لأني ذكي، ولي طموحات خاصة آليت على نفسي أن أحققها، فقد سعيت إلى أن أكسب ود ساكنة الحي العشوائي الذي أنحدر منه، والذي غبت عنه ترفعا مذ أن عينت في الوظيفة العمومية، كخطوة أولى ضرورية لتحقيق مبتغاي لهذا الغرض، توفقت في تأسيس جمعية مدنية لم يمانع أحد ممن جندتهم في أن أترأسها. وترأستها. وسميتها: "الجمعية الفاضلة للتنمية الشاملة". ووضعت لها شعارا ما أظن أحدا سبقني إليه. منطوق الشعار: (لا تنمية سليمة بدون بيئة سليمة). وخلت أن ذكائي أسعفني في اختيار هذا الشعار الموفق. وخلت أني تفوقت على من يعزفون وتري البيئة والتنمية، بأن أضفت عنصر السلامة الذي تكرر مرتين في الشعار. والأهم عندي أني توفقت في الخطوة المحورية بأن أصبحت رئيسا لجمعية. واتخدت من يافطة " رئيس الجمعية" مدخلا أساسا لولوج مضمار اللعب مع الكبار، وفق استراتيجية مرسومة ومدروسة بعناية. وكذلك آمنت. ولأن منطلق استراتيجيتي تجمع سكاني عشوائي بهيكلة عجيبة في مدينة صغيرة ومهمشة خضعت لكثير من التدخلات الجراحية لدرء تشوهاتها بلا طائل في المناسبات الرسمية أو عند زيارة مسؤولين من العيار الثقيل، فلكم أن تتصوروا كم سيكلفني الأمر من جهد ووقت ومال ؟ ولأن الحي عشوائي، فليس أحسن من أن أراهن على قطاع البيئة والنظافة نظرا للحالة الكارثية التي يوجد عليها الحي. ورغم أني أدرك هول ما ينتظرني من عمل مضن وتكلفة باهظة، فقد كنت أومن بأن ما ينتظرني من جاه يستحق العناء. والغاية تبرر الوسيلة. والعبرة بالخواتم. والمجد الرفيع لا ينال حتى يراق على جوانبه كثير من الجهد والمال. وانخرطت جمعيتي في تنفيذ مشروعها، الذي لم يكن إلا تمويها لتحقيق مشروعي أنا. وللشهادة، فقد أبدى أعضاء المكتب استعدادا كبيرا وحماسا وافرا. وكنت أهمس لنفسي: ما أغبى هؤلاء المساكين ! ورغم أني كنت أتأسف لهم، فقد كنت أبرر: لا بأس، هي الحياة هكذا. الأغبياء فيها موجودون لخدمة أجندة الأذكياء. وأبتسم. بعير قليل من االشماتة، أبتسم. بدأنا أولا بتشخيص الوضعية. فكان لابد من أن نحصي البؤر السوداء في الحي. والحمد لله، لم تأخذ العملية منا جهدا ولا وقتا، إذ خلصنا بسرعة إلى أن الحي برمته بؤرة سوداء. ثم مررنا إلى وضع برنامج عمل بنيناه على شقين: شق توعوي تحسيسي. وشق ميداني تطبيقي. وشرعنا في العمل. نظمنا لقاءات تحسيسية كثيرة تؤكد على أهمية البيئة في علاقتها بالتنمية والعيش الكريم. دعونا إليها خبراء ومهتمين ورجال أعمال وكبار المسؤولين.. في اللقاءات الأولى كان الحضور ملحوظا. وصار اسم " الجمعية الفاضلة" اختصارا، يتردد هنا وهناك، وفي الدوائر الرسمية. وطبعا كنت أدعو بعض الأقلام المرتزقة لتكتب عن اللقاءات بالمقابل، فقد كنت على وعي تام بأهمية الإعلام في إنجاح أو إفشال أي مشروع. مع توالي اللقاءات التحسيسية، وفي الحقيقة كانت في غالبيتها لقاءات مكرورة ورتيبة، صار الحضور يتقلص باستمرار بعد أن شبع الناس من الكلام المنمق إلى حد التخمة. الشئ الذي اضطرنا إلى أن ننزل للشارع، ولا نكتفي بعقد لقاءات في أماكن مغلقة. وصرنا نتصل بالناس. نحثهم على النظافة، وعلى العناية بالبيئة. ووضعنا ملصقات كثيرة من قروضي. وتجولنا بمكبرات الصوت في أزقة الحي وفي السوق الأسبوعي. وكنا نقول للناس: النظافة من الإيمان، ولا كرامة لإنسان يعيش في بيئة غير نظيفة. ولنقرن القول بالفعل، ارتأينا أن نوزع أكياسا بلاستيكية على السكان، ووزعناها، ومن قروضي. واتصلنا بالمجلس البلدي، ونجحنا في أن نحصل منه على حاويات للقمامة وضعناها في الأماكن الأكثر إفرازا للنفايات، وجندنا بعض شباب الحي وأطفاله للقيام بحملات نظافة، وبدأ الجهد يؤتي أكله، وبدأ الثناء ينهال على جمعيتي. وطبعا، أنا الجمعية