خلف النتائج الرقمية لعدد الجماعات التي ترأسها هذا الحزب أو ذاك، تنبعث عناصر أزمة سياسية، ستجعل من الأغلبية الحكومية الضحية الأولى لنتائج اقتراع 12شتنبر بعد أن جرى التهليل مباشرة بعده بأنها الفائزة الأولى فيه، حيث تؤكد المعطيات المتتالية حول نتائج انتخابات رؤساء المجالس الجماعية للمدن الأساسية وكذا مجالس المدن الست الكبرى، تشكل خريطة سياسية جديدة مغايرة للخريطة التي أفرزتها نتائج الانتخابات الجماعية، ذلك أن نتائج المدن الكبرى، سواء منها التي تخضع لنظام وحدة المدينة أو باقي المدن التي سيتكفل بتدبيرها مجلس جماعي موحد، شكلت زلزالا حقيقيا لما يدعى بالأغلبية الحكومية أو بأحزاب الكتلة وهزيمة سياسية قاسية لها، وجعلت من الصعوبة توقعها بإعمال المقاييس الإيديولوجية، أو التقسيمات السياسية المسبقة، أو التصنيفات التقليدية، بل إن منطق المال والعلاقات الزبونية والولاءات الشخصية شكل العنصر الحاسم في تدبير مرحلة ما بعد 12شتنبر، إلا من استثناءات محدودة، وهو ما يفرض مراجعة القراءات السياسية التي تم الترويج لها مباشرة بعد النتائج، كما يحتم العمل على استخلاص الدلالات السياسية الكبرى لها. يمكن القول أن هناك خلاصتين أساسيتين لمجل تطورات المسار الانتخابي: - انهيار عملي للأغلبية الحكومية وعجزها عن تدبير تحالفات منسجمة وقادرة على ربط تدبير الشأن المحلي ببرامج العمل الحكومي، فشل اليسار في ضمان موقعه الريادي في جل المدن الكبرى، - فشل مخططات عزل العدالة والتنمية وعرقلة جهوده للمساهمة في تدبير الشأن المحلي، وبروز تحديات جديدة. انهيار عملي للأغلبية الحكومية تقدم الحالات الست المرتبطة بالمدن الكبرى وخاصة بكل من الدارالبيضاءوالرباط وسلا وفاس وطنجة ومراكش العطب البين الذي أصاب جسم الأغلبية الحكومية واشتداد الصراع الداخلي بين مكوناتها من جهة أولى، والأزمة العميقة التي يعرفها جسم الكتلة الديموقراطية وهشاشة التحالف المؤسس لها من جهة ثانية، فباستثناء مدينة فاس، والتي رغم فوز حزب الاستقلال فقد قوبل باحتجاج شديد من قبل حزب الاتحاد الاشتراكي بمعية حزب العدالة والتنمية، فإن الحزبين الرئيسيين في الحكومة- الاتحاد الاشتراكي وحزب العدالة والتنمية- لم يفوزا بأي من المدن الخمس المتبقية، كما احتلا موقع المعارضة في كل من الرباطوالدارالبيضاء وسلا ومراكش. وقد شكلت حالة الدارالبيضاء النموذج الصارخ، حيث تجاوز الأمر مسألة اتفاق بين هذا الحزب أوذاك في الأغلبية الحكومية، وذلك بدخول الوزير الأول إدريس جطو بنفسه في المعادلة، ورعايته لاتفاق سياسي بين الأطراف المكونة للأغلبية الحكومية يقضي بأن يؤول منصب عمدة مدينة الدارالبيضاء إلى مرشح حزب الاستقلال، ليفاجأ الجميع بفوز مرشح حزب الاتحاد الدستوري وبأغلبية ساحقة دلت على وجود اختراق حتى في صفوف الأحزاب التي تعتبر نفسها محصنة، والمعطيات التي قدمها خالد عليوة في ندوته الصحفية دالة على عمق الأزمة التي أصابت جسم الأغلبية الحكومية، وتطرح أكثر من تساؤل عن وجود جهة ما عملت على إلحاق تلك الهزيمة المفاجئة لقطبي الحكومة، والتي يظهر أن تداعياتها السياسية لن تنهي عند حدود الدارالبيضاء. ففي الوقت الذي أفضت فيه النتائج العامة باحتلال الواقع كل من حزبي الاستقلال ب 205 والاتحاد الاشتراكي ب 200 بما يجعلهما لصدارة الأحزاب القائدة للجماعات المحلية بالمغرب، والمقدر عددها ب 1479 جماعة ، نجد