''كتب نيتشه ما يشهر شيء ما،إن اسمه و مظهره و قيمته و قياسه و وزنه كل هاته الأمور التي تنظاف إلى شيء بمحض الصدفة و الخطأ تصبح من شدة إيماننا بها و بفعل تناقلها من جيل لأخر تصبح لحمة الشيء و سداه، و يتحول ما كان مظهرا في البداية إلى جوهر، ثم يأخذ في العمل كماهية'' عبد السلام بنعبد العالي:ثقافة العين وثقافة الأذن • لا أنتمي الى الفن التشكيلي تحديدا ً بل أنتمي لفرصة التعبير أينما كانت(أيمن يسري) يتميز الإنسان عن غيره من كائنات الطبيعة بقدرته الخلاقة على إبداع الرموز والعلامات والتعبير بها عن حاجاته اليومية ،سواء كانت هذه الحاجات مدنية أو سياسية ،ثقافية أو طبيعية ،فإنه يلجأ لآستخدام الرموز إقتصادا للجهد وتعبير منه عن كينونته وتفرده في هذا العالم ،وهو ما حدا بالفيلسوف إرنست كاسيرر بأن يعرف الإنسان بأنه :حيوان رامز،فلم يعد هذا الأخير كما عرفه أرسطو والفلاسفة السابقين بأنه حيوان سياسي أو إجتماعي أو ثقافي، بل هو كائن رامز بمعنى كائن لغوي ،يستخدم اللغة كذلك للتعبير والرفض والبعد والإقتراب . نحاول الإقتراب من لوحات هذا المتفرد الفلسطيني الذي يسمي نفسه في غالب الأحيان ''الديدبان'' من فنه ،من لغته،من ترميزيته ،فيتكشف لنا منذ الوهلة الأولى حجم المخاطرة وحجم العمق في فنه، لدرجة يصعب علينا التصنيف أو التوصيف في مدرسة أو قالب معين ،لكن العين الفاحصة والمتروية قد تقودها عين الحكمة إلى التاريخ ،مادام الفن نتاج كائن تاريخي فيمكن المجازفة بآستعمال المنهج المقارن من أجل توسيم هذا الفن وفهمه في سياقه الخاص والعام من حركة التاريخ، ولا يجب أن يفهم من هذا النهج أننا نتبنى رؤية ماركسية أولوكاتشية(نسبة إلى جورج لوكاتش)في القراءة بل هو منهج تاريخي ومحاولة للإقتراب والفهم والإستيعاب والتواصل مع لوحات وألوان تشكيلية من أجل الفهم والتموقع ضمن مرجع للرؤيةréférence de vision داخل حقل الفنون الجميلة وبالضبط الفن التشكيلي. لا يمكن للتصوير والتشكيل أن يكون وليد لحظة تاريخية ومادام كذلك فلا يمكن فهمه إلا على هذا أساس، ''فمن الدلائل التي كشف عنها علم آثار ما قبل التاريخ أن إنسان ماقبل التاريخ نقش وحفر ونحت ورسم ولون ورسم صورا وأشكالا معظمها من الحيوانات وبدرجة مدهشة من الواقعية وهذه الصور قد تكون على الأرجح البداية الأولى للفنون التشكيلية .بل إن معظم هذه الأعمال الفنية في شكلها وموضوعها ،لا تترك مجالا للشك في أنها لم تكن فنا من أجل الفن ولكن كانت تستهدف خدمة وظيفة ما في حياة الإنسان والمجتمع'' قد تكون هذه الوظيفة مرتبطة بتحقيق الخلاص للإنسان،أو تحقيق الطمأنينة والأمان من البيئة الموحشة التي كان الإنسان يعيش فيها كما يمكن للفن والتصوير أن يكون موقفا من الوجود والكينونة والوضع القائم، وهو ما تشهد عليه النقوشات والنحوتات الفرعونية والبابلية التي تصور غطرسة الفرعون والتعاليم الدينية والطقوس المجحفة أحيانا . و''الفنون التكشلية Les Arts Plastique تعني الفنون التي تنتج صورا مسطحة أو مجسمة بآختلاف أنواعها.ويرجع أصل المصطلح Plastique إلى الكلمة اليونانية بلاستيكيوسPlastikos التي تعني صنع الأشكال .وظهرت فنون تشكيلية في العصر الحديث وأشهرها العمارة والنحث ...''ويتمتع الفنان في مجال الرسم والصباغة بحرية أكبر مما توجد لدى المعماري ،مثلا الذي تقيده مواد البناء وذلك لعدم تقيده بالمادة.ويمتاز فن الرسم والصباغة عن سائر الفنون التشكيلية الأخرى بسرعة تطوره إذ أنه أقرب الفنون التشكيلية إلى فن الموسيقى، ويعتمد الرسم والصباغة على الألوان لإبراز الأضواء والظلال،وقد يتقيد بالأبعاد المرئية أو المنظور أو لا يتقيد بها، كما أنه كثيرا ما يخلع على اللوحة أبعادا وعلاقات مكانية معينة خاصة به،وكأنه مرشح ينقي الإدراك العادي أو عدسة توضح المحسوسات.