. ينشأ الحافظ خليل إسماعيل منصرفًا إلى تعلم وإتقان علوم القرآن في مجال التلاوة وقواعدها وأنماطها، حتى صار على مقربة تمامًا من امتلاكه لناصية الاقتدار من فن التلاوة حتى دخل الإذاعة العراقية في العام 1941م ؛ حيث اعتمد فيها قارئًا مجيدًا للقرآن الكريم. يمكن القول أنه بدخول الحافظ خليل إسماعيل دار الإذاعة العراقية، تغيرت معايير التجديد لدرجات القراء العراقيين المعتمدين في دار الإذاعة العراقية، وصارت هذه المعايير تقترن تمامًا بالدرجة التي يملكها القارئ الحافظ خليل إسماعيل، وعندما ظهر الحافظ إسماعيل كانت التلاوة البغدادية تضم في جنباتها قارئًا كبيرًا هو الحافظ مهدي، وقارئًا أصوليًا هو الحاج محمود عبد الوهاب، وقارئًا شديدًا في محافظته على تقاليد التلاوة في ابتعادها عن مذهب التغني هو الشيخ عبد القادر الخطيب، ومقرئًا يتطلع إلى فن المزاوجة المدرسية لفنون التلاوات هو الحافظ صلاح الدين. وفي خضم هذه الأصوات نبع صوت الحافظ خليل إسماعيل قارئًا متمكنًا، متفننًا، عارفًا بأسرار التلاوة، منقطعًا إلى قواعدها الثرية، سابحًا في فيض من الابداع الترتيلي والتجويدي والإقرائي، ومنذ سبعة وخمسين عامًا لم يكن هناك عهد للإذاعة العراقية بهذا الظرف الذي حظت به عندما سمعت صوت خليل إسماعيل لأول مرة يتلو القرآن من دار الإذاعة، حيث انسابت النبرات الموسيقية الدقيقة الدافئة، تمد من حنجرته المتدبرة، ولم يكن الحافظ خليل إسماعيل قارئًا مجودًا للقرآن فحسب، بل كان في واقع الحال إنسانًا اختصته العناية الإلهية بتلاوة القرآن كأنما كانت مهمته في الأساس هي تلاوة القرآن مرتلاً إياه على الأسماع ترتيلاً متقنًا، هادئًا، دافئًا عارضًا عليهم معانيه وألفاظه المُعجزة، فإذا تلا آية من آيات الثواب والرحمة والمغفرة، سرت في صوته رعشة الاستبشار كأنه يلمس الرحمة ذاتها، رحمة رب السموات، وإذا مر قارئًا بآية من آيات العقاب والعذاب، سرت في أوتار صوته رجفة طويلة في داخلها خشية ؛ بل إن دموع قلبه المتحزن تجري في نبرات صوته، فتلاوته تستقطر حزنًا دامعًا، باكيًا، ووجدانه وقد امتلأ بهذه الآية الكريمة : ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًا )(مريم/58)، وهو يتمثل أيضًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن نزل بحزن فاقرأوه بحزن، ومن حسن حظ اسماع عصرنا أن جلس بينهم هذا الحافظ الفنان، لكي يتدبر تلاوة القرآن، حيث امتلك مزايا التلاوة الكاملة، وهي جمال الصوت واكتماله، وحلاوة الأداء وعمق الإحساس. تمتع الحافظ خليل إسماعيل بجمال صوتي واتساع مساحته وقدرته على التصرف في الأنغام، وقيل ما قيل عن هذا القارئ من قبل حساده، من أنه قارئ حسن الصوت،ولكنه ليس قارئًا مثاليًا للقرآن لأن القارئ المثالي يعتني كل الاعتناء بإبانة الحروف والكلمات وتمييز بعضها عن البعض وإظهار التشديدات وإتمام الحركات، لكن الحقيقة أن خليل إسماعيل يمتلك كل ذلك وفوق ذلك أيضًا من ترقيق في موضع الترقيق، وتفخيم في اللفظ في موقع التفخيم، وقصر ما يجب قصره، ومد ما يجب مده، والوقوف على ما يصح الوقوف عليه، لا تعليق الوقوف على ما يختاره القارئ من وقفات تطابق سير الألحان والأنغام ولا تطابق صحة التلاوة وسلامتها الفنية والقواعدية، ولم يكن غريبًا على هذا القارئ الممتاز أن يكون صوته هو الوعاء الحافظ لألوان الأنغام العراقية، ذلك الذي أهلّه فعلاً لأن يجلس على عرش التلاوة العراقية بلا منازع بامتداد صوته وتمتع هذا الصوت بدرجات موسيقية سليمة من أخفض طبقة في قرار الصوت إلى أعلى طبقة في جوابه، ولم يكن من السهل أن تبقى تلاوة الحافظ خليل إسماعيل أسيرة صوته ؛ بل سرعان ما ظهرت طبقة من الأصوات العراقية الجديدة بعد عصر الأصوات الكبيرة تلك التي تدين بالولاء لطريقة وأسلوب الحافظ خليل إسماعيل، ويمكن القول أن سحر تلاوته قد أثر تمامًا على عصره كله، فلم يكن من السهل أن يظهر قارئ يقترب من فئة الكبير والممتع والعميق. وعلى الرغم من أن السنين قد فعلت ما فعلت بصوت الحافظ خليل إسماعيل كما هي شأنها في الفعل بكل الأصوات التي مرت على أسماعنا، فإن هذا القارئ الذي يعرف أسرار التلاوة البغدادية معرفة جيدة، قد غلظ صوته وكثرت فيه التقطيعات،لكنه بقى في الميدان وحده فقد خلا فن التلاوة (صوتًا وأداء) إلا منه، وتعثر فن التلاوة إلا منه، إنه بلا جدال الجالس الدائم على عرش التلاوة البغدادية. الشبكة الإسلامية /بتصرف