الحزب الرابع عشر: يبتدئ بقوله تعالى: (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم، مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) يبين القرآن الكريم في هذا الحزب أن الناس ليسوا وحدهم في هذا الكون، حتى يكون وجودهم مصادفة، وحتى تكون حياتهم سدى! ويقر أن حولهم أحياء أخرى، كلها ذات أمر منتظم، يوحي بالقصد والتدبير والحكمة، ويوحي كذلك بوحدة الخالق، ووحدة التدبير الذي يأخذ به خلقه كله. وتنتهي الآية بتقرير أمر عظيم، وهو أن ما وراء الهدى والضلال من مشيئة الله وسنته، وما يدلان عليه من فطرة الناس في حالات الهدى وحالات الضلال: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات. من يشأ الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم). وهو إعادة لتقرير الحقيقة التي مضت في هذه الجولة عن استجابة الذين يسمعون، وموت الذين لا يستجيبون. ولكن في صورة أخرى ومشهد آخر. إن الذين كذبوا بآيات الله هذه المبثوثة في صفحات الوجود، وآياته الأخرى المسجلة في صفحات هذا القرآن، إنما كذبوا لأن أجهزة الاستقبال فيهم معطلة. ويقرر هذا الحزب مسألة أخرى تتمثل في أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته، يعلمون علم اليقين أن ما يدعون إليه هو الحق، وأن الرسول الذي جاء به من عند الله صادق. ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون، ويستمرون في جحودهم عنادا وإصرارا، لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب! وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه، وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له، متى كانت هذه الفطرة حية، وأجهزة الاستقبال فيها صالحة: (إنما يستجيب الذين يسمعون). ثم يختم الله تعالى الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات. من يشأ الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم). فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم. إنهم صم وبكم في الظلمات. ويقرر سنة الله في الهدى والضلال. إنها تعلق مشيئة الله بهذا أو ذاك، وفق الفطرة التي فطر الله عليها العباد. لجوء الناس إلى الله عند الشدة والإبتلاء مقدمة الوحدة مواجهة المشركين بفطرتهم يواجه السياق القرآني فطرة المشركين ببأس الله. بل يواجههم بفطرتهم ذاتها حين تواجه بأس الله. وتنسى حكاية الآلهة الزائفة، وتتجه من فورها إلى ربها الذي تعرفه في قرارتها تسأله وحده الخلاص والنجاة! ويؤكد هذه الحقيقة قوله تعالى:(قل:أرايتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة، أغير الله تدعون - إن كنتم صادقين - بل إياه تدعون، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) الحزب الخامس عشر: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ كْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) يشتهون أن لو يجيبهم الله إلى ما يطلبون ! ويقترحون على رسول الله (ص) أن يسأل ربه هذه الآيات التي يقترحها المقترحون ! والحقائق التي يحملها مطلع هذا الحزب هي أن الإيمان أو الكفر. والهدى أو الضلال، لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق. فالحق هو برهان ذاته. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له. إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته، وفي الحق بذاته، وليست متعلقة بعوامل خارجية. فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته. والحقيقة الثانية: هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال. فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء، وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان. فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله. ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته. فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات. وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة. ومرد الأمر كله إليه في النهاية. ويتضح أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي، ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء، هم شياطين ! شياطين من الإنس ومن الجن، وأنهم يؤدون جميعاً شياطين الإنس والجن وظيفة واحدة! وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضله كذلك مع قيامهم جميعاً بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله. ومع ذلك فإن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا ك، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم. إنما هم في قبضة الله. وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده0من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم. وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء. عبد الغني بوضرة