وقد يكتفي الرسام باستعمال الخطوط ،وينجح بأقل الوسائل المادية في الثأتير،ولكنه في هذه الحالة التي يختصر فيها الوسائط المادية لابد أن يكون على مقدرة كبيرة من التمكن من الصنعة والإبداع. يرتبط الفن كذلك أشد الإرتباط بالعصر الذي ينتمي إليه فيؤثر ويتأثر بوقائع عصره، غير أن عبقرية الفنان الذي يمارس الفن تتجلى في كونه لا يبقى عند حدود تبادل التأثير والثأثر مع البيئة التي ينتمي إليها ،بل يتجاوز ذلك إلى آستشراف آفاق جديدة وفتح ممكنات جديدة أو بتعبير أدق تحديد واجبات ممكنة للذات والوجود والكينونة ، ففي بلاد الرافدين ومصر القديمة إرتبط الفن عند إنسان هذه الحقبة بالتأريخ للعادات والتقاليد والمراسيم الدينية ،غير أن الغالب في هاته الرسوم هو حضور الطقوسي والديني في علاقة تقديس وتجاذب للسلطة: حيت الفرعون يحمل الصولجان ويعطي الحياة وينتزعها ويرضى ويغضب ،والكل ينتظر رضاه وكلمته، فهو الآمر والناهي، إنه مصدر السلطة وممارسها بدون شطط في نفس الآن،لأنه قريب من الآلهة أو إنه إله.غير أن التطور الذي عرفته الحياة المصرية مع ظهور مهندسين بارعين من أمثال هيبوداموس يسر إمكانية معرفة العلاقة التي تجمع بين الشكل والضوء والبيئة والخيال أو الحذق وهو ما سيساهم في رسم صورة جديدة للحياة وللفن المصري أنداك، حيث أن إبداع معابد ضخمة للحياة الأبدية التي سيحياها الفرعون فيما بعد، تفرض تزيين المعبد برسومات وصور يستأنس بها الفرعون في حياته الأبدية، وفي رأيي المتواضع فإن هذه الشساعة التي تميزت بها الأهرامات لا يجب تفسيرها فقط ببراعة المهندس الفرعوني بل كذلك إلى وعي لديه بمفهومي الزمان والمكان والبيئة والتأثير المتبادل بين هذه العناصر، حيت إن التقادم يساهم في تفتت مواد البناء وكذلك زحزحتا من مكانها وهذا ما يثبته العلم المعاصر . ساهمت كذلك المسيحية في إغناء الفن الإنساني فرغم الإضطهاد الذي مارسته هذه الأخيرة على الفلسفة ورجال العلم آنذاك وعلى الرأي الحر والمخالف للعادة والعرف، فقد ساهمت في جانب آخر من خلال لوحاتها الأيقونية التي إنتشرت آنذاك في والمستمدة من النصوص الإنجيلية الرسمية وغير الرسمية على إختلافها وتناولها في شكل رسوم وزخارف وتماثيل والتي كانت ذات طابع إيديولوجي يهدف إلى تركيز وترسيخ التعاليم المسيحية لدى الأطفال، وهو ما تشهد عليه أيقونة غسل الأرجل les vement des piedes (أنظر كتاب التقافة الفنية للسنة الأولى جدع مشترك،المغرب لسنة2003).وللفن الإسلامي والحضارة الإسلامية إسهامها المميز في تاريخ الفن الحديث غير أن الملاحظ ،هو أن إسهام حضارتنا في حركة الفن الحديث يجب أن نؤرخ له أخدين بعين الإعتبار ملاحظتين مهمتين في ظهوره بشكل بارز حسب إعتقادي المتواضع: 1. أن التطور الهائل للغة في المنطقة العربية والخيال الخلاق للإنسان بهذه البيئة الصحراوية وجدبها ،وحياة الترحال لديه كذلك ربما لم تسمح له بأن يهتم بالرسم الذي يتطلب الفراغ والإستقرار، وبالتالي وجه ملكاته إلى الشعر والكلام المقفى والموزون كتعويض على ما يتصوره ويتخيله ،فالصورة الشعرية لديه دقيقة ،دقة اللوحة البيكاسوية أو السالفادورية(نسبة إلى سالفادور دالي وبيكاسو).فالصورة الشعرية لديه كان من الممكن لو توافرت عوامل الإستقرار والفراغ أن تكون لوحة تشكيلية فنية عوض قصيدة شعرية ،فعنايته بالبديع والإستعارة الدقيق يفسره عناية الفنان التشكيلي بقسمات الوجه ودقة الرسم وإختيار اللون ..... 2. أن مجيء الإسلام بتعاليم قد ''تحرم'' التصوير أحيانا حفاظا على آستمرارية المقدس كمفارق للواقع وفي هذه المفارقة يكون الشوق الدائم إليه، بل يسعى المرء للإقتداء به بوصفه منزه عن العادي واليومي والمعيش، جعل الفنان في الحضارة الإسلامية ينحوا إلى تفجير مكبوته الفني في العمارة :عمارة المساجد وكذلك عمارة القصور والبنايات الفاخرة التي لازالت تشهد لليوم على روعة واتقاد الحس الفني عند الفنان في حضارتنا الإسلامية. سيعرف الفن التشكيلي صحوة جديدة في فلورنسا مدينة النهضة وحاضرة العالم الأوروبي أنداك مع حركة النهضة حيث تم الإهتمام في مجال العمارة ببعت وإحياء العمارة الرومانية وإعتمادها في بناء الكتدرائيات والكنائس والقصور،وهنا لمعت أسماء فنانين ونحاتين بارعين أثروا ولا زالوا يؤثرون في الفن التشكيلي ،ومن أبرز اللوحات في هاته المرحلة ''الجوكندا'' هاته اللوحة التي يصعب قراءتها قراءة واحدة أو توسيمها ضمن مذهب فكري معين رغم ما يتبدى للقارئ المتهور من سهولة في ذلك، والجوكندا هي تكتيف لصراع مرير لقوى جديدة بدأت تتشكل في الحاضرة الأوربية على أنقاض النبلاء والإكليروس وتتكون من العلماء ورجال الدين الجدد، كما ساهمت عوامل أخرى في بروز هاته الحركة كالنمو الجديد للملكيات وتكون إقطاعية جديدة والكوشوفات الجغرافية وكذلك ظهور نقاش واسع في إنكلترا حول الحديث عن حاجة للمنهج وهو ما توجه فرنسيس بيكون بآلأورغنون الجديد الذي ينتقد فيه بشدة أوهام القبيلة والدولة والدين والعادة والعرف ...