذات الدخل المحدود؛ ب. الإعفاء التدريجي، ومراعاة عدم الإخلال جوهريا بتوازن الميزانية العائلية لدى الفئات ذات الدخل المتوسط، وباعتبار عدد أبناء الأسرة الواحدة المتمدرسين بالتعليم الثانوي؛ ج. في حالة تمدرس متزامن لعدة أبناء لأسرة واحدة بالتعليم الثانوي، تعفى هذه الأسرة من الأداء عن التلميذ الثاني والثالث بنسب متدرجة، حسب قدراتها المادية؛ د. تعد رسوم التسجيل سنوية، ويمكن أداؤها موزعة على شهور السنة الدراسية وتكون مصادر تمويل خاصة بالمؤسسة... (المادة: 174) على مستوى التعليم العالي... تفرض رسوم التسجيل بعد ثلاث سنوات من تطبيق مشروع الإصلاح (الميثاق الوطني للتربية والتكوين) مع إعطاء منح الاستحقاق للطلبة المتفوقين المحتاجين. (المادة: 175) يُحدث نظامٌ للقروض الدراسية، بشراكة بين الدولة والنظام البنكي، يمكِّن الطلبة وأولياءهم من أداء رسوم التسجيل بالقطاعين العام والخاص، بشروط وتسهيلات جد تشجيعية. (المادة: 177) وبالعودة إلى سؤال الجودة نتساءل: هل تمّ التراجع عن مطلب "الجودة" في ظل الخصاص المهول لنساء ورجال التعليم الذي فرض التوظيف المباشر لهيئة التدريس؟ وإذا كان كذلك، هل سيسحب مشروع الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم بعد كل الضجيج والصخب الإعلامي وتسويقها عصا سحرية لتعافي المنظومة التعليمية من علل مزمنة راكمتها خلال عقود ووثقت لإفلاس تدبير قطاع يصنف من حيث الأهمية ثانيا بعد الوحدة الترابية؟ وارتباطا بشروط الجودة في شق البنيات التحتية، ألم يعترف وزير القطاع خلال السنة الدراسية الماضية في البرلمان أن 6000 حجرة دراسية غير صالحة للدراسة، وهو ما يعني أن أكثر من 20.000 تلميذة وتلميذ مهددون صحيا قبل تحصيلهم الدراسي؟ إنه لا سبيل للارتقاء بالمنظومة التعليمية بعد توفير البنيات التحتية مرافق وفضاءات ووسائل وإمكانيات مادية، ما لم يُرتقَ بتكوين نساء ورجال التعليم وتأهيلهم وتدريبهم بشكل سليم، "ذلك أن من بين ثغرات المدارس التي عممها الاستقلال الوطني... قلة كفاءة المعلم، وانعدام الباعث القوي لدى المعلم، ... ووضعية المعلم الاجتماعية غير المريحة. المعلم هو واسطة عقد المنظومة التعليمية التربوية... وإن لم تكن هذه الواسطة على القدر الكبير من الكفاءة وعلو الباعث، والكرامة والرخاء في المجتمع، فالعملية كلها تنفسخ، لاسيما في المجتمع الفتنوي ... طفل من يمسك بيده، ويستلمه برفق وحب، ومسؤولية أخلاقية، إن كان المعلم مجرد موظف أجير؟ يافع من يدربه ويعلمه، ويصقل قدراته العقلية، ومهاراته ومواهبه، إن كان المعلم عديم الكفاءة ناقصها؟ ... فإذا تقرر أن كفاية العلماء والمعلمين أساس، فلنلتمس عند ذلك لهذه الخدمة الجليلة أي الناس خير. مطلبنا عالم متوازن، ومعلم منسجم في نفسه، مرتاح في سربه الاجتماعي، سوي في بنيته النفسية الخلقية، كفء في مادته العلمية، مراقب لله تعالى في أمانته، مطمئن بالإيمان، صابر على معالجة النفوس الناشئة والعقول، زاهد فيما بأيدي الناس، ذو مروءة وعفة وهمة. هذا نمط من الرجال في حقل التربية والتعليم لا يتعايش ولا يزدهر إلا إن كان نفس النمط له القيادة والسيادة في الحقل السياسي..." (حوار مع الفضلاء الديمقراطيين لعبد السلام ياسين. ص: 170 وما بعدها). كيف يستقيم الحديث عن الكفاءة والاستواء النفسي والروحي قبل المعرفي والمهاري، وقطاع التعليم يُنظر له فرصة للنجاة من شبح البطالة والعوز؟ كيف تتحقق الجودة ومن يقود مشروعه الإصلاحي مسؤول عما يعانيه القطاع من كوارث وطوامٍّ وأحالته مجال للريع والاغتناء؟ وخلاصة القول: إن قرار التوظيف المباشر، مهما قيل عن دورات التدريب والتكوين التي ستبرمج للمعنيين، وقرار إلغاء مجانية التعليم وجهان لعُملة فساد منظومة تعليم احتكر النظام تدبير شؤونها، وقد يكون نصيب الحكومة المنتهية ولايتها كنصيب الحكومات المتعاقبة هو الموافقة على تمرير وأجرأة قرارات يكلفها الكثير سياسيا. لذلك، فاتخاذ القرارين مطية لتصفية حسابات سياسوية مع الحكومة تهريب للنقاش في أم القضايا المجتمعية بالنظر لحيوية قطاع التعليم وضرورته بناءً للانسان وعيا وسلوكا ومهارات وتوفيرا لشروط النهضة والإقلاع التنموي، ويتطلب بالمقابل تعبئة مجتمعية تتصدى لقرارات تهدد المجتمع في مستقبله استقرارا وتماسكا وتنمية.