اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    توهج مغربي في منافسة كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي بأكادير    ولاية امن مراكش…توقيف ستة اشخاص من بينهم ثلاتة نساء وقاصر للاشتباه في تورطهم في قضية الضرب والجرح    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية    الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    تهديد أوكرانيا بتصنيع القنبلة الذرية زوبعة في فنجان لكسب مزيد من الدعم المالي للغرب    البيت الأبيض: جو بايدن سيحضر حفل تنصيب دونالد ترامب        اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"        لحظات عائلية دافئة للملك محمد السادس والأميرين مولاي الحسن ولالة خديجة بباريس    القنيطرة.. تعزيز الخدمات الشرطية بإحداث قاعة للقيادة والتنسيق من الجيل الجديد (صور)    توقيف فرنسي من أصول جزائرية بمراكش لهذا السبب    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    طقس الثلاثاء: أجواء حارة نسبيا بعدد من الجهات    وزير الفلاحة: المحطة الرياضية العالمية 2030 محك حقيقي للمنظومة الغذائية والاستهلاكية للمغرب    مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    عبد اللطيف حموشي يبحث مع المديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية التعاون الأمني المشترك    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين    مرشد إيران يطالب ب"إعدام" نتنياهو        المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    الرباط: تقديم كتاب 'إسماع صوت إفريقيا..أعظم مقتطفات خطب صاحب الجلالة الملك محمد السادس'    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    بمناسبة الحملة الأممية لمناهضة العنف ضد النساء.. ائتلاف يدعو إلى المنع التام لتزويج الطفلات    تحقيقات هولندية تكشف تورط مغربي في اغتيالات وتهريب الكوكايين    العالم يحتفل باليوم العالمي لشجرة الزيتون    ترقب لقرار إسرائيلي حول وقف إطلاق النار مع حزب الله ووزير الأمن القومي يعتبره "خطأ كبيرا"    اندلاع حريق ضخم في موقع تجارب إطلاق صواريخ فضائية باليابان    ملتقى النقل السياحي بمراكش نحو رؤية جديدة لتعزيز التنمية المستدامة والابتكار    تطوان: اعتداء غادر بالسلاح الأبيض على مدير مستشفى سانية الرمل    وزير الأوقاف: أكدت لوزير الداخلية الفرنسي أن المغاربة علمانيون فصدم    إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    صقر الصحراء.. طائرة مغربية بدون طيار تعيد رسم ملامح الصناعة الدفاعية الوطنية    لا شراكات على حساب الوحدة الترابية والسيادة الوطنية للمملكة المغربية    المحامي والمحلل السياسي الجزائري سعد جبار: الصحراء الشرقية تاريخياً مغربية والنظام الجزائري لم يشرح هوسه بالمغرب    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    تحرير محيط مدرسة للا سلمى من الاستغلال العشوائي بحي المطار    الجزائر و"الريف المغربي" .. عمل استفزازي إضافي أم تكتيك دفاعي؟    الرجاء والجيش يلتقيان تحت الضغط    في لقاء عرف تفاعلا كبيرا .. «المجتمع» محور لقاء استضافت خلاله ثانوية بدر التأهيلية بأكادير الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي    بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    الكاف يُعاقب مولودية الجزائر بحرمانه من جماهيره وغرامة مالية ثقيلة    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهوية والتعددية الثقافية... هل هناك هوية واحدة وتابثة من وجهة نظر فلسفية انتروبولوجية؟

مما لا شك فيه أن موضوع الهوية بشكل خاص والهوية الثقافية بشكل عام من بين المواضيع التي باتت تحتل مكانة مرموقة في الزمن الراهن على صعيد الخطابات السياسية والفكرية و الإعلامية، ويعود السبب في ذلك في نظر الكثير من المهتمين إلى التغيرات التي عرفها الوعي الإنساني بدءا من القرن التاسع عشر إلى حدود اللحظة، فمع التطورات التي عرفتها العلوم الإنسانية، صارت مفاهيم كالهوية والثقافة تتخذ دلالات وأبعادا جديدة أكثر انفتاحا مما انعكس إيجابا على تمثل الناس وفهمهم لها، فظهور الأنتروبولوجيا إلى حقل المعرفة الإنسانية قد أحدث ثورة منهجية ومعرفية في مقاربة مسألة الثقافة، اذ أن المقاربة الأنتروبولوجية لم تتوقف عند حدود الدراسة النظرية للثقافة بل ستتعدى ذلك إلى الدراسة التجريبية المحايثة التي تجمع بين ماهو نظري وتجريبي[1]، منفتحة في ذلك على حقول معرفية مختلفة كالأركيولوجيا والإثنولوجيا ...، كما أن الأنتروبولجية ستؤسس لبراديجم جديد في مقاربتها لمسألة الثقافة تتحدد معالمه في الإهتمام باللا مفكر فيه والهامشي والشفاهي من الثقافة الإنسانية، مما سيوسع من دائرتها ويجعلها تنكشف للعلن باعتبارها أحد أبرز المعايير للتمايز بين الشعوب ومنطلقا اساسيا لتحديد كينونتها وهويتها.
