في المغرب يطلبون منك أن تكون مواطنا صالحا، وهم عندما يطلبون منك ذلك فإنما يقصدون أن تكون مواطنا صالحا لهم. يطلبون منك أن تكون معدما وصالحا. أن تدخل يدك في جيبك فلا تعثر سوى على فواتير الماء والكهرباء ولائحة بأسماء الدائنين الذين يطلبونك حيا أو ميتا. يطلبون منك أن تكون مظلوما وعاقلا في الوقت نفسه، حتى لا تضيف إلى لائحة اتهاماتك جنحة الرجولة. يطلبون منك أن تتوجع لكن بصمت. يطلبون منك أن تكون حزينا بملامح مسرورة للغاية، وأن تكون مفجوعا بشكل حضاري، حتى إذا صرخت من شدة الألم أشعلت الأمل والحبور في نفوس المفجوعين من أمثالك. يطلبون منك أن تذهب إلى النوم ببال مرتاح وأفكار مرتبة كملفات السكرتيرات، حتى ولو كنت مبعثرا عن آخرك ولا تهتدي يدك إلى جيبك إلا بمشقة بالغة. يطلبون منك أن تكون أمينا ولا تخلط جيوب الناس بجيوبك، وأن توقظ ضميرك إذا اختلطت عليك الجيوب، وأن تنومه كلما دس أحدهم يده في جيوبك. إنهم يطلبون منك أن تكون تعيسا وودودا، أن تبحث في أعماقك فلا تجد سوى الغضب وأن تعرف كيف تصرف هذا الغضب بلا حمرة في العينين ولا حدة في الأنفاس ولا عض على الأسنان. يطلبون منك أن تمضغ طعامك بفم مغلق حتى لا تتعود أنيابك على الظهور أكثر من اللازم، فهم يخافون أنياب الجياع البارزة ويخشون ألا تجد ما تطحن يوما فيشهرونها في وجوههم السمينة مثل سكاكين اللصوص في المنعطفات الحادة. إنهم يطلبون منك أن تنام بلا أحلام، وإذا حلمت أن تحكي عنها في الغد بشكل خاص جدا حتى لا تثير الشبهات حول النيام الآخرين الذين لا يحلمون بالليل ويؤجلون أحلامهم إلى النهار لكي يروها وهي تتحقق أمامهم في ضوء النهار. إنهم يطلبون منك أن تكون ضريرا رغم أن عينيك أوسع من نافذتين، وأن تنعدم الرؤية أمامك كلما مر أحدهم هاربا بقسطه من الكعكة التي أعدها الشعب، وألا تفتح عينيك إلا عندما يحين دورك التاريخي في جمع الفتات، الذي هو نصيبك النضالي جزاء بصيرتك المتفانية في العماء. إنهم يطلبون منك أن تعيش سعيدا وبسيطا، أن تفترش أوراق الجرائد وأن تلتهم العناوين العريضة والمواضيع الدسمة في نشرات الأخبار. أن تقطن حذاءك وأن ترتدي الثياب المستعملة وأن تضحك بانتظام على الأقل مرتين في اليوم، وأن تحزن بكميات معقولة حتى لا تصاب بتضخم في القلب، فتزاحمهم أسرتهم النظيفة في المستشفيات. إنهم يريدون منك أن تبكي بين حين وآخر، لذلك يسلطون عليك كل تلك المسلسلات والبرامج الرديئة والمنشطين الثخينين في التلفزيون. إنهم يطلبون منك أن تفكر دون أن تكلف نفسك عناء النزول إلى العمق، وأن تظل بالمقابل فوق السطح معرضا ضميرك لتيارات الهواء الباردة. إنهم يطلبون منك أن تتفانى في أداء الواجب الوطني وأن تقنع بأقل الرواتب وأتفه المسؤوليات، وأن تحرق أعصابك يوميا في كتابة التقارير التي لن يطالعها أحد، وأن «تنشف دماغك» في إحصاء الأموال التي لا تعرف البنوك التي ستسمن فيها، وأن يكون كل نصيبك من هذه المحنة أقل بكثير من نصيب أولئك الموظفين الكبار الذين كل بطولاتهم أنهم يضعون توقيعاتهم الرديئة بأقلام حبرهم الضخمة وينصرفون لأخذ أتعابهم الأكثر ضخامة من سيغارهم الكوبي. يطلبون منك أن تكون متذمرا، لكن بقسمات مبتهجة. أن ترقد أمك في السرير بلا علاج وأن تفرح لمجرد أن الأمطار نزلت بكثرة هذا الموسم. أن تجد إشعارا بضريبة ثقيلة تحت الباب عوض أن تجد رسالة صديق، وأن