بانطلاقة السنة الجامعية الحالية 2003 ,2004 يكون الإصلاح البيداغوجي، الذي أعلن عنه وزير التعليم العالي وتكوين الأطر في ندوة مراكش مطلع السنة الجارية، قد دخل حيز التنفيذ، مخلفا العديد من التساؤلات واختلاف وجهات النظر في تقييم مدى تفاعل المحيط الجامعي معه من أساتذة وطلبة ونقابة ومهتمين. ذلك أن الجامعة المغربية وإلى حدود الآن ما زالت تعرف إفرازات طبيعية لمسار الإصلاح وللعراقيل التي تحول دون تفعيله بالشكل الذي سطر له عند صياغته وفق مقتضيات ميثاق التربية والتكوين التي تولته اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين تحت إشراف الأستاذ عبد العزيز مزيان بلفقيه، والتي قام أفرادها الذين مثلوا مختلف الأحزاب والهيئات السياسية بزيارة للعديد من الدول الأوروبية بقصد نقل تجربة تلك الدول إلى المغرب. ولقد اختلف بشكل عام في زاوية النظر إلى الإصلاح، فهناك من يعتبر أنه إصلاح طموح يفوق مستوى التعليم العالي ببلادنا، وهناك من يقول إنه إصلاح فوقي لا دخل فيه للفئات المعنية به من أساتذة وطلبة وغيرهم، ومن قائل إنه استنساخ للتجربة الغربية وحرص على استنباتها في تربة غير تربتها. الندوة الوطنية البيداغوجية بمراكش تتويج لمسار طويل في إصلاح التعليم العالي شكلت الندوة الوطنية البيداغوجية بمراكش التي نظمتها وزارة التعليم العالي بكلية الطب والصيدلة بجامعة القاضي عياض بمراكش في يناير الماضي بداية لمسلسل من التعليقات والتقييمات لواقع التعليم العالي ببلادنا لم تنته فصوله بعد، ذلك أنه مباشرة بعد الإعلان رسميا من طرف السيد وزير التعليم العالي، الذي افتتح الندوة الوطنية عن النظام البيداغوجي الجديد، توالت ردود فعل الأساتذة الجامعيين الذين اعتبروا أن الندوة تحولت من طبيعة ذات صبغة تشاورية تواصلية إلى طبيعة تقريرية، الأمر الذي لم يستسغه الأساتذة الجامعيون، وبالتالي رأوا في الحدث تغييبا لرأيهم وإجحافا في حقهم، وهو ما دفع بهم إلى الإعلان عن مواقفهم التي لم تكن مسايرة على الإطلاق لتوجه الوزارة المعنية التي دعت إلى الدخول الفوري في الإصلاح. ويعتبر الإصلاح البيداغوجي الحالي تتويجا لمسار طويل من الإصلاحات الجامعية، آخرها الإصلاح الجامعي الذي تم سنة 1994 والذي سمي آنذاك بمشروع ميثاق وطني للتعليم العالي، ركز على ضرورة جعل الإصلاح ذا ديموقراطية وشمولية أكثر في التسيير، وأن يضمن للجامعة استقلاليتها، لكنه إصلاح لم يكتب له النجاح على غرار الإصلاحات السابقة، مما اقتضى وضع إصلاح جديد سنة 1997 في عهد إدريس خليل اقتصر على إعادة النظر في صيغة الدراسة بالسلك الثالث ووضعية الأساتذة الباحثين. وفي إطار سيرورة الإصلاحات الجامعية المتوالية، تم تشكيل اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين التي يرأسها الأستاذ عبد العزيز مزيان بلفقيه، مع بداية تجربة التناوب، وهي اللجنة التي تولت صياغة ميثاق التربية والتكوين الذي ينص من بين ما ينص عليه بشأن الجامعة على القانون المنظم للتعليم العالي ببلادنا، وهو القانون 00 01 الذي صادق عليه البرلمان المغربي بالإجماع. ومنذ انطلاق الإصلاح الجامعي البيداغوجي في 28 فبراير,2001 قامت لجنة تنسيق وتتبع الإصلاح بإنجاز العديد من الوثائق المنظمة التي تم توزيعها على مجموع الجامعات المغربية بغية أجرأة الإصلاح ومواكبة تطوراته، خاصة وأن القانون 00 01 يعطي دورا أكبر لرئيس الجامعة في تسيير مؤسسته من خلال انفتاح هذه الأخيرة على محيطها الاقتصادي والاجتماعي. وفي هذا الإطار فإن الإصلاح الذي أريد له أن يعطي كامل الاستقلالية للجامعة المغربية، بحيث تتخذ رئاسة الجامعة بكل حرية ما تراه مناسبا لظروفها وطبيعتها وخصوصياتها، من إجراءات وتدابير بما في