كما أن التطورات التي عرفها حقل الفلسفة ابتداءا من النصف الثاني من القرن 19 ستغير من فهمنا وتمثلنا للهوية، فمع نشأة الفلسفة المعاصرة بما هي فلسفة للاختلاف، لم تعد الهوية تعني الوحدة والمطابقة والثبات بل أصبحت تحيل على التعدد والتغير والتنوع ،مما فتح الأفق أمام تصور جديد للهوية يقطع بشكل جدري مع التصور الجوهراني الأرسطي الذي ظل مسيطرا على الوعي الإنساني لعصور كثيرة.
يندرج اهتمامنا بموضوع"الهوية والتعددية الثقافية" في سياق يوم دراسي فكري فلسفي نظم بثانوية الخوارزمي سوق السبت \المغرب تحت شعار " هل نحن في حاجة إلى الفلسفة اليوم"، كان من اهداف المداخلة التي شاركت بها في اشغال هذا اليوم الدراسي توضيح الحاجة إلى الفلسفة وما يتقاطع معها من حقول معرفية أخرى للتفكير في قضية الهوية والهوية الثقافية، نظرا لما يشوب هذه القضية من لبس وغموض وسوء فهم ناتج عن عدم مواكبة التطورات والتراكمات التي حققتها العلوم الإنسانية بشكل عام والأونتروبولوجية والفلسفة بشكل خاص، وقد نتج عن عدم المواكبة هذه التشبت بتصورات تقليدية حول الهوية و الثقافة، وظفت للدفاع عن خيارات في تدبير مسألة الهوية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها خيارات ارتكاسية قد تقود الإنسانية إلى مزيد من صراعات الهوية، وعليه فإن هذه المقالة في جوهرها تحاول أن تؤكد فكرتين أساسيتين:
- الفكرة الأولى أنه ليس هناك أساس فلسفي انتروبولوجي للصراع الهوياتي الذي أصبح يميز الزمن الراهن.
- الفكرة الثانية وهي أن الفلسفة والأنتروبولوجية تؤسسان للحق في الإختلاف والتعدد الهوياتي نظرا للتحولات والتطورات التي عرفها هذان الحقلان المعرفيان.
وعليه فإن هذه المقالة في شموليتها تنتصر للحق في الاختلاف الثقافي والتعدد الهوياتي وتسعى إلى توضيح ذلك انطلاقا من تصورات فلسفية وانتروبولوجية ضدا في بعض الخطابات التي ما زالت تتشبت بوهم الهوية الخالصة والمتفوقة استنادا إلى الفلسفة والانتروبولوجية على الأقل في صورتها التقليدية.
لتحقيق هذا الغرض سأعمد إلى تقسيم هذه المقالة إلى قسمين كبيرين، الأول حول مفهوم الهوية والثاني حول مفهوم الثقافة، في القسم الأول سأتتبع مفهوم الهوية كما ثم التفكير فيه عبر تاريخ الفلسفة ،مركزا على التصور التقليدي للهوية مبرزا بعض الانتقادات التي وجهت له في أفق عرض التصور المعاصر للهوية باعتباره تصورا أكثر انفتاحا وأكثر استيعابا لطبيعة الوجود البشري بما هو وجود مختلف ومتعدد، أما في القسم الثاني من المقالة فسأتناول مفهوم الثقافة من وجهة نظر الأنتروبولوجية مركزا على الأنتروبولوجية البنيوية ومقاربتها لمسأّلة الثقافة مبينا نسبية الثقافات وتعددها وانه ليس هناك معايير للتفاضل بين الثقافات.
