عجبي ممن لا ترى عيونهم إلا المدى وما وراء السراب ، ومن لا يتألمون إلا للتأوهات الآتية من آلاف الكيلومترات ، ولا يتاففون إلا كلما مس من بالشرق بمكروه ، ولا يبادرون ، يصرخون ، ينادون ، يتسولون إلا لأبناء الشرق من \" أهلنا وأشقائنا \" العرب..عجبي ممن لا ترى عيونهم معاناة ومآسي من بالدار ، ولا تسمع آذانهم أنين أبناء الدار ، ولا تصدح حناجرهم بالعويل والنواح لجراح وكوارث أهل الدار. علامات تعجب كبيرة ، وعلامات استفهام أكبر ، وأسئلة تؤرق الملايين من أبناء هذا الشعب وساكنة هذه الأرض من أمثالي ، عن مغزى ما يحدث ، وتقسير ما يجري ، وفهم ما جرى . إن أشد ما يحز في النفس ويقطع القلب ويدمي الفؤاد ، أن ترتكب كل هذه الجرائم باسم الأخوة والتضامن والمساندة ، وتوظف القواميس التي تفيض حنانا واستجداء للعطف ، وتجمع التبرعات وتقام المآثم وحفلات البكاء لمن تفصلنا عنهم آلاف الكيلومترات ومن بالغرفة المجاورة ، البيت المجاور ، أو الدوار والقرية المجاورة أحوج إلى مرق الجراد ( كما يقول الأمازيغ).. إن الآذان والقلوب السوية التي توجد جنبا إلى جنب في الأجساد العادية مع العقول السليمة والأبصار السوية ، لا يمكن أن تتجاهل مآسينا ، مأسي المغاربة ، الذين يموتون عطشا ، جوعا وعراء ، تجمدا بالثلج والصقيع ، أو غرقا في البحر والمحيط ، الذين ينخر الفقر ظهورهم ، ويغتال الغلاء ما تبقى من أنفتهم ، وتعيش أغلب أسرهم من عائدات الأمراض الإجتماعية المختلفة ( تسول ، دعارة ، نصب ، قوادة...) التي ما ارتموا فيها حبا ولكن طلبا للقوت وصراعا من أجل البقاء لانسداد كل الآفاق أمامهم. فبينما تصدح حناجر الإخوة والرفاق ، وترتعد فرائصهم ، ويشتد تهديدهم ووعيدهم ، ويرتفع صراخهم و\"صواريخهم الورقية \" في شوارع الرباط والبيضاء ، وعلى شاشات القنوات الفضائية التي تفوح منها روائح البترول والنفط ، وتسيل أقلامهم أطنانا من المداد على كيلومترات من الورق ، مزمجرين منددين مستنكرين لكل ما يحدث في العالم \"للأشقاء العرب\" ، مستعطفين ، متسولين، رافعين القضايا أمام مختلف المحاكم الدولية، مرسلين بعثات الأطباء والصيادلة والمهندسين والطائرات ، وأطنان الألبسة والأغذية والأدوية وكل ما لذ وطاب من العطايا \"للأهل في فلسطين\" والهبات ،مهللين مطبلين فرحين للواهم من الإنتصارات ، تبقى أوضاع خمسة وسبعين بالمئة من أهالينا الحقيقيين ، أهالي مناطق المغرب أفظع من فلسطين وأطم. وبينما تعرف بلادنا ، خصوصا منها مناطق المغرب غير النافع ، المغرب العميق ، الذي يعيش فيه ملايين المغاربة الأمازيغ القرون الوسطى بكل تفاصيلها : غياب تام أو شبه تام للدولة ، انعدام تام للبنيات التحتية ، انعدام أية علاقة للساكنة بالوطن اللهم بطائق التعريف إن وجدت وقاعات للدرس كئيبة متهالكة هنا وهناك ، وطبعا مؤسسات المخزن التقليدي من مقدمين وشيوخ وخلفان وقياد ودرك لا تخلو منها اية نقطة في البلد مهما بعدت أونأت ، وبينما يعتمد سكان هذه المناطق على سواعدهم النحيلة وقدراتهم المتواضعة في الحصول على الخبز اليومي ، ويركبون حميرهم التي كتب عليها ايضا البؤس والحرمان ، قاطعين الكيلومترات باحثين في الصيف عن جرعات ماء لإرواء العباد والبهيمة ، وفي الشتاء عن كومة حطب لتدفئة الأنفس من موجات البرد والصقيع العظيمة ، وتتسلط عليهم المآسي والأمراض والكوارث الطبيعية بمختلف أصنافها وأنواعها ، فسواء ساد الجفاف أو تهاطلت الأمطار والثلوج غزيرة ، تشتد المعاناة ، بل الأدهى والأطم أن الساكنة صارت تفضل الجفاف بآثاره الخطيرة ، على أمطار وثلوج وصقيع وبرد (بفتح الراء) وبرد ( بتسكينها) لا تبقي ولا تذر ، تزهق الأرواح وتحاصر الناس في أكواخهم – حتى لا نقول منازل لأن المنازل الحقيقية لا يملكها في المغرب إلا المحظوظون أو المستحظظون – التي غالبا ما تنهار إن استمرت الأمطار اياما بل ساعات معدودة ، فتزهق الأرواح البريئة جوعا أو بردا أو تجمدا أو غرقا في الأوحال ، في غياب أدنى تدخل للدولة ومختلف أجهزتها ، أو كلمة حق من أحزاب ومنظمات ترصد دموعها وعويلها ونواحها لقضايا \"الأمة\" ولا تتسول إلا \"لأهالينا\" من أبناء\" الأمة\" فتنعيهم \"شهداء\" وتعيلهم \"أحياء\". فمن