وأنا ألتفت إلى الماضي الذي بدأ يبتعد شيئا فشيئا بدا لي أني الآن فقط أستعيد عافيتي، وأستعيد الكثير مما أخذ مني لحظة سهوي عن نفسي وأحلامي التي أغفلتها ببلادة، وما كنت لأمسك زمام حياتي من جديد، وأنظف أحاسيسي التي أطعمتها الزيف لأمد طويل، وأفكاري التي تفوح عفنا لولا هذه العزلة التي علمتني أن الصمت هو أعظم حكمة نتعلمها في الوحدة..إنه البحيرة الهادئة التي لا تسمع من ماءها إلا هسيسا ينعش السمع، هسيس يحدث كلما هبت دفقة نسيم ناعم يغازل وجه البحيرة. الصمت الطويل الممتد، والنظرة الثاقبة منك إلى الكون، والرؤية الساكنة التي تَسقط على الأشياء، والأذن المرهفة المفتوحة على عوالم الذات الداخلية، ومواهبك الفطرية التي أهملتها، كل هذا يقودك إلى مملكة الحكمة. جميع الحواس إن أنت استعملتها بطريقة مختلفة عما كنت تستعملها من قبل تفتح لك مسالك لم تخطر لك قط على بال، تنير لك الردهات والأنفاق، وتمنحك إحساسا جديدا، ورؤى تكشف المستور، وتعري المحجوب.. لن تحتاج هنا إلى المعلم الأول أو الأخير لتكتسب الحكمة أو تنال مقام المرجعية، تحتاج فقط إلى تجديد رؤيتك ورؤاك، والثقة في حسك وحدسك، والاطمئنان إلى روحك وجسدك لتكون عظيما في ضئالتك، متواضعا في شموخك، شقيا في سعادتك، راجلا في ركوبك، متيقظا في نومك، صاخبا في سكونك. هكذا يولد كل شيء منك من جديد عندما تواري الماضي الثقيل بحكايات السحرة والمشعوذين والمرعوبين من حياة لا حقيقة مطلقة فيها خلفك، وتسد كل الثقوب التي يمكن لهذا الماضي أن ينفذ منها، وبالتالي ينفتح المستقبل أمامك بكل مصراعيه لتبصر مشاهد منفلتة كانت في خيالك مجرد احتمال وإمكان، وإذ تشاهدها رؤية العين تدرك كما من الوقت أضعت من حياتك..بل ما كنت أبدا لتكتشفها لو داومت وأدمنت استهلاك حياتك وسط القطيع. صحيح أن رؤية المستقبل من الأمور المحبوبة والمرغوب فيها لأننا نسعى ونتطلع إلى معرفة ما سيحدث لنا أو لعالمنا قبل أن نعيش الحدث وهو يحدث، لأننا في هذه الحالة سنستعد له بعد أن خلقنا ألفة بيننا وبينه وجردناه من روح المبادرة والمباغتة. هذا ما يفسر ميلنا إلى التنجيم والرغبة في استطلاع الغيب، إلا أننا وفي ثقافتنا اليومية نعطي الأولوية المطلقة للماضي، نحتمي به، ونتمسح بأذياله، ونرجو أن يحمينا من مستقبل غير مضمون، بل من مستقبل متروك للغيب، فعندما نتأمل الزمن في اللغة العربية فهو لا يخرج عن زمنين: الماضي والحاضر، وإذا ما رغبت في استعمال الفعل الدال على المستقبل يكفيك فقط أن تضيف حرف "السين" فتحصل على المطلوب، وكأن هذا الأزرق المقيم في مكان ما من الذات والكون لا يساوي إلا حرف همس صغير "السين"..وكأن هذا المستقبل الذي يؤرق الأمم، وتُجَيَّش له من العقول والمؤسسات والإمكانيات ما لا يعد ولا يحصى لا يساوي إلا حرف "السين". افتح عينيك على الأزرق البعيد، وفجر مستنقع الماضي ليجري الماء الراكد نحو الأزرق العظيم،، وانظر إلى نفسك قبل أن تنكرك نفسك، واترك الغير لتدرك ذاتك، دع الآخر في مراغته، فأنت هو هذا المدى: أنت هو الأزرق البعيد