I. مفهوم الهوية في الخطاب الفلسفي:
يعتبر مفهوم الهوية من المفاهيم الحاضرة بقوة في تاريخ الفلسفة، ولما كان المفهوم أي مفهوم بشكل عام له تاريخ[2] - وتاريخية المفهوم تتجسد في مختلف الدلالات والإنتقالات التي عرفها هذا المفهوم أو ذاك عبر تاريخ استعمالاته-، فإن معنى ذلك أن لمفهوم الهوية بدوره تاريخ، أي أنه سيتخذ دلالات مختلفة ومتعددة بالنظر إلى التحولات والتطورات التي عرفها الخطاب الفلسفي، ولذلك يمكن قراءة تاريخية مفهوم الهوية انطلاقا من نموذجين ارشاديين، نموذج الفلسفة التقليدية باعتبارها فلسفة للوحدة والمطابقة والثبات، نموذج الفلسفة المعاصرة باعتبارها فلسفة للإختلاف والتعدد.
1. الهوية كوحدة وتباث ومطابقة
ينهل هذا التصور من المنطق الأرسطي الذي يؤكد على الهوية الجوهرانية للكينونة، فمفهوم الهوية جاء في إطار منطقي إذ نجد مبدأ الهوية من المبادئ الأساسية للمنطق كما أسس له الفيلسوف اليوناني .ارسطو .
يقوم المنطق الأرسطي في جوهره على فكرة مفادها أن طبائع الأشياء ثابته لا تتغير لأن التغير في سياق فلسفة أرسطو عنوان على النقص في طبائع الموجودات، فالوجود الحقيقي هو الذي لا يقبل التغير، يقول أرسطو في هذا السياق: " إنه من العبث أن نجعل أساس أحكامنا على الحقيقة كون الأشياء على هذه الأرض تتغير ولا تستقر على حالة واحدة أبدا"[3]، ولذلك نجد الأنطولوجيا اليونانية بشكل عام تقسم العالم إلى عالمين، عالم المادة المتحول والمتغير باستمرار وعالم الجواهر الثابت، عالم النشوء والفساد وعالم الخلود والحقيقة، ومن هنا فإن مفهوم الجوهر يعتبر أحد المفاهيم المؤسسة ليس فقط للفلسفة الأرسطية بل للفلسفة اليونانية بشكل عام، فالطبيعة من منظور الوعي اليوناني ما هي إلا جواهر ثابتة وبالثالي لابد من مبادئ عقلية لكشف هذا الثابت ، في هذه السياقات المعرفية المنطقية اتخد مفهوم الهوية معنانيه ودلالاته التي ظلت تسيطر على الوعي الإنساني لقرون عديدة خاصة وأن كل المحاولات لتجاوز المنطق الأرسطي لم تفلح في ذلك، بدءا من الفلسفة المسيحية مرورا بديكارت وفرانسيس بيكون صاحب "الأورغانون الجديد ".
يقوم المنطق الأرسطي على ثلاثة مبادئ أساسية: مبدأ الهوية، ومبدأي عدم التناقض والثالث المرفوع، ويعني مبدأ الهوية أن الشيء هو هو ثابت لا يتغير بتغير الظروف والأحوال، ويعبر عن هذا المبدأ بالصيغة ( أ=أ)، فمبدأ الهوية يقتضي أن الشيء يبقى هو هو مطابقا لذاته في كل زمان ومكان، ومن هذا المنطلق فان الهوية من منظور ارسطو تتعالى على منطق الزمان والتاريخ ،أو بمعنى أخر ان ما يجعل الإنسان على ما هو عليه يجب أن يكون ثابتا لا يتغير، وهذا ما يتناقض مع منطق الحياة باعتبارها سيرورة وتغير ، فالموجودات بشكل عام تتغير باستمرار ولا شيء ثابت ولا شيء يوجد خارج التاريخ .
