كلما حللت بهذه المنطقة المنزوية في تخوم الأطلس المتوسط، يستبد بي حنين ممزوج بالحسرة إلى زمن الطفولة الجميل بمجرد ما تقتحم سيارة الأجرة أو الحافلة هذه المنعرجات الوعرة، التي طالما قهرت العابرين قديما والسائقين حديثا حتى سموها "بوتغرار". والاسم مثال للنسبة إلى علم في صيغة الجمع مفرده "تغرارت"، الذي يشير في اللهجة الأمازيغية المحلية إلى تلك الأكياس المزدوجة المصنوعة عادة من شعر الماعز، والتي كان سكان هذه الربوع يستعملونها في نقل أغراضهم وأمتعتهم من حبوب وغلال وغيرها على ظهور الدواب. ولكثرة ما تعثرت القوافل واندلقت حمولات تلك الأكياس أثناء عبور القوافل هذه المسالك في طريقها إلى القبائل والمدن المجاورة قبل أن تعبد الطريق في عهد الحماية الفرنسية، فقد سميت بهذا الاسم الذي يخلد تلك الظاهرة للتاريخ وينسبها بكل عفوية إلى الجغرافيا. في تلك الأيام المتوارية في مدى الذاكرة على حافة دمعة أو غصة، كانت وفرة الغلال تضمن لقمة العيش الكريم للأهالي وتضفي على المكان شعورا يفيض بالسكينة يمتزج بجمال العيش البسيط وسحر الطبيعة الخلابة. كان موسم الجني يستمر شهرا أو أكثر. وكنا ونحن أطفال نعيد تمشيط الأشجار بعد ما يفرغ الكبار من جني ثمارها فنظفر منها بما نؤمن به مصروف الجيب في إجازة الصيف ونقتني سروال "الدانگري" وقميصا نفاخر بهما أقراننا يوم الدخول المدرسي. كم هي جميلة مرحلة الطفولة بحلوها ومرها. كنا نطوي ستة أميال ذهابا وإيابا بين البيت والمدرسة في ما يشبه غربة أو هجرة يومية غير معلنة نعيشها بكل تفاصيلها المشوبة بالحنين والشجن والضيم. وما زلت أذكر خروجنا في منتصف النهار بعد نهاية فترة الدراسة الصباحية لنستظل بأشجار الأوكالبيتوس في "السوق القديم" وأعيننا مسمرة على تلة "مولاي إدريس" لعل أحد زملائنا ممن سيلتحقون بالفصل خلال الفترة المسائية يطل منها ويأتينا بما تجود به الأمهات من قلوبهن قبل أيديهن من بيض مقلي في زيت الزيتون أو شرائح سردين يستبقينها لفلذات أكبادهن من حصتهن من عشاء يوم السوق. خلال ساعتي الاستراحة الزوالية يتناول "المغتربون" من تلاميذ الإعدادية وجبة الغذاء هناك تحت الأشجار وقد يلعبون الكرة أو يتوجهون إلى ساحة السوق المغبرة لمطالعة أخبار نجوم الكرة والمشاهير في بقايا الصحف والجرائد القديمة التي تفلت من التجار الذين يستعملونها في تلفيف مقتنيات زبائنهم. ونحن تلاميذ لم نكن نعرف معنى للعطلة، بل قبل أن نضع محافظنا التي نصنعها من قماش سراويل الجينز المتقادمة، يكون عمي قد أعد لنا برنامجا حافلا من الأشغال. فكنا خلال عطلة الشتاء نساعد في تمهيد الأرض وتنقيتها خلال عملية الحرث، ونتولى تقليب التربة في المواضع الوعرة التي لا يطالها المحراث الخشبي. وفي الصيف كنا نشارك في عملية الحصاد ونقل المحاصيل إلى البيادر حيث تتم عملية الجرش بواسطة الدواب في عز يوليو وتستمر أحيانا إلى أغسطس. في الصيف كذلك نتحول إلى رعاة موسميين نصحب قطعان الماعز والغنم بين المراعي المترامية بين أحضان التلال. وبعد اشتغال قيظ الظهيرة نتجه بها (أو تتجه بنا) إلى بئر "ترسين" المحفوفة بأشجار التين والزيتون والدفلى، حيث تروي الماشية عطشها ونستغل نحن تلك الفسحة لأخذ حمام بارد من ماء البئر ونلعب لعبة "هورش" التي انقرضت هي الأخرى مع زحف الثورة التكنولوجية، وهي عبارة عن مبارزة بالأرجل بين فريقين يعتلي أحدهما شجرة بينما يحاول آخر إرغامه على النزول والاستسلام الذي كان يعبر عنه بلفظة "هورش" التي سميت اللعبة بها. هنا في مسقط الرأس والقلب كل شيء تغير (إلى الأسوأ طبعا). بساتين اللوز، التي كانت تنتشر على مد البصر وتحول البلدة حين تزهر إلى بساط أبيض كبير، اندثرت عن آخرها. حتى الغابة انحسرت وصلبت صلبا من قبل السفاحين من قتلة العرعار والخروب والبلوط في غفلة من "بوغابة" أو بتواطؤ منه. مظاهر البؤس في كل ركن من البلدة، وشباب عاطل ينفثون الإحباط مع دخان التبغ الأسود الرديء في المقاهي المتهالكة المترامية على الأرصفة في "الكراج"، بعدما عزت لقمة العيش وضاقت ذات اليد واستأثرت بمصير البلدة شرذمة من الجهلة عاثوا فيها فسادا دون حسيب ولا رقيب. على شرفة حط زوج القطا، وطار قلبي إلى الديار. طفل هناك يسكنني.. عبثا ناجيته ليلحق بي؛ أبدا ما فارق الديارا.