أنماط العنف المدرسي: من المسلم به أن المدرسة -كوكالة أساسية للتنشئة الاجتماعية للأطفال- بقدر ما هي بيئة تعلم ونمو للأطفال، فهي أيضا بيئة آمنة ومنظمة تتوافر فيها شروط السلامة وقواعد النظام والانضباط. ومع ذلك قد تمارس أساليب في المدرسة تقوم على القسوة والعنف مع الأطفال، وقد تشهد البيئة المدرسية أحداثا من العنف الموجه ضد الأطفال، الأمر الذي قد يجعل المدرسة وسطا مشبوها مشوبا بالتوتر والخطر والتهديد بالخطر. وتلك ظروف لا تساعد على تعزيز مناخ التعلم في المدرسة، ويمكن رصد الأنماط الشائعة للعنف ضد الأطفال في المدرسة في نمطين رئيسيين، قبل أن نضيف لهما نمطا ثالثا خفيا، سنتعرض له بالمناقشة والتفصيل من خلال ما يأتي من تحليل. أ- العنف المادي البدني: هو أي سلوك ينطوي على الاستخدام المتعمد للقوة ضد جسد آخر تسبب له إصابات بدنية أو ألم، ويشمل الضرب، الخنق، اللكم، الرفس، الجرح... الخ)، وقد ينتج عنه إصابات بدنية (رضوض، جروح، كسور، وغيرها من الإصابات) قد يكون العنف المادي الجسدي ناتجا عن أساليب تربوية قاسية أو عقوبة بدنية صارمة غير ناجمة عن رغبة متعمدة في إلحاق الأذى بالطفل. وهذا ما نجده بالضبط في مدارسنا حين استخدام المعلمين أو غيرهم من أعضاء الهيئة المدرسية العنف في التعامل مع الأطفال والذي يأخذ أنماطا مختلفة، هذا علاوة على عنف الأطفال ضد الأطفال، مثل المشاجرات الحادة والاقتتال، وما قد تنطوي عليه من مخاطر استخدام آلات حادة أو مواد خطيرة، وتكوين عصابات بين جماعات الأطفال، أو تخريب أدوات أو أشياء تخص بعض الأطفال، أو التعقب والمطاردة، أو إطلاق النيران في المدارس، أو ترويج المخدرات بين الأطفال في الساحة المدرسية، أو داخل الفصول الدراسية، أو الاعتداء الجنسي وما يصحبه من تداول للأفلام والصور والمجلات والأقراص المدمجة في المدارس عن الأفعال والمشاهد الجنسية الفاضحة والشذوذ الجنسي، كما قد يتعرض الأطفال للعنف البدني والخطر من قبل طفل أو أطفال يقومون بأعمال من التنمر أو "البلطجة"... يبقى مع ذلك أن أهم تجليات العنف المادي التي تتمظهر في الوسط المدرسي الحالي، هو العقاب البدني للطفل، والذي سنحاول الاستفاضة فيه قدر الإمكان قصد التعرف عليه، وعلى اعتبار أن –مدارسنا- لا تخلو منه؛ فربما أول ما يتبادر إلى ذهننا عند الحديث عن العقاب كعنف هو ذلك الجانب المرتبط بالجسم أو ما يسمى بالعقاب الجسدي، الذي هو جزاء سلبي عن غلط أو خطإ أو فعل يستوجب اللوم، ويطرح استعماله مشكلا، وقد بينت أبحاث علم النفس التجريبي أن استعماله بطريقة معتدلة وفي الوقت المناسب، يمكن أن يحسن التحصيل الدراسي، لكن في ميدان التربية يتطلب احتياطات كثيرة.فمتى يمكن استعمال العقاب البدني؟ ولماذا يستعمل هذا العقاب؟. إن طرح هذا السؤال يعني أننا الآن نبحث في الاتجاه الذي يقر بالعقاب البدني ويلزمه، ولذلك وجب معرفة متى يستعمل هذا النوع التعنيفي، أو بصيغة أدق معرفة ماهية العتبة التي بدأ منها يرخص هذا الاتجاه لإنزال هذا النوع من العقوبات بالطفل التلميذ. إن هناك اتفاقا شبه كلي لأصحاب هذا الاتجاه، بأن العقاب البدني هو آخر وسيلة يمكن استعمالها بعد استنفاذ باقي الوسائل، وهذا ما يبرزه "فاخر عاقل" في كتابة "معالم التربية" في الفصل المتعلق بالعقوبات : "ولا يجب أن نصل إلى العقاب الجسدي إلا بعد أن نكون قد استنفذنا وجربنا كل وسيلة (...) وقديما قيل: آخر الدواء، الكي". ونفس الأمر يراه "عبد الحميد فايد" حينما يقول: "وعلينا كمربيين أن نستخدم المكافأة والعقوبة عند الحاجة القصوى". ب - العنف النفسي العاطفي: هو أي سلوك انفعالي له انعكاسات على الصحة النفسية والعاطفية للطفل، ويشمل التهديد، العزل، الاعتداء الفظي، الإذلال، الاحتقار، التجاهل، البرود، القسوة... الخ)، ذلك أن البيئة المبنية على الذم والاحتقار وعدم احترام المشاعر النفسية للطفل وسواها من الممارسات كفيلة بأن تخلق حالة من التمرد والعصيان وإثارة الروح العدوانية والكراهية والحقد. فكما هو معلوم للجميع، يعتبر أول دخول إلى المدرسة في سن السادسة أو السابعة، إحدى الطفرات الفجائية التي تحفل بها حياة كل طفل إنساني، مفتتحا بذلك طورا جديدا وعمرا جديدا في مجرى الطفولة، وهذه الطفرة مشابهة في أهميتها لما كانت عليه صدمة الولادة ولما ستكون عليه ثورة المراهقة، فالذي يتغير بصورة كلية بالنسبة للوليد في بضع دقائق أو بضع ساعات إنما هو البيئة البيولوجية الخارجية، أما بالنسبة للطفل أو المراهق فهو البيئة الفيزيولوجية الداخلية، التي تنعكس تعديلاتها السريعة على الحياة النفسية، التي توقع فيها اضطرابا عميقا. ومدار الأمر بالنسبة للصبي أو الصبية اللذين يدخلان الطفولة الكبرى بدخولهما ذات صباح خريفي، العمر المدرسي،هو التلاؤم مع بيئة اجتماعية باعثة على الخوف وجذابة في وقت واحد، بيئة يرغب الطفل في التكامل معها رغم أنه يحس فيها أولا بكثير من العنت، بيئة يختلف نظامها، في كل الأحوال، اختلافا بينا عن نظام الأسرة، وهو النظام الوحيد الذي عرفه حتى ذلك الحين. (...) وهناك قد يجد الرفاق "القدماء" الواعون لتفوقهم والمحتقرون أو الساخرون، وهم يبذلون الحماية أحيانا لزيادة الدلائل على عزلة الجديد وعزله، أما الجدد أنفسهم صاخبون متصفون بروح التحدي، لا يهتم أحدهم بشيء مطلقا خلاف حماية نفسه من عداء وهمي أكثر منه واقعي، ليس في الحقيقة إلا صدمة العودة على ارتباكه الخاص. وكلهم شهود لا يتعاطفون مع القادم الجديد، ميالون إلى المماحكة، سريعوا السخرية بل الإيلام الجارح لاسيما بالنسبة لمظاهر العاطفة الصبيانية، وسبب ذلك دون شك شيء من الغل لأنهم لا يستطيعون إبداء هذه العاطفة أنفسهم. أما الجهاز المدرسي الإداري فعنفه العاطفي وتأثيره النفسي ربما أقل عمقا أو أخف، وهو غير مباشر يصل إلى الطفل عبر سبل ملتوية، ومن خلال تأثيره في عناصر أخرى متواجدة مع التلميذ في المجال المدرسي، ولاسيما تأثيره في المعلم؛ فهذا الأخير له علاقة مباشرة مستمرة بالجهاز الإداري ورئيس المؤسسة، وله في نفس الوقت علاقة مباشرة بالمتعلم في الفصل الدراسي، ويهمنا هنا أن علاقة المعلم برئيس المؤسسة والجهاز الإداري، تترك في نفسه تأثيرات إيجابية وسلبية حسب نوعيتها، تلون عواطفه ومواقفه في الفصل الدراسي، وعن هذا الطريق يتأثر الطفل عاطفيا بهذه المواقف، وأسوأ ما يمكن أن يحدث أن الحمل المادي والمعنوي الذي يثقل به الجهاز الإداري كاهل المعلم، يقع في النهاية على كاهل المتعلم بشعور أولا شعور، فالطفل يبدو في النهاية كنقطة ارتكاز رئيسية ووحيدة، تتجه نحوها كافة الضغوط المتواجدة في المجال المدرسي، ولذلك فإن الطفل في هذا المجال أو هذا المتعلم الذي وجدت المدرسة بكل إمكاناتها وطاقاتها لأجله، يصبح هو بذاته مجرد وسيلة يستخدمها الآخرون للتنفيس عما