تخيل نفسك انك واقف أمام احد المسؤولين تريد أن يساعدك في الحصول على غرض يهمك , يطلب منك الجلوس على كرسي فخم وضعه لاستقبال الزائرين لمكتبه . جيد . الآن تتصور شخصك أمام هذا المسؤول , أنت تتكلم وتحترق أعصابك . وهو يطل عليك من فوق نظارتين جميلتين من النوع الرفيع , وبين الفينة والأخرى , تتدلى ربطة عنقه أمامك , فوق بذلة أنيقة باهظة الثمن , تجعلك تحترمه رغم انفك , يرفع سماعة الهاتف الثابت اللامع أيضا , ليقنع احد موظفيه لاتخاذ قرار في بحث أو مشروع معين , وأنت تحاول كسبه باستعطافك له مستعملا في ذلك كل عبارات الاستمالة والتحفيز والترغيب , ليرن هاتفه النقال البراق الموضوع أمامه , يضع هذا المسؤول المحترم قلمه الأزرق على زجاج مكتبه البراق , يتجاهل وجودك ,ويبتسم للفراغ , عفوا , بل يبتسم لصوت أنثوي تسمعه يخرج رقيقا من خلف سماعة هاتفه الموضوع بين أنامله النقية البيضاء الناعمة والتي لم تأخذ يوما ما فأسا ولا معولا طول حياته الماضية , يتمايل يمنة ويسرة مع حوار صاحبة الصوت العذب بعاطفة لا تحس بألمك ولا تشعر به , والغريب في الأمر انه لا يعترف بشخصك , ويستمر في القهقهة والضحك ... لتتوقف أنت عن السرد والحكاية . يضيف الموظف السامي البيروقراطي قائلا : أعد ما كنت تحكيه , لأني كنت مشغولا بالحوار مع رئيس محترم في الهاتف النقال , تستعد من جديد للم وجمع شتات الفكر بإعادة تفاصيل معاناتك وألم جرحك , يركز نظره في قامتك وصورتك , أنت تقص الأحداث , وهو يمعن في شخصيتك , وفي قرارة نفسه يتساءل : ما لهذا الغبي , يسرد حياته , و أنا لا أستطيع أن أفيده في شئ يهمه ؟ .وأجمل ما في هذا الموقف الدرامي البيروقراطي , هو أن المواطنين السذج - مثلي – يعتقدون انه يكفي زيارة مكاتب المسيرين والحكام , للحصول على المبتغى , والظفر بالغنيمة , وأية غنيمة ترجى من موظف متسم بسلوك بيروقراطي ؟ . حتى غدا وطننا الجميل منفذا طغت فيه البيروقراطية وكشرت عن أنيابها , كلما تقدم مواطن بسيط يريد قضاء مأرب من مآربه الحقوقية الواضحة واللازمة ,إلا وانتابه الإحباط والسخط على الوطن ومفهوم المواطنة الحقة . فإلى متى , سنلتقي بموظف قنوع متسامح , يتقدم إلينا حين ندق باب مكتبه , طالبا السماح لنا في كونه أو كون آلته الخاصة بعمله , قد سببت في عرقلة القيام بالواجب الوطني . يشتكي المواطنون من السلوك البيروقراطي , المخزني المتصلب , هذا السلوك المشين الذي لازال يضع العصا في عجلة قافلة النمو والتقدم والازدهار ... كيف يعقل من كادح بسيط , والذي لا يملك قوت يومه , أن يكون مرغما على تقديم دريهمات لموظف أحسن منه وضعا ماديا وفكريا واجتماعيا ... إلى متى سنرى إداراتنا غير مدنسات بالباحثين عن الثراء بالمال الحرام ؟ صحيح إن الشباب اليوم ينادي بالتغيير الجدري في كل المجالات , من سمو ورقي لبلدنا الغالي , لكن من أين نبدأ لنقوم بعملية التنقية الشاملة ونحن لازلنا نتخبط بين مخالب المستغلين للمال العام واستغلال مناصب السلطة والنفوذ ؟ . نحن المغاربة جميعا اليوم في أمس الحاجة إلى إذكاء ثورة التغيير الجدري والشامل , لقد ولى عهد الخنوع والاستسلام لكل أصناف الذل والمهانة , وليس التقدم ومواكبة العصر هو توفير وسائل النقل والترفيه والحداثة الشكلية , بل أكثر من ذلك , نحن في أمس الحاجة الضرورية أيضا إلى تفعيل كل ضروب الثورة الفكرية التي تسمو بالعقليات المتحجرة والمتخلفة إلى مواكبة كل أصناف النمو و الرقي بالشعوب إلى أعلى درجات السمو والازدهار . وهنا أود سرد قصة الكاتب الفرنسي الثوري الكبير J J ROUSSEAU إبان الثورة الفرنسية , حين قامت هذه الثورة الخالدة , واتجه الثوار إلى سجن" لاباستيه " للإفراج عن السجناء , التقى روسو بعجوز وسألته إلى أين يتجه الثوار؟ , وأجابها قائلا : يريد الثوار الإفراج عن أبناء الشعب الفرنسي . طلبت منه العجوز قائلة : من فضلك يا روسو , أفرج على ابني انه في ذلك السجن . وأجابها بالفور : إننا نريد أن نفرج عن جميع أبناء الشعب الفرنسي , وليس الإفراج عن ابنك وحده في هذا السجن . ليبين لها أن الثورة الحقيقية هي التي تسعى إلى تحرير الشعوب وليس إلى تحرير البعض واستعباد البعض الآخر . محمد همشة دار ولد زيدوح في : 10/05/2012 .