كثيرة هي المجهودات ومكثفة، تلك التي تبذلها مختلف الأجهزة الساهرة على جعل المنظومة التربوية منظومة فاعلة وناجعة في بناء وتكوين الإنسان المغربي، سواء من حيث البناء السلوكي أوالذهني أو اكتساب المهارات الأدائية، أو من حيث تحصيل المعارف الممتدة المؤهلة لخوض الحياة ضمن الإيقاع المجتمعي الوطني في شكله السليم. ذ. عبد السلام عبلة إن هذه المجهودات، رغم أنها تصدر عن أجهزة عليا، ورغم أنها تمر عبر قنوات قد تكون مهمة على المستوى الهيكلي لقنوات إعداد وتجهيز أبجديات المنظومة التربوية، إلا أنها إذا ما بلغت مرحلة التطبيق والتنفيذ تصبح متوقفة على مدى نجاعة آليات هذا التنفيذ التي تتموقع إداريا في أسفل الهيكلة التي سبقت الإشارة إليها، ولعل الفصل الدراسي، أو ما يصطلح عليه بالصف، هو مركز هذه الآليات وفضاء اشتغالها، بحيث فيه يتم نقل وتوصيل المقررات إلى المستهدفين والمستهدفات بمضامينها القيمية والمعرفية وحقنها الإيديولوجية الرامية لبناء شخصية وطنية سليمة، نافعة ومحققة للترقي الذاتي ومنتجة للسلوك الإيجابي تجاه المجتمع والوطن. إن المتعلم كنقطة وصول للمعلومة أو القيمة أو غيرهما من لبنات بناء العقل والشخصية، كائن مركب، هكذا هو الإنسان، كائن مركب ليس من السهل الاشتغال عليه دون التوفر على إمكانات مادية ومعرفية قادرة على احتواء هذا التركيب. وبالتالي فإن احتواء هذا المتعلم(ة) المفترض، لن يتحقق إلا بمعرفته معرفة واعية بالظروف والوضعيات والخصائص التي تميز كل واحد أو فئة منه على حدة. وباعتبار الصف فضاء لاستنباط هذه المعرفة، ومجالا تفاعليا بين المدرس ومتعلميه، فإن إدارته ليست بالأمر الهين، إذ «تعد كفاية المدرس في إدارة الصف شرطا ضروريا لحدوث التدريس الفعال». إن عملية التعلم السليمة، مشروطة بدورها بتوافر الأجواء المواتية داخل الصف الدراسي، ذلك أن «الجو الهادئ داخل الصف يساعد على سرعة التعلم»(1)، وهذا الهدوء يعني غياب الاختلالات والمخالفات التي من شأنها زعزعة استقرار الصف والتشويش على إيقاعات الاشتغال فيه. بمعنى أن تسود أجواء تربوية جادة وانضباط صفي كلي يسمح بتحقق تدريس فعال. وهي شروط تتحقق بدورها نتيجة تدبير محكم وواع للصف من لدن المدرس، فكيف ذلك وما السبيل إليه؟ ا)ما هو تدبير الصف الدراسي: تدبير أو إدارة الصف الدراسي، تعني الممارسات والأنشطة التي يعتمدها المدرس بغية «تنمية الأنماط السلوكية المناسبة لدى التلاميذ، وحذف الأنماط غير المناسبة، وتنمية العلاقات الإنسانية الجيدة، وخلق جو اجتماعي إيجابي، وتحقيق نظام اجتماعي فعال ومنتج داخل الصف والمحافظة على استمراريته»(1)، وهي ممارسات وأنشطة رغم خلفيتها الإيجابية، إلا أنه من الممكن بل من المؤكد أنها ستصادف معيقات بمثابة مشكلات سلوكية من شأنها عرقلة تحقق الانضباط الصفي المنشود، لاترتبط (المعيقات) بالمتعلم وحده فقط بل بكل عناصر العملية التعليمية التعلمية داخل الفصل، بما في ذلك المؤسسة والأستاذ نفسه. فكيف يتحقق الانضباط الصفي الإيجابي إذا؟ وكيف التخلص من هذه المشكلات المعيقة؟ وماهي الحلول الممكنة؟ ب)معيقات الانضباط الإيجابي: قد يتساءل القارئ عن معنى الانضباط الإيجابي، وهل هناك انضباط سلبي في المقابل؟ نعم، فالانضباط الصفي لايعني السيطرة الكاملة على الصف بالمعنى السلطوي، ذلك أن تدبير الصف الدراسي، ليس هو تلك الطرق التسلطية الرامية لتحقق الاستجابة لتعليمات الإدارة من جهة، وقوانين المدرس الآمرة الناهية دون مناقشة أو اعتراض من جهة ثانية، ولا هي ذاك الانضباط غير المبني على قناعة لدى المتعلم بجدوى هذا الانضباط وإيجابياته، بل هي الامثتال الطوعي للتوجيهات وانخراطه في بناء حياة فصلية ضمن الحياة المدرسية المثلى، وهو طلب لايتأتى إذا ما شابت فضاءات المؤسسة وإداراتها أو مسلكيات الأساتذة إشارات دافعة لانسحاب المتعلمين من هذا الانخراط وضجرهم من العلاقات التي تربطهم بعناصر فضاءاتهم التعلمية، وبالتالي، فإن ضبط هذه الإشارات ورصدها بغية التخلص منها، ضرورة ملحة من أجل بلوغ درجة الانضباط الإيجابي المذكور آنفا، فما هي إذا؟ وهل بإمكاننا معالجتها؟ 1) معيقات الانضباط الصفي المرتبطة بالمؤسسة: إن عددا من المؤسسات التعليمية، خاصة تلك التي تستقبل اليافعين والمراهقين، تصطدم بنوع من التمرد والعصيان على مستوى الانضباط بشكل عام، وكثيرا من الإدارات، لاتربط ذلك بالتطورات البيولوجية التي تطرأ على المتعلم في هذه المرحلة من مراحل نموه، فالمراهق تزداد لديه الحاجة إلى تقدير الذات، ويتقوى لديه الشعور بالقيمة الذاتية، وهو ما يدفعه إلى مجابهة كل ما من شأنه أن يحسسه بالحطة وقلة الشأن، وهو بطبعه يندفع نحو ترسانة القوانين ليتمرد عليها كإشارة منه على أنه تجاوز مرحلة الوصاية، وبات قادرا على البث في مختلف العلاقات المحيطة به. من جهة أخرى، لاتسمح ضغوطات المقررات والتدبير الزمني للدرس الرسمي، بإيجاد هوامش مساعدة على فتح نقاشات جانبية بين الطرفين(المتعلم والإدارة)، وحتى إن أمكن ذلك فهو لايتم على أساس علمي قادر على التحليل والدراسة بشكل فعال،بل يتم من منطلق الوصي والموصى عليه، وهذا التصنيف المسبق غالبا ما ينعكس على القرارات التي لا تعتبر بالشكل الديمقراطي رغبات ومواقف الطرف الآخر المحكوم مسبقا بالصغر وعدم معرفة مصلحته، لذلك، فالقبضة الحديدية تصبح الملاذ الوحيد للإدارة حتى يستثب الأمن والأمان، وبالتالي، فهي بمثابة زيت يصب على النار، إذ يتمادى جنوح المتعلمين الميالين للخشونة والشغب أكثر فأكثر، وتنسحب عنهم سنوات التمدرس بالتكرار حتى يفصلون عن الدراسة بشكل نهائي، في حين تظل العلاقة السائدة بين المؤسسة والمتعلمين المنضبطين، علاقة ثكنية إن صح التعبير تنبني على السمع والطاعة، لاعلى الحب والولاء. أما في المؤسسات الابتدائية، فالانضباط رهين بقوانين الردع، ويبقى مشكل الانضباط في المؤسسات الابتدائية أقل تعقيدا منه في بقية الأسلاك، فغالبا ما يتحقق أخيرا، بغض النظر عنه إيجابيا كان أم سلبيا، وهو راجع في غالب الأحيان، إلى توافر الوصايات على سلوك