بهم من ضروب الاضطراب النفسي الاجتماعي، ويعوضون بها عما يعانون من نقص في النضج الوجداني، أي بعبارة أخرى أنه أصبح موجودا من أجلهم، بعد أن كان من المفروض أنهم يوجدون من أجله. ج - العنف الرمزي: هو ذلك العنف الثقافي (سواء ثقافة الدولة، المجتمع...) الذي يتلقاه الطفل بعيدا عن ثقافته الرسمية، وبالتالي يكون هناك تعسف ثقافي ضد الطفل، انطلاقا من ثقافة الطبقة السائدة المختلفة عن ثقافته وهو عنف خفي قلما تناولته الأبحاث والدراسات التربوية، وربما لا يعرفه إلا القليل من أخصائي التربية والتعليم على المستوى الحالي، إذ لم يلحظ بشكل مضطرد إلا في الآونة الأخيرة خصوصا مع بروز بعض الدراسات والأبحاث الحديثة الخائضة في تحليل وفهم الأنظمة التعليمية المعاصرة السائدة في المجتمعات الحالية، ويبدو واضحا، في هذا الإطار، بأن ما أنجزه "بيير بورديو" و"جان كلود باسرون" من أعمال متميزة، يستحق الاطلاع والتحليل والمناقشة، ومن ذلك على سبيل المثال بعض الأسس النظرية في العنف الرمزي، وبخاصة أطروحتيهما "إعادة الإنتاج" و "الورثة". وتقوم نظرية إعادة الإنتاج على مسألة منطقية مفادها أن "كل نفوذ يتمكن من أن يفرض معان معينة بصفتها معاني مشروعة، وأن يفرضها عن طريق إخفاء علاقات النفوذ التي هي أساس قوته، يكون بذلك قد جمع قوته الرمزية الخاصة إلى علاقات النفوذ المشار إليها". وهكذا يصير كل فعل تربوي عنفا رمزيا، يمارس تعسفا مزدوجا، وهو فعل تصنعه علاقات النفوذ بين المجموعات أو الطبقات المؤلفة لتشكيلة اجتماعية محددة، وهو ما يعتبر عيب المدرسة الرأسمالية -حسب "ماركس" و "إنجلز"- إذ لا شك أن أطفال الطبقة العاملة الذين يقضون معظم أوقاتهم في الشوارع والأزقة، يصطدمون بالمضمون الاجتماعي الثقافي الذي تعمل المدرسة الرأسمالية على تلقينه لهم دون أدنى اعتبار لمحيطهم الأصلي؛ إذ ترسخ فيهم المضمون الاجتماعي الثقافي الرأسمالي بالقوة والعنف، فحقائق الطبقة العاملة تتعارض مع حقائق الطبقة السائدة طالما أن شروط الوجود الاجتماعي لدى الطبقة العاملة، تختلف جوهريا عن شروط الوجود الاجتماعي لدى الطبقة السائدة. وإذا كان كل فعل تربوي، بصفته قدرة من العنف الرمزي، يمارس سلطة بيداغوجية واستقلالا ذاتيا للهيئة المكلفة بممارسته، فإن المتقبلين التربويين "مستعدون تلقائيا للاعتراف بشرعية المعلومات المنقولة إليهم وبالسلطة التربوية لأجهزة الإرسال التربوية، فهم إذن مستعدون لتقبل واستبطان الرسالة". فعلى سبيل التدليل، يعني وجود مؤسسة تربوية قبل كل شيء وجود قوانين تسير عليها هذه المؤسسة، ووجود نظام. فهذا النظام والتنظيم والانضباط يوجد في صميم الطبيعة الاجتماعية للكائن البشري، وعلى ذلك فلن نخطط إلا وهما إذا كنا نرمي إلى تأسيس مجال مدرسي خال من النظام والانضباط، وبالتالي غير خاضع للقانون ولذلك فالمدرسة بدورها من حيث أنها تضم في مجالها كائنات بشرية من طبيعتها وضع القوانين والانضباط بها، ومن حيث كونها مؤسسة اجتماعية صغرى، وجدت أساسا لتنوب عن المجتمع في إعداد وتكوين الأجيال المتكيفة معه، ومن حيث أن كل خلية أو مؤسسة اجتماعية صغرى، لا تخلو من قوانين خاصة بها داخل القوانين العامة للمجتمع الكبير... من حيث أن المدرسة هي تلك، فلا بد من وجود قوانين بها، تحدد الحقوق والواجبات والأدوار والمسؤوليات كما تحدد الأهداف والوسائل والطرق والغايات. محمد الغرباوي