وأنا في عزلتي، تذكرت قبيلتي الأمازيغية التي تسكن وجداني، وحتى لا أنسى كنت بين الحين والآخر أستحضرها من الذاكرة، افتقدتها، وكتبت ما كتبت. وإليكم النص الثاني من كتاب "سفر ابزو". 2 عرق الأسلاف من جبين الأسلاف يرشح العرق مُنَسَّما بعطور الربيع، يسبح في سماء كحلية، وأغاني طيور تتفيأ تحت شجيرات الورد، طيور محلقة في الأمداء، لا تلتفت أبدا إلى الخلف، محمولة بدفء تيار سري، تطير في اتجاه نداء سحري يجيء من جهة الغيب. لعرق بلدتي نكهة البخور المنبعث من كفن ليلة صيف حارة..وأنت تعبر بالقرب ممن تبقى من أجساد ما تبقى من إناث أمازيغيات، تشتم رائحة الماضي والآتي، هُنّ الغد الذي يحبل بما ستمطره الأيام المقبلة، الرحم الذي تفيض منه روائح الزعفران. وأستحم بعرق أسلافي، من قايضوا جباههم بحبة زيتون، ودم سيقانهم المجروحة بأشواك السواقي ليبعثوا الأمل في أغصان عطشى، ويبعثون من جهدهم أرواحا في الجذوع التي شققها لهيب الاحتراق..لا أحد سواهم يبني أعشاشا، ولا أحد سواهم يرسم بالماء خضرة أفقنا الجحيمي وهو يأخذنا من ظلنا السديمي إلى ظله المنير، فننقاد إلى فتنة صبغت بألوان زاهية، نسير خلفها بنظرات مكسرة، تطل من بين أهداب مبللة بحبيبات العرق الموروثة عن ماض كتب بسواعد وغرس بأنامل تقطر ماء مالحا مُخْصبا. وإذ أتنسم رائحة الهواء، أستشعر فيضا من بكاء، يمتد فيّ حقبة بأمد الحزن الساكن في قلب أم الشهيد، قلب ينبض بعشق الافتقاد، عشق اختارني ذات ألم أن أخطط تقاسيم فصول لم يتبق منها سوى سنابل عجفاء، لا تطعم حتى نفسها، يصر الدمع أن ينساب، لا شيء يوقف منابع مائي المالح، وهو يتسلق الرموش، يُعزي في من لُقبُّوا ذات حب: إيمَزْوارَنْ: الأوائل وكانوا هم الأواخر في سباق تاريخ محموم، مُتعِب، وشاق. بل ذابوا في رماد الحقب المتتابعة، وجفت جلوده، ولكن ظلت هاماتهم تجول خلال الديار، وكانت أجسادهم العرقى تلمع تحت أشعة شمس بلدتهم التي لم يتبق منها غير هيكل تآكلت عظامه. وإذ ألصِق أذني بالأرض، أسمع لهاتهم وهم يحفرون للقمح منابعا وسواقي. منابعا شربت مائها، أنصت إلى أصوات المعاول وهي تقود الخصب بين الصخور إلى حيث الحياة ستتفجر زاهية. هو ذا عرق أسلافي، فلا يزال الطين يحفظ رائحته الزكية، وما زالت الأشجار تشهد على صبره، وتعجز كل ألوان الشمس على تبديده، ساكن في بؤبؤ الثرى، ألمسه في كل ما تقع عليه العين، وأراها بعد رحيلي معلقا في ناصية السحاب يعبر الحدود، يعطر الحقب، ويملأ الفلوات روائحا وألوانا. هو ذا عرق أسلافي، أبَجِّله، وأقدسه. فطوبى لأسلافي، من تركوا لي ظلالا وارفات، وسواقي جاريات، فلولاهم ما غنى طير، ولا فاح عطر، ولا ابتسمت الحياة.