المتعلم وتعددها من جهة، واستسلام هذا الأخير سواء برضاه أو بعكسه. ما تجدر إليه الإشارة هنا، هو أن معيقات الانضباط ذات العلاقة بالمؤسسة في العالم القروي، تمتد لعوامل خارجية أخرى، منها انتفاء شروط الاستقبال، وعدم توفر البنيات والمثيرات المحفزة للمتعلم على الدخول في حميمية مع مؤسسته كبناء وكتجهيزات وفضاءات مستفزة لروحه العابثة، المقترنة بطفولته الخالية من الخلفيات أو النوايا المدروسة، وهو ما يفسر كمية الإتلافات الهائلة التي يقف عليها المدراء والأساتذة عند الدخول من كل عطلة أو بداية موسم، سواء للتجهيزات، أو الرسومات أو أدوات التزيين أو الوثائق أو غيرها، كما يفسر كذلك، الاختفاء المستمر لكل أدوات الردع والتأديب المؤلم والتعنيف، كالعصي والأنابيب البلاستيكية وغيرها من الفصول، كتعبير عن رفض العقاب البدني، هذه الظاهرة التي تتفشى بشكل لافت في العالم القروي... 2) معيقات الانضباط الصفي المرتبطة بالأستاذ(ة): إلى جانب ما سبق ذكره عن المؤسسات على اعتبار أن الأستاذ جزء من مؤسسته فالأستاذ(ة) يمكنه بدوره أن يسهم في عدم تحقق الانضباط لدى المتعلمين، وذلك من خلال قيامه بأعمال قد لايدركها متسببة في ذلك، وهي أمور نذكر منها مثلا: التأخر عن العمل: بحيث أن دعوته لانضباط المتعلمين والتزامهم بتوقيت حصصهم ينتفي بانتفاء عدم التزامه بتوقيت حصصه، وخاصة، أن المتعلم لايحيط بالقوانين المنظمة لتأخرات الأساتذة، هو يراه حرا طليقا غير متعرض لأي عقوبات مرئية مثل التي يتعرض لها هو، مما يحيله على مصداقية العمل في الصف بكامله، ويترجم ذلك لديه بممارسات غير منضبطة كالتأخر هو بدوره. عدم الاعتماد على استراتيجية واضحة لدى الأستاذ في تحديد العلاقات والحقوق والواجبات، بحيث يحاسب على سلوك مرة ويتغاضى عنه مرة، كأن يتشدد في نسيان متعلم للوازمه ويتغاضى بالنسبة لمتعلم آخر، أو ينقطع عن هذه المراقبة زمن ثم يعود فجأة، أو يحدثهم عن أضرار ممارسة ويقوم بها هو كالتدخين مثلا... الجدية الزائدة أو اللين المفرط، بحيث يسمح الأستاذ بكل الممارسات دون تشذيبها أو يرفضها دون مبرر. تهديد الأستاذ لمتعلميه بأساليب رقابية لاينفذها. اعتماد العنف كوسيلة لضبط الصف،ذلك أن «الهدوء الذي يتلو القهر والضغط والإكراه من قبل الأستاذ كثيرا ما يقود إلى صحة نفسية سيئة. إن الأستاذ الذي يلعب دور الشرطي قد يتوصل إلى إقرار النظام والانضباط، ولكنه يكبث متعلميه...إن سلوكهم الظاهر في الصف قد لايكون مزعجا، ولكنهم مقابل ذلك لايتعلمون الاستقلال والمبادرة والشرف وضبط النفس، لذلك فهم يعجزون عن توجيه ذواتهم، ويجعل منهم أنانيين لايهتمون برفاه الجماعة وكثيرا ما يتبع ذلك سلوك معاد.»