ذلك طبيعة الوحدات والمسالك المعتمدة، تبين في الأخير أن وزارة التعليم العالي تراجعت عن مبدإ الاستقلالية كأحد مقوماته، بدليل أنه بمنطق مبدإ الاستقلالية المادية والإدارية والبيداغوجية لكل جامعة على حدة، انطلق الأساتذة في وضع تصوراتهم وبرامجهم وأهدافهم لهذا النظام الجديد الذي سيحكم التعليم العالي، الأمر الذي اقتضى منهم مدة من الزمن فاقت سنتين كاملتين، إلا أنه اتضح في ما بعد أن هناك إرادة رسمية في التراجع عن مبدإ الاستقلالية، وهو ما استشف من خلال جعل ما نسبته 70 بالمائة من الوحدات مشتركة وطنيا. إحصاءات جامعية بلغ مجموع الطلبة المسجلين بالجامعة المغربية برسم السنة الجامعية الحالية 2003 2004 حوالي 319000 طالب بزيادة وصلت 2,3 عن مجموع الطلبة المسجلين خلال السنة الجامعية الماضية، ومن هذا العدد توزع ما نسبة 84 بالمائة على التعليم العالي الجامعي و9,3 بالمائة على مؤسسات تكوين الأطر، و2,4 على التعليم العالي الخاص. وفي تحليل هذه المعطيات، ذهب الأستاذ محمد أنس، في ملف حول الإصلاح الجامعي، أعدته الزميلة العصر إلى أن نسبة الطلبة في كل مائة ألف نسمة من السكان وصلت إلى 1092 طالبا، مما يعني أن الطلبة يمثلون ما يقارب 9 بالمائة من عدد السكان المتراوحة أعمارهم ما بين 19 و 24 سنة، في الوقت الذي تصل فيه هذه النسبة ببعض الدول الأوروبية مثلا إلى 40 بالمائة. وفي إحصائيات رسمية يبلغ العدد الإجمالي الحالي لمؤسسات التعليم العالي ببلادنا 74 مؤسسة، تتوزع على 14 جامعة في 17 مدينة جامعية. نماذج تبرز صعوبة أجرأة القانون 00-01 اعتبارا بنص المادة الخامسة من القانون المنظم للجامعة المغربية التي جاء فيها: تتمتع الجامعات في إطار مزاولة المهام المسندة إليها بالاستقلال البيداغوجي والعلمي والثقافي مع مراعاة أحكام هذا القانون ويمكن للجامعات أن تبرم مع الدولة عقودا لسنوات عدة بشأن بعض أنشطة التكوين والبحث. ويدل صريح منطوق هذه الفقرة على أن الجامعات تتميز بالاستقلال البيداغوجي الكامل، مما يعطي للأساتذة الجامعيين وحدهم فقط صلاحية وضع البرامج والمضامين البيداغوجية في سياق الأهداف العامة للوزارة الوصية على التعليم العالي. إلا أن هذه الأخيرة، وبعد سنتين أو ثلاث سنوات من الاشتغال في وضع الوحدات والمسالك المحلية الموافقة لخصوصيات كل جامعة مغربية على حدة، قوبل هذا الجهد الذي بذله الأساتذة بإجهاز كامل على حقهم المشروع في وضع ما يرونه صالحا من الموحدات والمسالك، وذلك من خلال إقدام وزارة التعليم العالي على قلب النسبة الخاصة بالوحدات الوطنية المتفق عليها، وبالتالي جعلت 30 بالمائة من مجموع الوحدات محلية و70 بالمائة وطنية، والأصل أن تكون 30 بالمائة وطنية، و70 بالمائة محلية، وبذلك تم خرق القانون 00 01 بشكل واضح لا غبار عليه. يضاف إلى هذا تصرف وزارة التعليم العالي في الوحدات والمسالك التي بعث بها الأساتذة إليها قصد المصادقة من أجل الاعتماد فتم التصرف فيها بطريقة جعلت أصحاب هذه الوحدات أمام اقتراحات جديدة لا قبل لهم بها، أساءت إلى الأهداف والمقاصد التي وضعها بها أساتذة الجامعة المعنية. إصلاح جديد ورفض جامعي متواصل ما تزال ردود فعل الأطراف المعنية بالإصلاح البيداغوجي متواصلة، ذك أن رفض الأساتذة واحتجاجهم في اللحظات الأولى من تنزيله يستمد تاريخيته ومشروعيته من الموقف الذي تبناه الأساتذة بشكل يكاد يكون مجمعا عليه، وهو ما عكسته البيانات الصادرة عن جل الفروع الجهوية للنقابة الوطنية للتعليم العالي في نهاية الموسم الجامعي الماضي. وفي هذا الإطار نبه الأساتذة حينئذ إلى بعض التحديات التي قد تفشل الإصلاح ما لم يتم تجاوزها من قبيل غياب الشروط الضرورية، ومن ذلك عدم استجابة الوزارة المعنية