منا لا يتذكر مجزرة الصقيع بأنفكو التي حصدت أرواح أزيد من ثلاثين طفلا ، ومن منا ينكر أن \" إنفكوتن\" المغرب أكثر من أن تعد أو تحصى ، فمن أقصى نقطة في شمال المغرب حيث لا يزال ضحايا زلزال ضرب الحسيمة قبل أربع سنوات ينامون في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، مرورا بجبال الأطلس الشامخة التي أبلى أبناؤها البلاء الحسن في الدود عن الأرض عقودا قبل أن يفاجأوا بإسقاطهم من كل ذكر أو تذكير – وهذا موضوع آخر – ليترك ابناؤها اليوم وجها لوجه مع الثلج والجوع والعراء ، يواجهون قدرهم وحدهم ، في قمم وسفوح الجبال لا يتذكرهم الإخوة والرفاق ابدا إلا عندما يكون في نفس يعقوبهم غرض ، وأغراضهم شتى هذه الأيام ، بينما ملايير من أموال الشعب تهدر في مختلف الإعانات، والمشاريع الوهمية التي لا وجود لها إلا على الورق ، والإحتفالات التي تعد مهزلة اثني عشر قرنا آخرها والتي استنزفت عشرات الملايير من أموالنا كان حريا بمن رصدها أن يفك بها عزلة دواويرنا التي نحاصر فيها هذه الأيام بالثلوج والأوحال ، وصولا إلى الجنوب الشرقي مع التعريج على الجنوب الأوسط من ايت باعمران إلى إيحاحان ، قتل الجوع ويقتل ، جمد الصقيع ويجمد ، رحل العطش ويرحل ، وحاصر المخزن ويحاصروقمع ويقمع الملايين من المغاربة ، حصار تختلف أساليبه وتتعدد أوجهه وتتشعب غاياته ، وقمع تعددت أشكاله ، فمنعت كل برامج التنمية عن هذه المناطق ، وهمش وتفه وأقصي ابناؤها ، ومورست عليهم مختلف أشكال التفقير والتجويع والتهجير، وقمع منهم من وصل سيلهم الزبى في سيدي إيفني وبومال ن دادس وأيت رخا وصفروغيرها من الربوع. واجتهدت العبقريات في اختراع أشكال جديدة من أدوات القمع والتهجير ، فاستخدمت القوات العمومية لأول مرة بإيفني مقاليع لرمي المتظاهرين بالحجارة ، لتتفتق عقول واضعي برامج الإفناء لكل ماهو مغربي أمازيغي التي تقود هذه البلاد ، عن تقنية جديدة تتمثل في تسليط قطعان الخنازير البرية على القرى الأمازيغية ، حيث أفرغت حمولة عشرات الشاحنات في مختلف المناطق مع إرفاقها بتعليمات صارمة تتضمن التهديد والوعيد والويل والثبور وإنزال أقصى العقوبات من قبل رجالات المخزن بكل من مس \"أبقار المخزن\" بسوء ( انظر منطقة ايت عتاب نموذجا) ، فعاثت الخنازير في الأرض فسادا ، فأهلكت الزرع وروعت الساكنة التي لم تعد تستطيع المغامرة بالخروج من أكواخها / مساكنها إلا لماما خوفا على أرواحها من خنازير المخزن التي أتت على كل شيء ، لينضاف هذا الفتح المبين لمختلف السابق من أنواع الفتوحات المستمرة منذ أزيد من أربعة عشر قرنا . إن أحلامنا في عيش كريم ، وآمالنا في مستقبل زاهر لوطن آمن يضمن لأبنائه أبسط درجات العيش و الكرامة ، يحتضنهم كما هم ، وليس كما ينظر لهم مؤدلجو ومؤسطرو وماسخو كياننا ، هويتنا ، حضارتنا وتاريخنا الطويل ، من يمعنون في مشاريع استلابنا وشغلنا بقضايا لا تعنينا تحت يافطات العرق الواحد والدين الواحد واللغة الواحدة التي أكل عليها الدهر وما شرب ، فعلقت في بلعومه دهرا ما ظهرت بوادر انصرامه بعد ، إن هذه الأحلام ، يطل علينا الإخوة والرفاق - كلما مات مشرقي سعى إلى حتفه بقدميه – آمرين ، طالبين منا التضامن والجهاد ، مخونين مهولين مغولين من ردد مثل كلامي هذا ، في أن ذوي القربى أولى بالصدقة ، ومن هم بالجنب أحق بالتضامن ، وأن أطفال السودان ونساءه قتلوا بالآلاف ، وشرد أكراد العراق وآشوريوه وأبيدوا بالكيماوي ، وان عباس وهنية أخوان يتقاتلان ، فمع من نتضامن ، ومن من الجانبين قتلاه في الجنة ومن في النار ، وأنهم بالأمس القريب هللوا لمعجزات \"المجاهدين الأفغان\" وانتصاراتهم ، الذين – وبكل أسف – ما انصرف الروس حتى نزلوا في بعضهم تقتيلا ، إن هذه الأحلام – وفق تصورهم – يجب أن تؤجل ، فلا يحلم أحد منا بخبز ، وماء ، ودواء وغطاء وأمن وهواء ، حتى تتم تسوية نزاعات العرب ، وتنتهي صراعات العرب ، وتتحقق انتصارات العرب ، فلنمت جميعا – نحن أبناء المناطق الجبلية - أو نتجمد ، أو ننفق ، ولتبق مناطقنا خارج التغطية ، ولتتضاعف أنفكواتنا ، إذ لا يحق لنا النبس بكلمة هنا والآن ، طالما لم تسو قضايا الأمة... الطيب أمكرود [email protected]