وبناءا على هذه المرحلة سيتأثر الفن التشكيلي بباقي الحقول المعرفية حيت أن نزعة التخصص الذي بدأت تنموا لدى علماء الطبيعة والرياضيات والفزياء والميكانيكا جعلت الفن كذلك يستقل وهو ما ساهم في ظهور مدارس عديدة فنجد : 1. الكلاسيكية: لها ارتباط وثيق بالعصور الكلاسيكية وفي فرنسا ارتبطت بالفترة الفنية للنهضة،التي تعتبر امتدادا للقرن السادس عشر الذي كان يمتح من ''النهضة'' الإيطالية ويعتبر كلود لوران Claude Lorrain أحسن ممثل للكلاسيكية. 2. نزعة الكلاسيكية الجديدة Le Néo-classicisme :هي نزعة فنية تغطي فترة تاريخية تمتد من 1750-1830 عادت بالفن الأوربي إلى الحقبة الرومانية ، فقد أصبح الإنسان نتيجة إحساسه بذاتيته وفردانيته رمزا للتعبير الفني وموضوعا للتأمل وهنا لا يجب أن ننسى الإسهامات الكبيرة للأنوار ولصاحب نقد ملكة الحكم فيلسوف السلام العالمي إيمانويل كانط في تأسيسه فلسفة للفن في القرن الثامن عشر، ذات جذور يونانية أعادت معالجة إشكاليات من قبيل الجميل والقبيح والحسن والممتع والنافع ليس كما قرأها سقراط وأفلاطون بل كما ساهمت في ذلك لحظة القرن الثامن عشر. 3. الرومانسية:Le Romantisme :ظهرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر،على إثر محاولات قام بها فنانون في إنجلترا نظرا لحبهم للطبيعة بوجه خاص ،وكان لهذه المبادرة تأثير في باقي أوروبا،وتقوم الرومانسية على تصوير الموضوعات الدرامية،والمبالغة في الحركات،وإبراز العنف،للوصول إلى الإثارة الكاملة. 4. الواقعية:Le Réalisme :وتدل الواقعية في اتجاه فن الرسم،على اتجاه فني ظهر في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكن في حقيقة الأمر كانت له بوادر قبل ذلك من خلال الحركات الفنية التي عرفها القرن السابع عشر مع رسامين أمثال: ''لوكرفانشLe Caravage )في إيطاليا وآخرون،وفد قامت الواقعية ضدا على الحركات الشكلانية الخالصة والحركة التجريدية،وغالبا ما تتسم مواقفها بالعنف والغرابة . 5. الحركة الإنطباعية (1863)L'impressionsme :جائت هذه الحركة على لسان صحافي بمناسبة عرض لوحة شهيرة للرسام ''كلود مونيClaude Monet عنوانها انطباع مع شروق الشمس Impression ;soleil levant عرضها سنة 1874 مع أعمال رسامين آخرين ،الدين نظموا قبل ذلك معرض للفانين المرفوضين نتيجة تحول الرؤية لدى العديد من الفنانين الجدد. 6. الحركة التعبيرية L'Expressionnisme :ظهرت بوادر هذه الحركة في نهاية القرن التاسع عشر مند فان غوخ Van Gogh وإدوارد مونشEdvard Munch الذين وظفوا في إعمالهم لمسات صبغية قوية، وتركيبات لونية غريبة، لتحقيق قوة تعبيرية قصوى وكانت هذه المدرسة جسرا بين الإنطباعية والتجريدية، ومما يميز هذه المجموعة إنها متشبعة بمبدأ الفطرة والتبسيط الشكلاني وعنف التعبير التخطيطي وعدم واقعية الألوان. 7. الحركة الوحشية (1905)Le Fauvisme :ظهرت الحركة الوحشية في فرنسا في نفس الوقت الذي ظهرت فيه الحركة التعبيرية في ألمانيا، لكن بخصوصيات أحدثت ثورة كبيرة في استعمال الألوان المتضاربة والمتعاكسة ،مما جعلها تبدوا مثيرة وعنيفة جدا لدرجة أن أصحابها نعتوا ''بالوحشيون'' وهذه التسمية تنسب إلى ناقد نحث ''دوناتليو الملقب ب ''بيتوبارديDonatello dit Betto Bardi ''. 8. الحركة التكعيبية: (1908) Le Cubisme :خلال القرن العشرين،وهو القرن الغني بتحولاته الفنية ،ظهرت كثير من الحركات والاتجاهات التي لم تعمر طويلا أحيانا ،ولكنها أتت بفائدة فنية لا تناقش ،لأنها كانت وراء تغييرات جذرية لاحقة .