تبقى لديك مع ذلك الرغبة في قراءة كتاب قبل النوم أو الجلوس قرب سرير الصغار وإسماعهم مرة أخرى حكاية ذلك الوحش الذي التهم بمفرده وطنا رائعا ثم مات وحيدا بسبب التخمة. يطلبون منك أن تنام باكرا وتصحو باكرا لأن هذا من صفات المواطن الصالح، وهم لا يعرفون أن النوم في هذه الأيام أصبح يتطلب أدوية كثيرة واحتياطات أكثر بسبب كل الكوابيس المرعبة التي أصبحت تتسكع في أحلام الفقراء مثل القطط الضالة. إنهم يطلبون منك أن تكف عن إزعاجهم بمشاريعك الطموحة وأفكارك النيرة، أن تقتنع بأن الحرية امرأة مطلقة تنام مع الغرباء، وأن الكرامة ليست سوى ضربة حذاء ثقيل مغلفة بقفاز أبيض، وأن الشجاعة ليست سوى صورة صفراء لفارس ملثم يطعن غولا كانت معلقة على جدران مدارسنا الابتدائية. إنهم يطلبون منك أن تمنحهم كل وقتك وكل إعجابك وكل مشاعرك، لأنهم يحتاجونها جميعها ليقنعوا أنفسهم بجدوى العطور الثمينة التي يشترونها من عواصم العالم، وبجدوى تسريحات شعور زوجاتهم الناعمة وبجمالية جلستهم المتراخية على كراسيهم الوثيرة. إنهم يطلبون منك ألا تكون مبالغا وأنت تحكي عن تعاساتك، أن تستعمل الكلمات التي تليق بالنعيم الذي يرتعون فيه وأن تعرف حدود مياهك الإقليمية جيدا. أن تسحب شكواك عندما لا يكون هناك استعداد من طرف سعادتهم لسماعها، وأن تبسط امتنانك البالغ لقبولهم استقبال مواطن حقير ووضيع مثلك. وفي الأخير ينصحونك بأن تعتمد على مواهبك وأن تحل مشاكلك بنفسك، رغم أنك لم تتسبب قط في خلق أي مشكل، والحل الوحيد الذي يقترحون عليك هو أن تدفع حياتك بالتقسيط المريح حتى تسدد الأخطاء التي ارتكبها غيرك. إنهم يطلبون منك أن تتعلم كيف تتخابث في كلامك كما يتخابثون، وأن تضع بين كل كلمة وأخرى عبارة شكر وامتنان. إنهم يطلبون منك أن تكون حريصا على حياتك وأن تفكر في المستقبل بجدية، وينصحونك بأن تكون رومانسيا وأن تلتقي نظراتك بنظرات فتاة في القطار فتسقط في حبها على الفور وتتزوجا كما يحدث في المسلسلات المكسيكية الرديئة التي يقدمونها لك يوميا على مائدة الغداء. هكذا تصبح مواطنا صالحا وتصير لك زوجة وأبناء وواجبات وديون وفواتير لا تحصى وحسابات عند المحلات التجارية والصيدليات، وحسابات أخرى عويصة مع الجيران. إنهم يطلبون منك أن تؤلف عائلة صغيرة وكتبا في أوقات الفراغ، أن تذهب كأي غبي مسرور إلى العروض السينمائية التي تبتز جيوب الناس. أن يصبح لك سطح تعيش فوقه وعتبة للفقر تعيش تحتها. أن تنجب أطفالا وتتزاحم أمام أبواب المحلات التجارية لتشتري لهم الحليب الاصطناعي، لأن أمهم سترفض أن ترضعهم ثدييها انسجاما مع تعاليم الحركة النسائية العالمية. إنهم يطلبون منك أن تأخذ الأطفال إلى النزهة خلال أيام الآحاد، لكي يضعوك في حيرة من أمرك ويجعلوك تفكر وقتا طويلا لماذا يقترحون عليك دائما حديقة الحيوان. إنهم يطلبون منك أن تشتغل طوال حياتك مثل بغل جبار وعندما تصل سن التقاعد يصرفون لك مرتبا لا يكفي لإعالة كلب واحد من كلابهم الأنيقة. إنهم يطلبون منك أكثر ما يمكن من الهدوء في الأعصاب، وأقل ما يمكن من الغضب في النظرة، وتقريبا لا شيء من الكرامة. إنهم يطلبون منك أن تكون جائعا ورائعا عاريا وشريفا وحيدا وأليفا... يطلبون منك أن تكون مضروبا وغير ناقم مهشما وكل جوارحك تصفق لهم... إنهم يطلبون منك المستحيل يا أخي، إنهم ببساطة يطلبون رأسك لا أقل ولا أكثر.