أن الحزبين فقدا غالبية المدن الرئيسية التي كانت تخضع لسيطرتها وتدبيرهما في المرحلة السابقة، كما خرجا من دائرة التنافس على أغلب المدن الرئيسية بالبلاد، وجعل من النتائج المحققة في المدن الهامشية نتائج ثانوية لا تسعف في الحفاظ على المصداقية السياسية للأحزاب العتيدة، كما أنها عمقت من حدة الصراع بين مكونات الأغلبية الحكومية وأذهبت البقية المتبقية من الثقة الهشة بين أطرافها، وتكشف عن عمق الأزمة الكامنة فيها، وهو ما يمثل زلزالا سياسيا للجهاز الحكومي يفضح عجزه عن تدبير الملفات الكبرى للبلاد، ويعزز من صدقية النقذ الحاد الموجه للعمل الحكومي. الواقع أن المغرب يقف على أعتاب أزمة حكومية بالغة تفرض التفكير الجدي في تغيير التحالف القائد للسلطة التنفيذية ومراجعة الأرضية التي تحكم العلاقات بين مكوناته. وترتبط بالخلاصة السابقة ما لوحظ من فشل لليسار بمختلف مكوناته في ضمان موقعه الريادي في جل المدن الكبرى، وهو فشل لا يتوقف عند حدوده المحلية، بل هو فشل سياسي يطرح شرعية استمرار بقاء رموزه وقيادييه في البنية الحكومية وفي مواقع حساسة منها ذات تأثير وازن في صياغة السياسات العمومية للدولة، ويحتم بالتالي تصحيح هذا الاختلال غير السوي، بل يمكن القول أنه في حالة عدد من قوى اليسار فإن الحملات الانتخابية اكتست طابعا سياسيا يربطها بتداعيات الاستغلال الآثم لتفجيرات 16ماي ضد حزب العدالة والتنمية، مما جعل هزائمها ذات دلالة سياسية هي الأخرى. تحديات أمام العدالة والتنمية أما الخلاصة الثانية لمحصلة انتخابات مكاتب المجالس فترتبط بالفشل الذريع لسياسة عزل العدالة والتنمية عن المنتظم السياسي والحيلولة دون انخراطها في تدبير الشأن المحلي، واعتماد ذلك آلية لمحاصرتها ونبذها، ذلك أن قيادة عملت إلى التدبير المرن لهذا الملف وعملت على اختراق عدد من التحالفات المضادة له، ونسج تحالفات متعددة، وعدم الارتهان لقيود سياسية واشتراط قاعدة الأصلح، بمعايير نسبية لكنها ضمنت الحفاظ على انضباط أعضاء الحزب، مما جعل عموم نتائجه مشرفة تنسجم مع النتائج النوعية التي حققها في مناطق الاقتراع اللائحي، مما جعل الحزب رقما صعبا في جل التحالفات الكبرى، كما كانت خسائره لا تتعدى بضعة مدن (القنيطرة وبني ملال وتزنيت وفاس على وجه الخصوص)، وتمكن من احتلال قيادة ما يناهز عشرة مدن، وضمن المساهمة في تدبير ثلاث مدن من المدن الست (الدارالبيضاء وسلا والرباط)، وهو ما تبينه قائمة الجدول الذي ننشره في هذا العدد( انظر الجدول في الصفحتين 4). تبرز المعطيات السياسية السابقة أن الحزب على أعتاب مرحلة سياسية جديدة من حيث تحسن وتقوي وضعيته في الساحة السياسية الوطنية، ومن حيث تصاعد احتمالات رفع درجة مساهمته في تدبير الشأن العام الوطني، وهو ما يعني أن الحزب مطالب ب الانكباب الجدي لتقويم حصيلة المرحلة واستشراف مستقبلها وتحديد نوعية مساهمة الحزب فيها، وهي مسؤولية جسيمة مطروحة على قيادة الحزب، وذلك من أجل تدبير عدد من الملفات وخصوصا المرتبطة بالدخول البرلماني الجديد، والاستعداد لانتخابات مجلس المستشارين، وحسم إشكالية التحالفات السياسية التي أعاق عدم حسمها في السابق عملية التحالفات بعد الاقتراع، وملف العلاقة مع الجهاز الحكومي، فضلا عن الاستحقاقات الداخلية المرتبطة بتأهيل البنية التنظيمية ورفع كفاءتها المؤسساتية في توجيه عمل الحزب وتدبير مبادراته. مصطفى الخلفي