ففي سنة 1907 رسم الفنان ''بابلوا بيكاسواPablo Picasso لوحته الشهيرة أنسات أفنيون Les Demoiselles D'avignon التي إكتست الصبغة التكعيبية بوضوح،ولكن لم تأخذ الحركة تسمية ''التكعيبية'' إلا لاحقا في معرض باريس سنة 1908 وجاءت هذه التسمية على لسان الرسام''هنري ماتيس''حينما قال إنها جملة من التكعيبات ومرت المدرسة التكعيبية من عدة مراحل أولاها المرحلة التحليلية ،حيث كان الشكل يحلل إلى مكعبات صغيرة ،ثم جاءت المرحلة التركيبة حيث كان الفنان يرسم جزءا من الموضوع مستمدا من الطبيعة،والجزء الأخر من نفس الموضوع في شكل مسطحات هندسية ،ثم المرحلة التالتة التي بدأ الفنان يلجأ فيها إلى إلصاق أشياء في اللوحة . 9. الحركة السريالية 1924 Le Surréalisme :يعرفها برتون André Breton بأنها الحركة السريالية بأنها'' حركة لا تخضع للفكر ولا لأي تحكم من طرف العقل وليس لها أي اهتمام جمالي أو أخلاقي وهي امتداد للرسم الميتافيزيقي'' والفن السريالي إتجاهان: الإتجاه الأول La Tendance vériste الذي ركز فيه أصحابه على الواقع اليومي والمشاكل الإجتماعية ويمثله سلفادور دالي وماكس إرنست... الإتجاه الثاني يسمى السريالية المطلقة La Tendance Absolue ويتخلى فيه أصحابه عن أي تعبير يدل على أشياء واقعية ،بل يفضلون عوض ذلك التعبير من خلال رموز تجريدية مستقاة من اللاشعور ونجد هذا النوع من السريالية عند رسامين من أمثال خوان ميرو Juan Miro . كانت هذه أهم المدارس المأسسة للفن الحديث وما سيأتي بعدها لن يكون إلا إستمرارية لها أو مزيج منها، ونفسه حدث في الشعر والفلسفة ،حيث أن نفس الإشكالات اليونانية لازالت قائمة، وكل ما هناك مسائلة جديدة وقراءة جديدة وأجوبة جديدة لتلك الإشكالات تقدم وفق السياق الإجتماعي الذي تعالج فيه. بعد هذه الإطلالة على مجموعة من المدارس الفنية سنحاول الآن العودة لنماذج من الفن الحديث وقد فضلنا أن يكون النموذج من التجربة الفلسطينية ومع الفنان الفلسطيني أيمن يسري ورؤيته لمابعد الحداثة ،بل سنحاول قراءة هاته اللوحة انطلاقا من رصد مابعد الحداثة كموقف لدى الفنان الفلسطيني أيمن يسري، وخاصة في لوحته المثيرة الجوكندا التي تبين عن عمق التجربة الفنية لدى أيمن يسري بل تبين إلى أي حد تحضر الرؤية الفلسفية لدى أيمن يسري وهو ما جعلنا في قراءتنا هذه نقارب لوحاته كتمثلReprésentationلمابعد الحداثة باعتبارها تجربة إنسانية وواقع إنساني معيش لدى الفنان الفلسطيني أيمن يسري يستدعي من الفن والفنان عموما أن يقدم موقفا أنطولوجيا من هذه التجربة في أعماله ،تلبية لنداء الواجب الذي يسكننا باعتبارنا كائنات عاقلة . في هذا العمل الفريد والمتفرد لأيمن يسري تعبير صارخ عن عمق الأزمة التي يعيشها إنسان مابعد الحداثة وعن عمق الأزمة التي أوصلنا إليها(الأفلورنغ)العقل الأنواري، الذي مجد قيم العقل والمنطق والدقة والحساب والفعالية الصادرة عن الذات الإنسانية وهو جعل أدورنو وهوركهايمر يعتبرانها تطورا طبيعيا ومنطقيا للعقل الفاعل ،فالحداثة أو ما بعد الحداثة بالنسبة إليهما ليست سوى ''هيمنة عقلانية ونفعية للطبيعة وللحاجات،إلى درجة أن العقل إندمج مع السلطة '' من أجل خدمة الهيمنة وتطويع الأجساد وتوجيهها نحو الإستهلاك بإعتماد فلسفة الإشهار والنجوم والإكثار من الفنانين لدرجة أصبح كل من يعري مؤخرته ليراها العامة سواء دهماء أو غوغاء يصبح فنانا، له جمهوره الخاص وعشاقه ومعجبيه ،تحت دريعة العولمة وحرية الأفراد في التعبير وتجسيد مبدأ الإختلاف.في هذا السياق يمكننا قراءة لوحة الجوكندا للفنان أيمن يسري التي تحتاج إلى روية وإلى إستحضار السياق والبعد التاريخي أكثر من المكون اللوني ومن هنا يستمد هذا العمل الفني تميزه ضمن حقل الفن الحديث ويمكن تركيز هذه الأبعاد المهمة التي لا بد من إستحضارها عند قراءة هذا العمل الفني في رأيي المتواضع في : 1. البعد التاريخي :قراءة اللوحة بآستحضار فلسفة عصر النهضة والقيم التي نادت بها في هذه المرحلة ،على إعتبار خضور صورة الجوكندا له دلالته الخاصة والهامة والتي تقربنا من رؤية هذا الفنان المتألق للفن ولما بعد الحداثة . 