(2) عدم الاعتناء بالهندام والمظهر والاستخفاف بالمسلكيات الأخلاقية داخل الصف، كأن يلوك العلكة أو يدخن أو يتناول الشاي أو يأكل على مرآى من متعلميه. الإعداد المتذبذب للدروس، بحيث يدرك المتعلمون ارتباك الأستاذ وعدم تمكنه من مضمون التمرين أو الحصة، وفي هذا مساس بالتمثلات التي تكون لدى المتعلمين تجاه مصدر المعرفة لديهم، وهنا تصدق المقولة:»من كان سيد نفسه كان سيد صفه» الدخول في مماراة مع متعلميه، والإفصاح عن بعض مشاكلهم أو أسرارهم الخاصة أو مظاهر عجزهم أو عجز ذويهم، بهدف التجريح والإهانة، بالإضافة للمقارنات بين الأقران فيما يخص الإمكانات البدنية أو اللباس أو كل ما من شأنه إثارة الأحقاد والضغائن خاصة بين الفتيات... عدم استمتاع الأستاذ بعملة لدرجة ملاحظة ذلك من لدن المتعلمين. نقل التوترات العلائقية بين العاملين بالمؤسسة إلى المتعلمين، كأن» يلمح الأستاذ في غرفة الصف لطلابه بأن زميله أو بعض زملائه يتلفون وقت الطلاب أو يتساهلون في النقاط أو تعوزهم الكفاءات...وبديهي أن الطلاب يستشعرون هذه الروح ويستغلونها... وتقوم مشكلات انضباطية...»(2) نقل الهموم الشخصية وإقحام المتعلمات والمتعلمين فيها بحيث تتهرأ شخصية المدرس(ة) وتنهار كقيمة عندما يتحول لمستغل لبراءة متعلميه في السقي أو غسل السيارة أو حمل أبناء الأستاذ(ة) وخدمتهم أو جلب الحليب أوالبيض أوالخبز بالإجبار كما هو الشأن في عدد من مؤسسات العالم القروي. ... 3) معيقات الانضباط لإيجابي المرتبطة بالمتعلم(ة): إن المتعلم الوافد على مؤسسة تربوية، لايدرك حدود الأهمية ولا الرهان المعقود على هذا الإقبال من لدن بقية الأطراف، ولا يدرك أنه مندمج ضمن مخططات ومسؤوليات ومهام تناط بمختلف الجهات كي تتولاه بالتربية والتكوين داخل منظومة أخلاقية ومعرفية وسياسية معينة، بل هو يقبل على صفوفه بقناعة أن المسار الدراسي الذي يقطعه، إنما هو بمثابة استفادة من ترقيات يحققها بنجاحه، أو جمود يؤول إليه بسبب تكراره. غير عابئ بما يدور حوله من اشتغال يستهدفه أولا وأخيرا. ليبقى على المؤسسة فقط أن تعمل على ربطه بكل هذه الإعدادت والتخطيطات، ليس بالشكل الذي يجعل ذلك يبدو كالمن عليه بالخدمات، بل بالطرق التي تسرب إليه الإحساس بأنه مهم ويستحق الاعتناء، وبذلك، فالمؤسسة «تحقق الملاءمة بين حاجاته وبين متطلبات الحياة الجماعية، إذ ينبغي على المدرسة أن تساعد التلميذ على تحقيق ذاته جسميا وعقليا ووجدانيا، وتطوير كفاياته لجعله قادرا على امتلاك المهارات التي تمكنه من التواصل مع بيئته ومحيطه الاجتماعي والاقتصادي والفكري وتنمية شعوره بالاحترام لنفسه ولغيره، وانفتاحه على الثقافات الإنسانية.»(3)، لينتهي إلى قناعة أن المتعلم «هو وجيله» هو حجر الزاوية في العملية كلها، وهو الذي استأثرت سلوكاته بالدراسات ومختلف التجارب والعمليات التحليلية لمراحل تكوينه وغيرها. لقد ثبت عبر الممارسة أن «واحدا من أروع الدروس التي يتعلمها الإنسان هو أن قليلا جدا من صفاته توجد معزولة. إننا نجد في معظم الأحيان أن صفة معينة تكون جزءا من نمط الصفات أو مجموعة منها. وهكذا يلاحظ الأستاذ الواعي أن بعض تلاميذه المعينين يسببون كل المشكلات الانضباطية في حين أن الآخرين يكونون حسني السلوك ومهذبين.»