يشكل الغرب بالنسبة للتحديثي العربي نموذجا و برهانا في الوقت نفسه. نموذجاً للحداثة الناجزة المطلوبة و برهاناً على إمكانية تحقيق هذا النموذج واقعياً. وهذا بعد أساسي في النظرة الحداثية. هذا النموذج لم تتم صياغته بالدقة المطلوبة نظرياً. هو أولا يختلف بين تحديثية وأخرى باختلاف تفضيلاتها الأيديولوجية و باختلاف الدول التي يفضل التحديثي العربي أولا يفضل اتباع نموذجها والحيك على منوالها أو بالأحرى الارتباط (ثقافياً و أحياناً سياسياً و اقتصادياً) بها أو عدم الارتباط. وهكذا فثمة نماذج كثيرة للتحديثية العربية تعبر عن برنامجها أو أمنيتها الاجتماعية: بين اللبرالية و الاشتراكية و النموذج السلطوي التابع الذي لا يحاول حتى بناء نظرة متماسكة تصمد و لو للقليل من المحاكمة المنهجية. وكون الغرب قائماً فعلاً يشجع عدم الدقة في بناء النموذج التحديثي إذ أن الإعادة إلى هذا الواقع تسد الثغرات النظرية في النموذج كما يعفيك من وصف شخص ما مثوله أمامك! وإن جئنا للنظر في الغرب- البرهان فسوف نجد التحديثي العربي يعد وجود الغرب في الواقع برهاناً على صوابية النظرية التحديثية و إمكانية تحقيق مطالبها و في أحوال حدية على حتمية السير باتجاه التحديث. لعل المفكرين في أوروبا و أمريكا لم يتفقوا لحد الآن على تفسير السير الغربي الذي أوصل الغرب إلى ما هو فيه الآن اعتبارا من عصر غزو أمريكا والدوران حول رأس الرجاء الصالح وسقوط الأندلس، فثمة النظرية الماركسية بتأويلاتها المتعددة و هي نظرية كانت الحتمية التاريخية هي المعلم البارز في النظام النظري في تيارها السائد وثمة نظريات اجتماعية تميل إلى المزج بين العامل الاقتصادي و العامل الفكري و ثمة نظريات مترددة بين المادية والمثالية كما هو الحال في فرضية ماكس فيبر بشأن العلاقة بين البروتستانتية و روح الرأسمالية. لا يبدو وضع التحديثية العربية متردداً بالقدر نفسه: من التحديثيين من يرى -شأن كل مثالي- أن مسألة اختيار النهج الأوروبي هي مسألة إرادة أساساً- إذا أردنا أن نكون مثلهم علينا أن نقلدهم والطريق فذة واحدة ليس فيها تعدد: نسير سيرة الأوروبيين في كل شيء كما قال طه حسين. ومن التحديثين من يرى أن المسألة ليست مسألة إرادة و إنما هي مسألة حتمية تاريخية من نوع ما (ليس على طريقة المادية التاريخية بالضرورة) مثلا: إن الحداثة تغزو العالم، العالم تحول إلى قرية صغيرة، العولمة حتمية (هذه هي الموضة الآن). إذا كان المفكرون الأوروبيون لم يتفقوا على تفسير كيفية قيام المجتمع الأوروبي الحديث فعندنا بالمقابل من يفسر الماء بالماء والغرب بالغرب ويبدو- بدون إدراك للمفارقة- راضياً كل الرضا عن هذا الدور كما يقول المناطقة. ودوما لك أن تلاحظ أن وجود الغرب الواقعي يشكل برهاناً ويساعد في قمع كل اعتراض منهجي فالقضية رابحة سلفا والمسألة مبرهنة حتى قبل البدء بالبرهنة. هم يعددون مجريات أحداث متسلسلة للتاريخ الغربي و يعدونها أسباباً: الإصلاح الديني، الثورة الصناعية، نشوء البرجوازية وسيطرتها، عصر التنوير والقضاء على الهيمنة السياسية والفكرية للكنيسة، نشوء الديمقراطية التمثيلية المعاصرة والحريات الفردية، تحرر المرأة...لا يهم إذا كانت ثمة أحداث أخرى لا تعجبنا فبإمكاننا حذف هذه الأحداث و تبقى السلسلة التاريخية منطقية بلا تأثر كما يبقى معنى النص بعد حذف جملة اعتراضية أو حرف جر زائد. مهمة المثاليين الذين ذكرناهم أولا هي بلا شك أسهل، فاقتراح الإصلاحات ممكن دوماً و تنفيذها- بوجود سلطة مناسبة- ممكن أيضاً. أما المشكلة فهي عند الذين يرون أن الحداثة الغربية لها شروط (اجتماعية- اقتصادية- فكرية...إلخ) إذ أن مسألة تحقيق هذه الشروط هي مسألة أصعب من مجرد مسألة الوصول إلى سلطة القرار. والبحث في مشكلة هؤلاء ليس مشكلتنا نحن الآن فنحن نريد هنا فقط إلقاء الضوء على مكونات النظرة التحديثية العربية. سبب الغرب هو الغرب، هذا يعني أن الغرب هو كذلك لأنه يتكون من مكوناته القائمة! الحداثة تتكون من ديمقراطية تمثيلية و تقدم صناعي وحريات فردية وهذه المكونات هي أسباب قيام الحداثة أيضا. غير أن هذه النظرة الموضوعية، الوضعية، هي نظرة تقييمية أيضاً: إن هذه المكونات هي التقدم. هي وصول الروح إلى ذروة تطورها الجدلي. وحين تسأل التحديثيين عن أحداث كبرى في التاريخ الأوروبي والأمريكي: إبادة الهنود الحمر وسرقة العبيد من أفريقيا، الاستعمار المطبق على المعمورة، العنصرية الفكرية... لا يبدو عليهم أنهم يعدون أسئلتك جزءا من جوهر الموضوع إذ أن هذه الأحداث هوامش في هذا التطور الإنساني الإيجابي، هوامش بمعنيين: 1 إنها لم تكن جزءا مكونا في هذا التطور . 2 إنها اختفت دون أن تترك أثرا على الواقع الموجود، الماثل أمامنا. محمد شاويش كاتب من فلسطين يقيم في ألمانيا