2. الوعي النوعي :لابد من قراءة كل مكون في سياقه التاريخي بآعتباره وعيا نوعيا خاصا بمرحلته وليس إستمرارية للموروث مع ربطه بباقي المكونات الفنية داخل اللوحة معتمدين القراءة من الداخل والقراءة المنفتحة على باقي الحقول المعرفية في نفس الآن، من أجل وعي ملتزم بالسياق الذي أنتجت فيه هذه اللوحة كما يجب الابتعاد على القراءة المدرسية التي تركن وتستكين لمحددات قد تجعل من العمل الفني الذي يحتوي دائما بعدا إستشرافيا قالبا جامذا وتجربة تبخسها حقها . 3. البعد القيمي : كل عمل فني حامل لقيم يمكن أن تكون موازية أو مضادة حسب التصور الذي يأطر الفنان والقراءة الفعالة هي التي تحاور العمل الفني بمعرفة نقدية قصد الوقوف على خلفياته وسياقه وإستشرافاته . ''إن لفظ نزعة إنسانية Humanisme يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر.وقد ظهر اللفظ أول مرة سنة 1808 تحت قلم المربي البافاري F.jNiethammer ويعني نسق التربية التقليدي الذي يستهدف تكوين الشخصية الشاملة وتكوين الإنسانية بواسطة هذه النزعات الإنسانية .سيبقى هذا اللفظ ،الذي أصبح ابتداء من الآن مرتبطا بالمجهود المبذول من أجل الرفع من الكرامة الإنسانية وإعطائها قيمة مرتبطا أو متعلقا بالفكرة التي يكونها الناس عن التقدم الحضاري.وهكذا فإلى ما بعد الحرب العالمية الثانية بقليل ،كان كل واحد يرى في الإنسان القدرة على التحويل،هذه القدرة التي كانت مصدر إعادة بناء العالم .لقد ازدهرت ألفاظ ''الثورة'' ''الحرية''''الممارسة'' في هذه الفترة .وليس المواطن اليوم متأكدا من أن العالم الإنساني ممكن غدا ،لكن الفشل ليس حتميا (لقد ربح ميزان ضد الصدفة)ويمكن للناس أن يفوزوا أيضا شريطة أن يقيسوا جسامة المغامرة والمهمة،كما يقول ميدلووسوتني،ناظرا إلى النزعة الإنسانية باعتبارها مجهودا لتحرير الإنسان'' . يمكن أن نقسم قراءتنا لهذا العمل المتفرد إلى مستويين :مستوى وصفي لمكونات اللوحة الفنية ولعلاماتها الأيقونية ومستوى تحليلي تأويلي نحاول من خلاله ربط العلامة بدلالتها لعلنا نقترب من المعنى وليس إعطاء معنى لها . المستوى الأول : نلاحظ تبأيرا la focalisation لأحد مكونات الجوكندا وهو صورة المرأة المبتسمة في الجوكندا لكن داخل علبة سردين وهناك مفتاح لهذه العلبة وفي أعلى هناك لون أصفر بينما في الأسفل هناك موج لألوان قاتمة يمكن أن نحدد منها المكون اللوني الأخضر البارد وكأنه لون غدير وهناك وجود لوجوه مصطكة وشاحبة صفراء فاقع لونها كل منها ينظر للأخر والجوكندا المعلبة هي بؤرة الرؤية . المستوى الثاني :''والإستهلاكيون المعاصرون يطلقون هذه الصيغة:أنا مالدي وما أملك.كما أن ''هناك أيضا أشكال من التثمل لا علاقة لها مع الحاجات ،وهي بالتالي غير محدودة.فالموقف المميز لعصر الإستهلاك يقوم على الرغبة في ابتلاع العالم كله'' ،حتى القيم الإنسانية والتاريخية التي راكمها الإنسان عبر مساره التطوري أصبحت قيما للتداول والتعليب والسلعنة، وهذه أزمة الإقتصاد حين لا يحترم مجاله ويجعل الكل مرتبط به ،فيصبح الكل خاضع لقانون العرض والطلب ،للبيع/الشراء. قامت حركة إحياء العلوم وإعادة بعثها من جديد ''النهضة'' على تمجيد قيم العقل والعقلانية وإعادة الإعتبار للإنسان بوصفه الكائن الفريد والمتفرد في هذا الوجود، ضدا على كل حجر ووصاية يمكن أن يفرض عليه بوصفه عاقلا وقادرا على التوصل للفضيلة من تلقاء ذاته، فهو قادر على التمييز بين الفضيلة والرذيلة ،الخير والشر،ولا يحتاج لوسيط بينه وبين قيمه وربه، لكون هاته الأخيرة نتاج العقل الذي هو نفسه مميز به ،ومادام عاقلا فهو قادر على الوصول إلى بر الأمان. يهدف الفنان أيمن يسري من خلال المكون الدلالي''الجوكندا''الحاضر على مستوى بؤرة اللوحة إلى إثارة الذاكرة وآستدعائها لتتمثل Représenter مرحلة ساهمت في تشكيل التاريخ الإنساني ،إنها مرحلة الإحياء المسماة ب: ''النهضة''La Renaissance، وإعادة الإعتبار للكائن الإنساني ،بوصفه قيمة في ذاته،قيمة اعتبارية غير خاضعة لمنطق الإقتصاد والتداول،هنا تكمن أصالة هذا المتفرد أيمن يسري ''الديدبان'' فهو بتعبير هيجل Hegel''لا يستحضر الفن، الأشكال والألوان والأصوات المحسوسة كغاية في ذاتها وعبر مظهرها الحسي المباشر بل لكي يشبع اهتمامات فكرية سامية لأنها قادرة كلها على أن تخلق صدى داخل أعماق الوعي والفكر'' وهذا هو ما يستدعيه توظيف الفنان أيمن يسري للوحة الجوكندا في الكائن الإنساني، إنها تذكره بماضيه وكذلك بحاضره وحثه على الإسهام في تثويره(بمعنى تغييره).