هكذا إذن ارتبط مفهوم الهوية على الأقل مع الفلسفة اليونانية بسياقات معرفية منطقية، على اعتبار أن المنطق الأرسطي في ماهيته آلية وقوالب معرفية غايتها كشف حقيقة الموجودات، وبالتالي فالدلالات والتحديدات التي اتخذها مفهوم الهوية تتحرك في مستويات معرفية منطقية، وهذا لا ينتقص من قيمة واهمية المنطق الأرسطي على صعيد مراكمة المعرفة الإنسانية بالأشياء والظواهر، لكن في المقابل من المجازفة والمغامرة المعرفية والأخلاقية القول بصلاحية هذا المبدأ، أو بالأحرى التحديد الأرسطي للهوية في فهم هوية الانسان ، لأن دائرة الإنسان هي دائرة الممكن، دائرة تنفلت من كل تحديد منطقي .
2. الهوية كتغير وتعدد واختلاف .
ينبع هذا التصور الإختلافي للهوية من الفلسفة المعاصرة، ويقطع بشكل جدري مع التصورات التقليدية بما في ذلك التصور الجوهراني الأرسطي، فالهوية في سياق الفلسفة المعاصرة متغيرة باستمرار، فما يجعل الشيء هو هو ليس بالظرورة ثابتا وواحدا بل متغيرا ومتعددا، مما يعني أن الهوية ليست معطاة بشكل قبلي بل هي بناء مستمر وانفتاح دائم على الممكن.
لقد جاء هذا التصور الجديد للهوية نتيجة التطورات والتحولات التي عرفتها المعرفة الإنسانية سواء في ميدان العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية حيث أن التصور الإختلافي للهوية يجد أساسا له على صعيد التوجهات العامة للمعرفة والوعي الإنساني، باعتباره يستند دائما إلى نتائج العلوم بكل انواعها، فالبيولوجيا مثلا كعلم يهتم بالحياة، يؤكد على التنوع والإختلاف كسمة تميز الوجود الإنساني.
هذه التحولات الكبرى التي عرفتها المعرفة الإنسانية سواء على مستوى العلوم الإنسانية أو الطبيعية ستساهم بشكل كبير في إعادة النظر في المقولات والمفاهيم التي تأسس عليها الفكر البشري منذ اليونان، فعلى الصعيد الفلسفي سيعمل فردريك نيتشه باعتباره أحد أبرز أعمدة الفكر الإختلافي المعاصر على نقد أسس الفكر الغربي، وقد جاء ذلك في سياق استراتيجية كبرى[4] تهدف إلى هدم الميتافيزيقا الغربية التي تقتل الاختلاف والتعدد، لتحقيق هذا الغرض حسب نيتشه لابد من هدم الأسس التي تقوم عليها هذه الميتافيزيقا بما في ذلك المنطق الأرسطي وبالتالي فإن النقد الذي وجهه نيتشه لهذا المنطق ومقولاته أكثر جدرية وأكثر عنفا، يقول في هذا السياق : "خلف ما يبدوا لنا كمنطق طبيعي للعقل البشري الذي تتأسس عليه الخطابات الفلسفية توجد دائما تقويمات وهي مستبدة من متطلبات فيزيولوجية ضرورية من أجل الحفاظ على نوع محدد من الحياة"[5] ،هذا النقد فتح المجال امام مقولات جديدة للفكر البشري حيث كفت الفلسفة عن ميتافيزيقا الحقيقة باعتبارها الثبات والمطابقة، ففي سياق الفكر المعاصر لا وجود لحقيقة خارج التاريخ، لأن الحياة تنفلت من كل تحديد مطلق واحادي ،وبالتالي فعوض الوحدة هناك التعدد، وعوض الثبات هناك التغير ،وعوض المطابقة هناك الممكن.
في ظل هذه السياقات الفلسفية العامة اتخذ مفهوم الهوية دلالات ومعاني جديدة أكثر مرونة حيث نجد الهوية لم تعد تعني الوحدة والمطابقة ،بل صارت سيرورة تنفتح فيها الذات على أفق الممكن، فالهوية لا تقبع وراءنا بل هي عملية بناء مستمرة.