للإسراع في إعادة النظر في المسالك والوحدات المصوغة مركزيا، وانعدام الإمكانات المادية والبشرية الضرورية لضمان انطلاقة سليمة للإصلاح بما في ذلك قاعات التدريس والأطر الكافية المختصة في التواصل واللغات والإعلاميات. وعموما يمكن حصر التحديات التي تواجه الإصلاح البيداغوجي الحالي، برغم ما يتوفر عليه من عناصر القوة التي يمكن للمغرب أن يتباهى بها إذا ما تحققت، في بعض الإشكالات، أشار إلى بعضها الأستاذ محمد إد عمر، الكاتب العام الجهوي للنقابة الوطنية للتعليم العالي بفرع تطوان، والكاتب العام للمنتدى الوطني للتعليم العالي والبحث العلمي، ومنها: إن كليات الحقوق والآداب التي تستقبل سنويا الآلاف من الطلبة الجدد يستحيل في ظل مقتضيات القانون الإطار00 01 أن تشتغل بنظام التفويج، بحيث لا يتعدى الفوج 30 طالبا، وذلك بسبب الاكتظاظ. لم يعط بعد الدور الكامل للأساتذة داخل الشعب المختصة في صياغة برامج بيداغوجية متجانسة ومتكاملة، تأخذ بعين الاعتبار مختلف مراحل وأسلاك الهندسة البيداغوجية الوطنية وواقع وإمكانات المحيط البيداغوجي والاقتصادي والاجتماعي الذي ستطبق فيه. عدم تدبير وتهييء ملف الإصلاح الجامعي بالشكل الذي يتم فيه إشراك الأساتذة والطلاب وباقي المعنيين به، وما صاحب ذلك من بطء في تجديد الهياكل الجامعية والتداخل بين ما هو جديد وما هو قديم. النقابة الوطنية للتعليم العالي تبحث عن موقع لها في ملف الإصلاح كان رد فعل النقابة الوطنية للتعليم العالي حول ما جاء في الندوة الوطنية البيداغوجية سريعا، فقد استطاعت تنظيم يومين دراسيين بكلية العلوم بالرباط على بعد أسبوع فقط من انعقاد ندوة مراكش، وبالضبط في يومي 25 و 26 يناير الماضي ، حيث عملت على تقديم صورة لواقع التعليم العالي والبحث العلمي بالمغرب، وحاولت أن تجد موقعها ضمن دائرة النقاش الدائر حول الإصلاح. ولئن كانت النقابة الوطنية للتعليم العالي قد عقدت لقاءات متعددة وفي وقت مبكر لدراسة مآل الإصلاح البيداغوجي وموقفها منه، فإن بياناتها لم تعكس موقفا موحدا في الموضوع، وفي هذا السياق اعتبر محمد إد عمر أن تعامل النقابة مع هذا الملف اكتنفه كثير من اللبس منذ انطلاقه، فقرار المؤتمر الوطني السابع واضح وينص على شمولية الإصلاح الجامعي بما في ذلك النظام الأساسي للأساتذة الباحثين ودمقرطة الهياكل الجامعية ثم الإصلاح البيداغوجي والبحث العلمي. غير أن القائمين على النقابة مركزيا يتعاملون مع الملف تعاملا سياسيا فضفاضا ، وهو ما يستشف من خلال البيانات والدوريات الوطنية المتضاربة التي أصدروها في الموضوع، وهي إما مذكرات تدعو الأساتذة إلى مقاطعة المشاركة في مناقشة وصياغة الإصلاح البيداغوجي، أو مذكرات تدعو إلى الانخراط فيه، أو بيانات تختزل الإصلاح في نظام التعويضات المادية للأساتذة الباحثين. وفي السياق ذاته، ذهب الأستاذ خالد الصمدي الرئيس الوطني للمنتدى الوطني للتعليم العالي والبحث العلمي بالمغرب في حوار خص به أخيرا أسبوعية العصر إلى أن النقابة الوطنية للتعليم العالي تعاملت بشكل سلبي مع ملف الإصلاح واختزلته في تعويضات الأساتذة. خلاصة إن التعليم العالي هو ركيزة أي تقدم لأي مجتمع، ودونه تظل المجتمعات جامدة، وغير قادرة علي مواكبة متغيرات العصر، والتعليم العالي لا يعني فقط المؤشرات الكمية في عدد الجامعات وعدد الطلاب الذين ينتمون إليها، وإنما يعتمد بالأساس علي المؤشرات النوعية لدور هذه الجامعات في تناول قضايا المجتمع ومشاكله، وهذا الدور يتوقف على فهم تلك المشكلات وتقديم الحلول الملائمة لها، من خلال الدراسات والأبحاث النظرية والميدانية، وهذا بدوره يتطلب مناهج تعليمية متطورة تتناسب مع معطيات العصر ومقتضيات الهوية. عبد الرحمان الخالدي