والجمعية أنا. إذا أثني عليها، فقد أثني على شخصي. وصرت أتلقى دعوات، بصفتي رئيسا للجمعية، من جهات كثيرة. وأكثر من هذا، أشركت الجمعية في أكثر من مشروع له علاقة بتدبير الشأن العام. وفكرت: ها مشروعي بدأ يتبلور. وابتسمت ابتسامة تنم عن ثقة لا يساورها أدنى شك. ونسيت الأقساط الشهرية التي تقتطع من راتبي. بل نجحت في استثمار القروض المتراكمة علي للدعاية الشخصية باعتباري جمعويا يضحي بقوت عياله من أجل المصلحة العامة. يا لي من ذكي ! وما مرت إلا بضعة أشهر، حتى عادت حليمة لعادتها الذميمة. اختفت كل حاويات القمامة من الحي، أو كادت. وصارت الأزبال تلقى في كل الأماكن بلا حسيب أو رقيب. وتكدست أكوام النفايات من جديد. وابتأست. طبيعي أن أبتئس، إذ لا شئ يضمن نجاح مشروعي إذا لم ينجح مشروع الجمعية التي أنا رئيسها. كنت أراهن على امتلاك شعبية واسعة، ومصداقية كبيرة تضمن لي النجاح الأكيد في أي انتخابات أخوضها. وكنت أسعى إلى أن أجعل السكان يدفعونني دفعا للترشح من غير أن أفصح عن نواياي. غير أن استهتار الساكنة، كان يبعث في كثيرا من الخشية والتوجس. فما كنا نخال أننا قضينا على بؤرة سوداء، حتى تنبت بدلها بؤرتان أو ثلاث. وصرت كأني أحارب طواحين الهواء. دعوت مكتب الجمعية إلى اجتماع طارئ لتدارس الوضع، وإيجاد حلول تقطع مع الممارسات المستهترة للساكنة. وفي الواقع، الساكنة معذورة. فعلاوة على مظاهر االفقر والجهل، والأمية المتفشية في وسطها، لم يكن للبنية التحتية وجود؛ فلا قنوات لتصريف المياه العادمة، ولا مطارح للنفايات، ولا شبكة للمياه الصالحة للشرب.. أما المرافق الاجتماعية والثقافية والرياضية والترفيهية، فترف لا تحلم به الساكنة. تداولنا في الأمر. وقرّ الرأي على أن سبب الفشل رغم الجهود المبذولة، يعود إلى ذهنية السكان. وتغيير هذه الذهنية يحتاج إلى عمل جبار وإمكانات هائلة ونفس طويل. أما النتائج فلن تتحقق، إن تحققت، إلا بعد أجيال. قلنا: ما العمل؟ طُرحِت أفكارٌ رفعتْ شعار التحدي عن حسن نية ورغبة أكيدة في مواجهة الوضع البيئي البئيس. وبما أن الحماس والرغبة وحسن النية شئ، والواقع شئ آخر، فقد ارتأى أعضاء مكتب الجمعية، باقتراح من مستشارها، أن نستعين بمصلحة البيئة التابعة لسرية الدرك، اعتبارا لهيبة المخزن عند الساكنة. والحقيقة أعجبني الرأي، وتحمست له. ليس لأنه رأي صائب وعملي، ولكن لأنه يتيح لي أن أطرق أبواب السلطة التنفيذية، وأجالس قائد الدرك باعتباري رئيسا لجمعية مدنية تنشد المصلحة العامة. استقبلني السيد القائد بأدب جم ومعاملة مميزة، حتى خلت أنه يضع لي ألف اعتبار. الشئ الذي جعلني أتمادى قليلا، لألح بنوع من الحدة على ضرورة التدخل السريع والناجع لرجال الدرك المكلفين بمراقبة الوضع البيئي. وقلت للرجل في نطاعة لا مبررلها : لا يعقل أن تضحي الجمعية الفاضلة، ورجال السلطة المعنيون غير آبهين. لم يمتعض الرجل، ولم ينزعج. بل هدأ من روعي المفتعل، وطمأنني ووعدني خيرا. بعد ثلاثة أيام، زارتنا لجنة من أربعة دركيين عقدوا معنا جلسة عملية قدمنا لهم فيها تقريرا شاملا عن الوضع البيئي بالحي، ثم انصرفوا إلى جولة ميدانية ليعاينوا الوضع في عين المكان. طبعا هالهم ما رأوا. بعد أسبوع، توصل السكان بإشعارات ذعائر، مع التأكيد الصارم على وجوب الأداء في مدة أقصاها شهر. كانت ضربة قاسمة، أصابت مشروعي في مقتل. وكنت خلال ذاك الشهر، أنبذ رجل في الحي وأتعسه. ووصفت بأبشع الأوصاف وأشنع النعوت، أهونها: غدار، محتال، عميل... وتبخرت "الجمعية الفاضلة للتنمية الشاملة"، وتبخر معها مشروعي الخاص. وإلى اليوم ما زالت تبعات القروض تلاحقني. ولا تسألوا عن تأثيرات ذلك داخل أسرتي الصغيرة وعلى من تذاكى، تدور