(2) ويمكن سرد بعض هذه السلوكات التي تعيق الانضباط ومنها: اعتماد التفضيل فيما بين الأساتذة والمواد والحصص. التأخرات والتهاون في ضبط وإحضار اللوازم المقررة للحصص الدراسية. إغفال الواجبات والتمارين المنزلية. تناول الأطعمة أو مضغ العلكة في الصف. الشرود الذهني وعدم الارتباط والانخراط في مجريات الحصص الدراسية. اللامبالاة والعبث والوشوشة والحركة الجسدية كالوقوف غير المبرر أو حك الأرجل على الأرض أو تحريك المقاعد. القسوة أو العصبية أواللااجتماعية والانسحاب أوالهدوء العام أو الجبن الجسدي أوالتَّهمُّل والقذارة. الاستخفاف بممتلكات الصف ومنها إلى المؤسسة والعبث بها أو إتلافها. عدم احترام الرفاق أو الوافدين على الصف. ... هكذا إذا، نقف على عدد من معيقات الانضباط الصفي الإيجابي التي تشوش على فعالية التعلم، وندرك أن المشكلات السلوكية هذه، لاتقل أهمية عن باقي الإكراهات، وأن النظر فيها وتدارسها أمر في غاية الضرورة، وذلك بغية تشريحها وإيجاد استراتيجية لحلها أكانت نابعة من المؤسسة أم الأستاذ أم المتعلم، فكيف ذلك؟ ج) بالنسبة للمؤسسة: إن اعتماد هامش من المرونة المدروسة من لدن الإدارات، وتوفر المؤسسات على فضاءات من شأنها شد المتعلمين وشحذ حميميتهم وولائهم لمؤسستهم، من الشروط الضرورية لنشوء علاقة سوية بين المؤسسة ومتعلميها، كما أن اعتماد سياسة brise- glace لتجنب الروتين وإقامة أنشطة ترفيهية وثقافية وفتح مجالات لانخراط المتعلمين في برمجتها وإنجازها عوامل مساعدة على تحميس المتعلمين والدفع بهم إلى الانشغال بما يشرفهم أمام المشرفين عليهم. إن تجنب القوانين الزجرية المبالغ فيها، ووقف التعنيف وتحديد المسؤوليات بدل تدخل كل العاملين بالإدارة بحياة المتعلم من جهة، وإشراك المتعلم وذويه والمقربين له في مناقشة مخالفاته وتوريطه في الالتزام من جهة ثانية، يرقيه ذاتيا ويكسبه استقلالية وينمي لديه الإحساس بالمسؤولية. كما أن الإنصاف ضروري، خاصة في الأسلاك العليا فيما يخص المشاكل الناتجة عن شكايات الأستاذات والأساتذة أو غيرهم من العاملين بالمؤسسة، إذ أن التحيز المفرط فيما بين الكبار يؤجج الإحساس بالظلم ويشعل فتيل الأحقاد والضغائن، وينمي روح الثورة على القوانين الانضباطية والتعليمات. د) بالنسبة للأستاذ: كما سبق الذكر، فالأستاذ جزء لايتجزأ من المؤسسة، وكل ما ذكرناه يعنيه بدوره، إلا أنه في موقع أكثر قربا من المتعلم وأشد حساسية، فهو الذي ينتهي إليه بشكل يومي ويحاوره ويجادله ويحيط بمبادراته وسلوكاته، وهو الذي يثمن جهوده ويرصد تعثراته وخصاصاته المعرفية والسلوكية، لذلك، فدوره مهم في تحقيق الانضباط الصفي الإيجابي، إن لم نقل الانضباط في كل المرافق الأخرى، ليس بالنهج الأوتوقراطي أو الديكتاتورية، ولكن باعتماد مسلكيات منها: أن يكون أستاذا متحررا من الشعور بعدم الكفاية، يعرف موضوعه معرفة جيدة ولايختبئ خلف القسوة ليعطي نفسه أهمية ويعوض شعوره بالحطة. أن يهتم بالانضباط من أجل العملية التعليمية لا من أجله بحد ذاته. ان يعتمد الديمقراطية في علاقاته مع متعلميه سواء في أساليب التحصيل أو التقويم أو المناقشة أو مختلف آليات التواصل الصفية، ذلك أن «المتعلمين في الجو الديمقراطي التعاوني لايكونون تحت ضغط يسبب لهم القلق أو الخوف» أو أي حاجة لأي رد فعل يخل بالانضباط، «ثم إن ديمقراطية الصف أساس من أسس ديمقراطية المجتمع.»