يبدو مما سبق الفكر المعاصر في مختلف تجلياته يؤسس للهوية، تلك الهوية التي تضع في الحسبان أنها متغيرة ونسبية ضد كل الخطابات التي تؤمن بالهوية الواحدة والخالصة، فالفكر المعاصر لم يكن يوما ضد الهوية بل ضد الفكر الأحادي الذي يسعى إلى طمس الاختلاف بدعوى الوحدة، وضد ايديولوجية الهوية المتفوقة التي لم تنتج إلا العنف والخراب والدمار.
II. الثقافة وموقعها في البحث الأنتروبولوجي.
يعتبر مفهوم الثقافة من بين المفاهيم ذات العلاقة الوطيدة بحقل الأنتروبولوجية، فالبحث في موضوع الثقافة الإنسانية هو السمة المميزة لهذا الحقل المعرفي إلى درجة أن هناك فرعا داخل الأنروبولوجية العامة يهتم بشكل حصري بدراسة الثقافة، يتعلق الأمر "بالأنتربولوجيا الثقافية" وهي علم يهتم بصفة خاصة بدراسة مختلف تجليات الثقافة الإنسانية اعتمادا على مناهج دقيقة، تقول مارغريت ميد وهي -أنتربولوجية معاصرة- واصفة عمل الأنتربولوجي: " نحن نهتم بالإنسان نصف خصائصه البيولوجية والثقافية ،عبر الأزمان وفي سائر الأماكن ونحلل الصفات البيولوجية ،والثقافية المحلية كأنساق مترابطة ومتغيرة، وذلك عن طريق مقايس ومناهج متطورة"[6] .
إن الأنتربولوجيا بهذا المعنى علم قائم بذاته يهتم بالإنسان في مختلف أبعاده، مما يؤكد شمولية المقاربة الأنتربولوجية على اعتبار أنها مقاربة تدرس مختلف الأبعاد المكنونة للظاهرة الإنسانية بيولوجية كانت أم ثقافية أم اجتماعية، كما أنها مقاربة تعير الإهتمام بالطابع المحلي في دراستها لمختلف هذه النظم المرتبطة بالإنسان بما في ذلك النظام الثقافي، فالمقاربة الأنتربولوجية تهتم بالثقافة المحلية والهامشية والمنسية وهو ما يسمح بتغير تصور الناس وإدراكهم للثقافة ،فهي لم تعد تنحصر في الفكر والأدب بل أصبحت تحيل على ذلك الكل المركب الذي يشمل الحياة في مختلف أبعادها الرمزية والمادية، يقول تايلور محددا مفهوم الثقافة: "الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاقيات والقانون والعرف، وأي قدرات أو عادات أخرى يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع"[7].
من مميزات هذا التصور الجديد للثقافة أنه تصور شمولي يقف عند جميع تجليات ومستويات الثقافة على عكس التصور التقليدي الذي يربط الثقافة بالعنصر المادي مما أضفى عليها طابع الإنتقائية والنخبوية، كما أن هذا التصور الجديد سيفتح الأفق أمام التعدد كسمة مميزة للثقافة الإنسانية التي لم تعد تتعلق بالعرق وهو ما انعكس على تصورنا للهوية الثقافية التي تخلصت من الحمولة العرقية القطبية الخالصة والمتفوقة ، وصارت الهوية في سياق الفكر المعاصر نسبية متعددة ومختلفة ولعل البحث الأنتربولوجي خير ما يؤكد ذلك ،فمعظم الاتجاهات داخل الأنتربولوجيا المعاصرة تؤكد نسبية الثقافات وتعددها، وعلى رأس هذه الإتجاهات الأنتربولوجية البنيوية. فكيف تنظر هذه الأخيرة إلى الثقافة؟ وهل هناك ثقافة واحدة أم أن هناك ثقافات متعددة ؟ هل هناك ثقافة متطورة وأخرى متخلفة، أم أنه ليس هناك معاييرللتفاضل بين الثقافات؟
1. الأنتربولوجية البنيوية والتعددية الثقافية:
يعتبر كلود لفي ستراوس أحد أبرز الأنتربولوجين المعاصرين، يرجع له الفضل في قيام ما يسمى بالأنتروبولجياالبنيوية كأحد الإتجاهات الكبرى داخل الأنتربوبلوجية المعاصرة ،عرف كلود لفي ستراوس بأبحاثه حول شعوب في مختلف بقاع العالم، وعرف أيضا بتنبيه موقفا إنسانيا اختلافيا في تعامله مع ظاهرة الثقافة إلى درجة أنه رفض توظيف مفاهيم وتصنيفات دأب عليها البحث الأنتربولوجي والإثنولوجي، من قبيل ثقافة بدائية وأخرى متطورة، شعوب طفلة و أخرى ناضجة، يقول في هذا السياق "ليس هناك شعوب طفله كلها بالغة بما فيها تلك التي لم تقرأ يوميات طفولتها ومراهقتها"[8]،لقد كانت نية ستراوس من خلال هذا الكلام هي توجيه شجب شديد اللهجة إلى الذين ينظرون من عل إلى الثقافات الموسومة بالطفولة أو التخلف أو البدائية، فالموقف الأنتربولوجي في نظر هذا الباحث عليه أن يدرس الإنسان في أكثر حالاته تنوعا.