هذا الوضع الذي يمكن للفنان أن يساهم فيه ،فإذا كان هيدغر تحدث في مقاربته لعصر التقنية على أن الإنسان نسي الوجود ولم يعد يستمع إليه، فإن أيمن يسري يؤكد على أن الإنسان نسي ذاته وطبيعته القائمة على التوازن :نسي قيمه وتاريخه وإنسانيته ومثله العليا التي تعتبر ''النهضة'' أسمى مراحلها ،غير أن المثير في اللوحة أن المكون الدلالي ''الجوكندا''الدال على الإنسانية والتاريخ والقيم المثلى وضعت داخل علبة سردين رخيصة ومبتذلة فما دلالة هذا التوظيف؟ من المفاهيم الأساسية التي قامت عليها مدرسة فرانكفورت الألمانية الرائدة مع روادها كل من تيدور أدورنو وماكس هوركهايمر مفهوم الصناعات الثقافية /السلعنة الثقافية/وفي كتابيهما جدلية العقل ينتقدان العقل الأنواري إنظلاقا من سؤال عميق: لماذا سقطت الإنسانية في بربرية جديدة عوض أن ترتقي لوضع إنساني أصيل؟ إن الإيمان المطلق بالعقل ولا محدوديته في إكتشاف المعرفة وبنائها، و توجيه الإنسانية الوجهة الصحيحة والأخلاق الصحيحة ،إنعكس سلبا على العقل الذي بدأ يقوض ذاته ،فمن عقل لتحرر إلى عقل لسلب والنفي والتشييء، ويرجع السبب إلى هيمنة الإقتصاد المتزايدة على حياتنا والتقنية كذلك . على هذا الأساس تصبح علبة سردين مكون دلالي داخل اللوحة لا يختزل في ذاته، بل مكون راهني منفتح وهنا لا أقصذ بالراهن الأرشيف أو لحظة فلاشية كما عبر عنه الأستاذ عبد الله القرطبي بل أقصد به لحظة ديالكتيكية بقدر ما تمتد في الماضي فهي تستشرف المستقبل ،وبالتالي فمكون علبة سردين لم يعد دالا على ذاته فقط، بل على حقبة تاريخية ينتمي إليها، تتميز بالتسليع والهيمنة والسيطرة الشاملة للتقنية وتغلغلها في نسيج الحياة الإجتماعية ،فعلبة سردين داخل اللوحة تنتمي لعصر ميزته السرعة والترشيد المتزايد للوقت من أجل ضبط الفاعلين فيه خدمة للنشاط الإقتصادي المتنامي، الذي لم يعد يعترف بالشيء إلا بمقدار ما يدره من فائدة ،فكل شيء قابل للبيع والشراء،وكل قيمة قابلة للتداول أو أنها تصبح فاقدة القيمة،المرأة في الإشهار والرجل في الإشهار والتراث في الإشهار، كل ما هنالك تقديس للعلامات وتبخيس للأفراد وتنميط لقيمهم، هذا هو المبدأ الأساس، أما الغاية فهي الربح ،كيفما كانت الوسيلة :فلسفة ميكيافيلية واضحة تأطر عالمنا. فحتى الأنوار التي نادت بكون الإنسان غاية لا وسيلة في ذاته لكونه يملك العقل، وقادر على التفكير والتخلص من الوصايات، أصبحت وسيلة في عصر التقنية، فنحن حينما نريد بيع منتوج معين نحتاج لذات إنسانية يتم تشييئها من خلال خدعة ''النجومية'' التي نفرد لها أموالا من أجل الدعاية وجلب معجبين بالنجم المصطنع، وهكذا نتمكن من بيع أي علامة تجارية يشهر لفائدتها هذا النجم المصطنع (أنظر الشركات التي تقف وراء شاكيرا ونجوم الكرة وغيرهم متل كوكاكولا...متلا)فيصبح المستهلك يستهلك علامات من خلال أشخاص بدافع أنهم مثاله المنشود ومشاهيره الذين يشجعهم، والمالكين للفانتازم والآليات السحرية .وكما تنتهي صلاحية علبة سردين أو أي علامة ،تنتهي صلاحية هذا النجم ويخفق بريقه .فأين القيم الإنسانية التي نادت بها ''النهضة والأنوار'' أين التعامل مع الإنسان كغاية لا كوسيلة ،أين الكرامة ،أين الذات الترستندنتالية؟؟؟ في هذا السياق يمكن فهم عبقرية الفنان الفلسطيني أيمن يسري ''الديدبان'' ورائعته الجوكندا في علبة سردين ،فدمج مكونين دلاليين من حقب تاريخية مختلفة الجوكندا من القرن 16، وعلبة سردين من القرن العشرين، دليل صارخ على ما وصلت إليه الإنسانية من إبتذال وتبخيس، فكأن أيمن يسري يقول لنا من خلال هاته اللوحة :إن هذا العصر الذي نعيشه هو عصر تعليب وسلعنة لكل شيء ،فلقد أصبح كل شيء قابل للتداول وخاضع لقيمة البيع والشراء، فلم يعد هناك شيء جدير بالتقديس، فحتى القيم الإنسانية والحضارية والتاريخية تم تعليبها ،لقد قوض العقل ذاته ،فلم يعد ينتج لنا قيم الحرية والسلام والكرامة بل أصبح ينتج قيم السلب والنفي والإستبعاد ،وأصبحت كلمة فن تطلق على الغث والسمين، ولكن هناك أمل يحيل عليه في اللوحة مفتاح علبة السردين غير أن هذا المفتاح يمكن قراءته في منحيين : 1. مفتاح دال على الأمل بحيث أن تقويض عصر التقنية لن يتم للإنسانية دون الرجوع لعصر ''النهضة''، وتمجيد القيم النبيلة وبعتها وإعادة الإعتبار للإنسان والتعامل معه كغاية لا كوسيلة، حيت أن سلامة هذه القراءة تكمن في أن داخل علبة سردين يوجد وجه الجوكندا الدال على حقبة تاريخية لها عميق الأثر في البشرية. 2. مفتاح دال على على وجود شخص أو مؤسسة... x لها الرغبة في نفي كل القيم الإنسانية وتحويلها إلى شيء قابل للإستهلاك والتداول /البيع والشراء. هذا الإبهام /الإستبهام :أي جعل هذا الدمج لمكون علبة سردين والجوكندا والمفتاح مبهما دون تحديد القائم على فتح العلبة له دلالته، ويؤشر لنا على عبقرية فنية لدي أيمن يسري تكمن في تركه المساحة للقارئ بأن يخمن ويستنفر ذهنيته من أجل الإلمام باللوحة، ووضعها في سياقها بعيدا عن القراءات المدرسية الجافة، التي تبقى عند حدود الألوان والتصنيف ضمن مدارس معينة، فمادام العصر كما أعلن عليه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار عصر النسخ وعصر انهيار المبدأ المؤسس للواقع وغياب النسقية لا سواءا في الكتابة الفلسفية التي كانت أم العلوم أو في الفن، فإن الحديث عن إنتماء أيمن يسري إلى مدرسة معينة يبقى ضرب من الكلام. وفي الأسفل تطالعنا مجموعة من الوجوه الشاحبة التي يحول بينها وبين بؤرة اللوحة اللون الغديري (نسبة الى لون الغدير)، وهو ما يمكن ربطه باللوحة، حيت تتميز ثقافة مابعد الحداثة عند أيمن يسري أو عند العديد من المفكرين كونها ثقافة الحشد والاغتراب، وهو ما يناقشه مافيزولي في كتابه تأمل العالم في فصل معنون بالنقاش الجمعاني . الكونية أو رجل السلام الكانطي :كان طموح كانط في تأسيس ميتافزيقا الأخلاق الذي ترجمه عبد الغفار مكاوي هو تأسيس أخلاق عالمية، ونشدان سلام عالمي ،فإن تضرر إنسان في أقسى بقعة في الأرض فكأن الإنسانية جمعاء تضررت ،وهو ما نلمسه في لوحة الجوكندا لأيمن يسري فهو لا يطرح سؤال الهوية بمعناه الجغرافي الضيق ،على اعتبار أن وعيه الكوني بتجربة العولمة والحداثة التي حطمت الحدود لم تعد تسمح بالحديث عن هوية ذات خصوصية إقليمية، بل كل ما يمكن الحديث عنه هو إمتداد العالم في الذات وإمتداد الذات في العالم .فالغير يسكننا على نحو غريب كما تقول جوليا كريستيفا ونسكنه ،ومن تم فالحديث عن أزمة ما بعد الحداثة وإعطاء موقف منها، كان باسم الإنسانية الذي ترمز إلية في اللوحة صورة الجوكندا ليس باعتبارها إرثا غربيا، بل باعتبارها تعبير عن تجربة إنسانية غنية من حق البشرية جمعاء. هنا يكمن الإنسان بذاخله وينكشف في لحظة تجربة فنية قائلا أنا الواحد المتعدد . رهانات الفعل الفني والنزعة الوجودية في لوحات الفنان أيمن يسري: الحياة والمعنى : إن أي قراءة لفعل الفن عند أيمن يسري لا يجب أن ننظر أليه كشذرات وكلوحات منفصلة بل يجب النظر أليه كخطاب وكفضاء يجد في المقاربة الفينومينولوجية مع ميرلوبونتي أساسا علميا قد يعطي مدخلا ملائما للرؤية التي تنظر للفضاء من كنهه '' كظاهرة دون الإلتزام بأي مضمون أو أمبيري مسبق هو ذا الإجراء الذي يمثل أساس استكشاف إنشائية الفضاء ذاته وهو الإجراء الذي تتم معالجته ضمن مقتضيات ''الإبوكي فينمينولوجي'' وهو نهج نقدي يسعى لإستبعاد ما يعكر صفو معالجة الفضاء ضمن بداهته وتشكله في حركة الفعل الإنساني الرامية إلى تجسيد السكن السعيد في العالم ''(مجلة علامات العدد 32 الصفحة 6 ). إن اللوحة الفنية أو ما أسميها اختزال العالم في فضاء تشكيلي يمزج اللون بالحرف ,الصورة بالشكل تجعل من الفن التشكيلي عند الفنان أيمن يسري سننا من أسنة العالم ,أنه كشفرة codage تمنحنا تأشيرة السكون والإنوجاد في العالم بتعبير هايدغر،فعلاقة الفعل الإبداعي بالفضاء ليست