منذ القديم كان نقاد الشعر يشتكون من تطاول أشباه الشعراء على مملكة الشعر؛ بالرغم من كثرة الضوابط ووضوحها، فكانوا يسمون هذا خنديدا، وهذا مفلقا، وهذا شاعرا وهذا شعرورا حتى قال قائلهم: الشعراءُ فاعلمَنّ أربعَهْ فشاعرٌ يجري ولا يُجرى مَعَهْ وشاعرٌ يجولُ وسْط َ المَعْمَعَهْ وشاعرٌ لا تشتهي أنْ تسمَعَهْ وشاعر لا تستحي أن تصفعَهْ ولما فشا في ساحة الأدب ما سمي ب"الشعر الحر"، و"قصيدة النثر" وما قاربها من المسميات؛ كثر أدعياء الشعر وعلا صوتهم، وضجت بهم المحافل والملتقيات، والجرائد والمجلات، حتى عشنا زمنا نرى فيه من يعتلي منصة الشعر وليس في ذهنه قصيدة واحدة من شعر الأولين! والأدهى من ذلك والأمر أنه صار يدعي قول الشعر من يجهل جهلا مطبقا فرق ما بين الفاعل والمفعول، والحال والصفة، وغير ذلك من أبواب النحو العربي، فتراه يصك أسماعك وهو يدك نحو العربية دكا ليس له نظير، يخفض ما حقه الرفع، ويرفع ما حقه النصب وهكذا؛ ثم يسمي "قيئَه" في النهاية شعرا! أما أن تطالبه بشيء من علم الخليل ومسمياته فذلك ضرب من المحال! تلك قصة الشعر؛ وللعلم قصة أخرى، فما أكثر المؤلفات التي اشتكى فيها العلماء من تطاول ضعاف المعرفة، ومن إقحام الجهل بين أبواب العلم، يدفعهم إلى ذلك دفعا مرض الادعاء وحب الظهور. وقد حذرنا الرسول الأكرم عليه من الله نور وسلام من ظهور نابتة من الخلق ليس لهم من العلم نصيب، ينصبون أنفسهم علماء ومفتين فيَضلوا ويُضلوا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا ، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا). رواه البخاري فكان ذلك فعلا، وتحققت النظارة النبوية، ورحنا نرى أناسا تعلموا حديثا أو حديثين، وحفظوا سورة أو سورتين، وطالعوا كتابا أو كتابين؛ ثم انطلقوا يفتون في الدين بجهلهم، ويطلقون في الأحكام تحت مسمى "مفكر" أحيانا، أو"داعية" أحيانا أو"شيخ" أحيانا أخرى ... وأحينا دون مسمى! فتراه يفسق هذا أو يبدع هذا أو يكفر ذاك؛ إذا كان من أهل التضييق، وتراه يفتح للناس الباب على مصراعيه دون علم بالدليل الشرعي ومسالكه؛ إذا كان من أهل التوسيع بلا ضوابط شرعية. ذلك مدخله غياب الأخلاق؛ وحين تغيب الأخلاق، وتتعالى نفسيات الادعاء وحب الظهور؛ تشرع الأبواب لأمراض وعلل كثيرة، منها النفاق والكذب والتدليس والتلبيس والخداع وغيرها. ومما زاد من تعاظم مرض الادعاء؛ انتشار موجة أو موضة جديدة سميت ب"التنمية البشرية"، فنقلت إلينا معها مرضا خبيثا صار اليوم داء عضالا بعدما تلقفه الإعلام وأتقن ترويجه وتلوينه، ذلك المرض هو المسمى "خبير"، فقد كان يسمع في البداية في مجال التنمية البشرية، وبعض المجالات مع التحفظ، ثم اتسعت دائرة استعماله لتعم مجالات كثيرة، فصارت وسائل الإعلام تطالعنا يوميا بمسمى "خبير" مرات ومرات في ذات اليوم، ومن ذلك "خبير في الشؤون الدولية"، "خبير في الحركات الإسلامية"، "خبير في الشؤون البرلمانية"، "خبير في شؤون البيض والفاصواليا"، "خبير في دواء الفئران والصراصير" ... خبير .. خبير .. خبير ولو كانت هذه الصفات تمثل حقيقة الموصوفين بها لما كان في القضية أي إشكال، ولما كان هذا المقال ليكتب أصلا، لكن انتشار الداء واكتساحه هو الذي ألزمني بالكتابة؛ فإنه لمن المزعج حقا أن تشعر بالإعلام يمارس عليك التضليل والتحايل بهذه الطريقة الخبيثة، لتحقيق أغراض معينة. فحين يستضيف شخصا معينا، ويحمله تلك الصفة الوهمية؛ تلقي إليه سمعك لترى ما يقول، وحين يفوه بما لديه تحس بالمرارة والشماتة، لأن قوله ذاك لو جاء طالب في بداية التخصص في المجال لقال خيرا منه، ولكن الإعلام له غايات وأهداف أخرى! إننا نعيش حالة تغول إعلامي لا يجدي معها الدفاع في أغلب الأحيان، فمتى يكون الهجوم؟ على كل حال؛ إنما كانت الغاية التنبيه إلى هذا المكر الإعلامي، حتى لا يدلس علينا بهذه المسميات والصفات، والعصر عصر صراع المصطلحات. ثم التحذير من انزلاق ذوي المروءة والأخلاق إلى عوالم هذه البركة الآسنة، والقبول بهذه البهرجة الزائفة، ونسيان قوله تعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الشورى (36)، وقول القائل: "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك"، فالبدار البدار قبل فوات الأوان أبناء الآخرة.