لتحقيق هذه المبادئ السالفة الذكر ينطلق ستراوس في تصوره للثقافة من نقد كل التوجهات السائدة في مجال الإنتربولوجية والإثنولوجية وطريقة تعاملها ومقاربتها للثقافة الإنسانية، فالمقاربات الإتنولوجية - الأنتربولوجية عبر تاريخها تتميز بموقف التمركز حول نموذج ثقافي[9]، فالموقف الإثنولجي في عهوده الأولى كان يتعامل مع الثقافات خارج ثقافته بمقولات ذهنية تختلف عن المقولات التي يتعامل بها مع ثقافته فكل ماهو خارج الثقافة الأم محكوم عليه بالدونية[10]، فهذا الذي يؤكد عليه لفستراوس متجدر في الثقافات الإنسانية لذى اليونان واليابان والعرب ( كنتم خير أمة أخرجت للناس)، (اليهود شعب الله المختار ).
أما الموقف الأنتربولوجي في القرن 19 حتى منتصف القرن 20 مع بداية الحملات الإستعمارية، فقد حاول أن يحد من غلواء الموقف السابق، لكن هذا السعي سيثمر مفهوم "الحضارة" باعتباره مفهوما قابلا للتسويق على المستوى الكوني على حساب التشكيلات الثقافية المحلية، مما نتج عنه مقولة "عالمية الحضارة والفكر الغربيين" ، فالدراسات الكولونيانية غايتها في أخر المطاف تسويق النموذج الغربي، فعوض الوقوف عند الاختلاف كوجود قائم الذات كانت الغاية هي الإدماج والإلحاق، وهذا ما رفضه ستراوس حيث يعتبر أن البحث الأنتربولوجي والإثنولوجي في كلا المرحلتين لم يفكر في الإختلاف، نظرا لأن الموقف الأول لم يكن يدرك المختلف إلا ليطرده من العقل ويحكم عليه بالهامشية والسفاهة، وكذلك الأمر بالنسبة للموقف الثاني، لأن إدراك المختلف في سياقه لم يكن إلا من أجل إلحاقه بالنموذج المتفوق باعتباره نسقا مرجعيا ومعيارا للفصل بين السوي والمرضي. ضدا في هذه الإستراتيجيات الموسومة بالتطورية والمركزية سيؤسس ستراوس لمقاربته لمسألة الثقافة، حيث سيعمل في البداية على نقد التصور التراكمي الخطي للتطور، كما سيرفض كل حثمية ميكانيكية يمكن القول بها كقانون يحكم التاريخ والثقافة ،مؤكدا على أن هذف بحثه الانتربولوجي هودراسة الثقافة في مستوياتها المتنوعة، ومعرفة الطريقة التي تختلف بها عن بعضها البعض، يقول "إن هدفنا الأخير في الحقيقة لا يقوم على معرفة ماهية المجتمعات موضوع دراستنا كل منها لحسابها الخاص بقدر ما يقوم على اكتشاف الطريقة التي تختلف بها عن بعضها البعض"[11]، فالمعرفة في عرف ستراوس لا تكون إلا بالفروق المفردة وليس بالمتشابه، على أساس أن هذه الفروق يتم إدراكها على أنها مجرد تمايز وليس أبدا تفاضل قائم بين الثقافات[12].