علاقة تكميم بل '' علاقة الغاية بالوسيلة ويتجه الإهتمام في هذا المقام إلى سبر ظاهرة إبداع الفضاء استنادا إلى ما يقدمه فعل النحث سواء كان ذلك الفعل ملء للفضاء أو إفراغا له ''(مجلة علامات الصفحة محور خاص حول التمثيل البصري ص 7-8 ) يأتي فعل الفن هنا ومضمونه عند أيمن يسري ليقدم لنا الشفرة codage من خلال صدم الذات بروح العالم المتضمنة في فعله الإبداعي والقذف بالذات فيه بلغة الوجودية ،كون الذات مشروع يقذف به في هذا العالم. يقتضي هذا الوجود السابق على الماهية في عمق لوحات الفنان أيمن يسري فعل الإختيار :أما أن نكون أو لانكون، أن تكون إنسانا هو أن تختار الإصطدام بإنسانيتك وفك شفرات العبور décodage إلى وجودك فيصبح الفن هنا وفعل الفن الحقيقي هو حلقة المرور بين وجود الإنسان وماهيته ،التي يقتضي صناعتها فعل إختيار الإنسان كمهندس لمشروع حياته. إن الحياة بمعناها الإنساني ليست وجودا ماديا للجثة ,تمارس فعل الأكل والشرب والإستهلاك بل معناها كما نجده في لوحات أيمن يسري هي هندسة روحية للإنسان وتجسيد لإرادة الإصطدام مع الحياة عبر الفن ,فالفن عند أيمن يسري لا يعني الوقوف في معارض أمام إحدى لوحاته وتسجيل ارتسامات الإعجاب، بل هي سؤال يتطلب منك زوبعة ذهنية وعصف دهني يضعك في مواجهة ذاتك . من أنت ؟من تكون ؟ما هويتك ؟ومن أين أتيت ؟وإلى أين تصير؟؟قد تبدوا هده أسئلة الفلسفة حسب بول ريكور وعلى مر التاريخ، لكنها فلسفة الفن والحياة عند الفنان أيمن يسري كذلك ,إنه يضعك من خلال لوحاته أمام المرآة ,ليس لإختيار أحمر شفاه ملائم أو وضع تسريحة شعر معاصرة، أو رؤية ندب يفسد تفاصيل يومك أو مراقبة تجاعيد الجسد ,بل يضعك أمام المرآة من خلال فلسفته الفنية المجسدة في اللوحة من أجل العودة للذات والبحث مليا هل فعلا هذه الحياة بحياة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟أنظر اللوحة : الحيوانات لا تفهم الشعر قال الجميع أنك تغيرت كثيرا حينما نجد اللوحة الفنية ,معنونة بكلمة من قبيل ''الحيوانات لا تفهم الشعر فهدا لا يعني تفقيرا أو تأويلا وإنما يعني إحالة وتوجيه وموقف فني ,بمعنى مدرسة جديدة في الفن لها رؤيتها الخاصة لفعل الفن كتعبير إنساني يتم بأشكال متعددة ,لون ,لغة ,رسم,إنه إدراك للعالم كروح مطلقة تستهدف غاية واحدة إعادة بناء الإنسان كيفما كان التعبير. وللإقتراب من هدا الفنان الذي يجعل من فعل الفن فعل تفلسف، كنت محتارا وآنا أقرأ مقالا لغي غوتييه يمكن أن يكون أكتر تعبيرا لما يمكن أن تختزله لوحات الفنان أيمن يسري في عبارة جميلة يقول غي غوتييه '' لسنا هنا أمام تشكيل أو أمام شعر أو أمام فلسفة لتشكيل بل أمام منظر من المناظر الداخلية للإنسان خرج مند مدة من ذاته في اتجاه القطب ذاته ''مجلة علامات ص 53 )أي قطب ؟؟قطب الروح الإنسانية والوجود الإنساني السامي هذا هو كنه الفن عند أيمن يسري. لا يمكن أن ندعي أن قرائتنا هي الواحدة والوحيدة، وهذا لن يقوم به إلا مغرور أو جاهل بموقعه في حركة التاريخ، ولكن يمكن أن نقول أن هذه القراءة الأقرب، مع العلم أننا تجاهلنا قراءة أخرى نظرا لغياب مكونات دالة على محوريتها في اللوحة كحضور تيمة المرأة ''المركز'' والجنس وإيحاءات الجنسية، غير أن قراءتنا لها في ضوء فرنكفورية(نسبة إلى رؤية مدرسة فرانكفورت) الرؤية والعبقرية لدى الفنان أيمن يسري، كان من أجل إستجلاء الفن كموقف من مابعد الحداثة عند أيمن يسري. كونه موقف متوجس من ما بعد الحداثة ومن التقنية التي تغلغلت في النسيج الاجتماعي للأفراد، غير أن هذا التخوف بنظري عند الفنان أيمن يسري نظرا لما أستشفه من لوحاته الأخرى ليس رفضا للتقنية بالمرة والمطلق، وهو ما لا يجب فهمه من لوحاته بل هو رفض للمضمون الذي تمرره التقنية والسياقات التي توظف فيها التقنية، فرفضه لقيم العلم ليس رفضا للعلم في حد ذاته بل للقيم التي قد توظف ضدا على أهداف هذا الأخير النبيلة. ما أخلص إليه من خلال تتبعي لأعمال هذا المتفرد :هو أن الإنسان تدفعه غريزته للبقاء وتدفعه الروح الخلاقة للفناء ;.سيساهم الفن بقتلنا من أجل تحقيق غاية نبيلة هي الوصول للكمال . *