(2) أن يعتمد سياسة الثواب خير من العقاب، والثناء خير من التقريع، والتعبير خير من الكبت. أن يبدي استعداده للمساعدة ويوسع صدره في مجابهة ضغوطات الشرح والتوضيح وتذليل الصعاب المعرفية ولايتوانى في تحسيس المتعلم أنه مرغوب فيه. ألا يبالغ في الجدية لدرجة توحي بأنه يتصيد المتعلم أو يتعامل بسهولة زائدة لدرجة توحي بخوفه منه أو تحاشيه له. أن يجعل العقاب في حد ذاته اكتسابا للمهارات والمعارف والسلوكات الإيجابية. أن يتلافى كل ما من شأنه إشاعة الملل والضجر في نفوس المتعلمين أو يشوش على دافعيتهم للتحصيل. أن يعطي المثل في الالتزام بحصصه بحيث لايتأخر ويكون أول من يلج القاعة وآخر من يغادرها. أن يحترم براءة متعلميه ويقدر طفولتهم ويمنحهم الاحترام اللازم. أن يتنبه لجميع المتعلمين ويشعرهم بمراقبته المستمرة، ولا يدع المجال يتسع بهم في اتجاه استفحال السلوك السلبي. أن يبدي اهتمامه بميولاتهم ورغباتهم، ويتيح لهم فرص التعبير عما يخالجهم من أفكار وخواطر بهدف أنماء أحساس الانضباط الذاتي. أن تكون لديه قناعة التقويم الذاتي، بحيث يعاود مراجعة سلوكاته ومنجزاته مع متعلميه ويصنفها حسب السلب والإيجاب، ويسعى لتشذيبها نحو الأحسن. أن يتفادى كل المعيقات التي سردناها سابقا. ... خلاصة: إن مشكل الانضباط الصفي ليس وليد اللحظة، كما أن البث فيه لايخضع لصيغ محددة، بل هي صيغ تتنوع بتنوع المسببات للمشكل، وبتنوع مصادره، وعلى العموم،»فإن كثيرا من المربين ما يزالون يعتقدون «(1)أنهم ما لم يضبطوا طلابهم ضبطا دقيقا، فإن هؤلاء الطلاب سيفلتون من أيديهم، ولكن المبالغة في الضبط تحرم الطلاب من المساهمة في عملهم الذاتي، وهو أمر مرغوب فيه تربويا.» من جهة أخرى فكلما نشرنا الديمقراطية وأرسينا قواعد الإنصاف والإنصات، كلما انتقصت المعيقات، فقط «الأمر يحتاج إلى فهم وحنكة من طرف الأستاذ...كما أن الأمر قد يتطلب وقتا وجهدا، لاسيما وأن متعلمينا ومعظم أستاذاتنا وأساتذتنا قد ألفوا الطريقة الاوتوقراطية واعتمدوها طريقة وحيدة في التعامل»(1). إذ يستسلم الأستاذ من جهته لما يفرزه الشارع والمجتمع من معيقات تغير في شكل ذاك المتعلم المثالي الذي تمثله، ويتمادى المتعلم في عقوقه اللاإرادي، النابع من إملاءات المحيط المتغير دائما. إن تدبير العلاقات وضبط المبادرات والتعريف بالحقوق والواجبات، ليس درسا تشمله حصة أو حصص متعددة، بل هو عمل ممتد بامتداد العلاقة بين المتعلم والصف والمدرس والمقررات وكل حيثيات حياته المدرسية، ومواز في نفس الوقت للتطورات الذهنية والعقلية للمتعلم، وما يمكن للمؤثرات الخارجية أن تبثه فيها من قيم تتحمل المؤسسة التعليمية مسؤولية ترتيبها بما يتماشى والمشروع المجتمعي الوطني بشكل عام.