يرفض ستراوس مركزية الثقافة على حساب الثقافات الأخرى فبالنسبة إليه ليس هناك ثقافة متفوقة وأخرى متدنية، إذ يعتبر أن وهم الثقافة المتطورة والمتفوقة هو ما أنتج الكثير من المآسي التي عاشها الإنسان، وبالتالي فهو يشدد على ضرورة احترام الإنسان واحترام خصوصياته، يقول في هذا السياق"الإنسان الذي يبدأ باحترام جميع أشكال الحياة خارج شكله الخاص، يقي نفسه خطر عدم احترام الحياة وسط الإنسانية نفسها"[13]، ولهذا فإن ستراوس يعرف الثقافة على أنها تأقلم مخصوص مع واقع مخصوص وكل تأقلم يستند إلى حكمة تخصه فيها من الأصالة الشيء الكثير[14].
في كتابيه "العرق والتاريخ"، "والأبنية الأولوية للقرابة" لاحظ ستراوس أن وراء تنوع الثقافات وحدة ذهنية على اعتبار أن هناك عناصر أساسية مشتركة بين الإنسانية ،فالحضارات لا تقوم إلا بتركيب هذه العناصر المشتركة مما يؤكد أنه لا وجود للحضارة خارج هذه التشكيلات الإنسانية القائمة بذاتها وبخصوصياتها، حيث لاحظ أن التواصل والإتصال لا يمكن أن تعزى إليه هذه التشابهات نظرا لوجود حضارات يصعب الإتصال بينها لإنوزائها وتباعدها كحضارة "الذاهومي" في افريقيا،و"الانكا" في البييرو. من هذه المنطلقات يقر ستراوس أنه ليس هناك ثقافة أوحضارة متطورة و أخرى بدائية، بل هناك إجابات مختلفة لمشكلات أساسية ومثماتلة.
هكذا إذن تؤكد الأنتربولوجية البنيوية على تنوع الثقافات وتعددها ونسبيتها على عكس التصورات التي تعتبر أن هناك ثقافات متطورة وأخرى متخلفة وبدائية، هذه التصورات التي من شان شيوعها ان يزكي صراعات الهوية.
خلاصات:
نخلص من كل ما سبق أن قضية الهوية والتعددية الثقافية شكلت إحدى القضايا التي اهتمت بها مختلف العلوم وخاصة العلوم الإنسانية مما أفرز تصورات ومقاربات جديدة تجاوزت كل التصورات التقليدية حول هذه القضية، هذه التصورات الجديدة ستؤسس لمفهوم جديد للهوية وللثقافة، حيث أن الهوية لم تعد تعني الثبات والوحدة والمطابقة بل صارت تحيل على التعدد والتغير، كما أن الثقافة بدورها ستتخذ في إطار البحث الأنتروبولوجي معاني ودلالات أكثر شمولية مما وسع من دائرتها وجعلها نسبية ومتعددة، هذه التطورات المعرفية اسست لوعي جديد اكثر تسامحا واكثر انفتاحا، وضيقت الخناق على كل الخطابات المؤسسة للصراع الهوياتي والثقافي لانها عرت خلفياتها اللاعلمية.
لائحة المراجع:
ü محمد بن حمودة،الانتروبولوحية البنيوية او حق الاختلاف،دار النجاح الجديدة،الطبعة الثانية1990.
ü جيل دولوز فيلكس غيتاري : ما هي الفلسفة، ترجمة مطاع صدفي، المركز الثقافي العربي، الطبعةالاولى،1997
ü جون ديوي،المنطق:نظرىة البحث، ترجمة زكي نجيب الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر 1969.
ü محمد الأندلسي: نيتشه وسياسة الفلسفة، دارتوبقال للنشر،الطبعةالاولى،2006.
ü مجلة عالم الفكر العدد الثاني، المجلد 44- أكتوبر-ديسومبر-2015.
ü عزالدين دياب،دراسات انتروبولوجية تطبيقية،الدار الوطنية دمشق2006


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.