تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلية حملاتها القمعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني، كما تواصل تنفيذ عمليات العقاب الجماعي بحق أسر بل أحياء فلسطينية بأكملها كما حدث في مدينة الخليل وقبلها في مدينة نابلس وغيرها حيث تم تشريد عشرات بل آلاف العائلات الفلسطينية دون ذنب. وقصة خمسة عشر عائلة من مدينة الخليل هي قصص واقعية تدمي القلوب .. والعائلات على قارعة الطريق تصور حياة آلاف من الأسر الفلسطينية التي استهدفها الاحتلال وشردتها من بيوتها دون ذدنب سوى أن عائلة شهيد أو تسكن بجوار عائلة شهيد. تدمير 28 شقة سكنية فقد شهدت مدينة الخليل الثلاثاء الماضي مواجهة بين جنود الاحتلال واثنين من الفدائيين الفلسطينيين الذين كانت تطاردهم قوات الاحتلال منذ اجتياحها للأراضي الفلسطينية قبل نحو ستة عشر شهرا انتهت باستشهاد الشابين أحمد بدر (21) وعز الدين مسك (25) عاما بعد قصف متواصل للعمارة التي كانا يقيمان فيها استمر لأكثر من اثنتي عشرة ساعة، وضمن سياستها في العقاب الجماعي دمرت قوات الاحتلال العمارة السكنية التي تعود ل"حسن درويش القواسمي" المكونة من 28 شقة، منها 15 مأهولة، بالكامل وحولتها بعد تفجيرها مرتين إلى كومة واحدة من الركام. ولا يمكن لسكان تلك العمارة أن ينسوا ذلك اليوم الذي دمرت فيه شققهم السكنية وتحولوا للسكن في خيم صغيرة قدمتها لهم منظم الصليب الأحمر في غياب الهيئات والمنظمات الإسلامية والعربية خشية اتهامها بدعم "الإرهاب". آلام وقصص مأساوية وفي زيارة قصيرة لموقع العمارة قام بها مراسل "التجديد" سرد الأهالي قصصا من معاناتهم، فكان لكل منهم قصة مأساوية تختلف عن الآخر، ولكل منهم مواجعه الخاصة وجميعا لا يملكون إلى الدعاء واحتساب مصابهم عند الله عز وجل. "جواد القواسمي" كان أحد الضحايا وشهود العيان على جرائم الاحتلال ويروي تفاصيل ما شاهده وعاشه في ذلك اليوم الرهيب، فقول: المعركة بدأها الاحتلال عند حوالي الساعة الرابعة فجرا عندما فوجئ السكان بإطلاق النار بكثافة تجاه الشقق أثناء نومهم، مما أدى إلى استيقاظهم وإثارة جو من الرعب لم يسبق له مثيل بين الأطفال حيث النيران من كل اتجاه فاضطر الجميع للاستلقاء أرضا. مصاب دون إسعاف ويضيف: استمر إطلاق النار نحو نصف ساعة فأصيب أحد السكان وهو "باسم الدجاني" برصاصة في عنقه ولم يستطع أحد إسعافه إلى بعد توقف إطلاق النار بعد نحو نصف ساعة، ومع ذلك رفضت قوات الاحتلال نقله للعلاج إلا عن طريق بعض النسوة حيث لم يسمح للرجال بحمله فاختطفه الجنود من بين أيديهن واعتقلوه فورا وألقوه أرضا ولم يحضروا له الإسعاف وبقي ينزف لأكثر من ساعة دون علاج. ويتابع القواسمي: بعد ذلك طلب من المتواجدين في الداخل عبر مكبرات الصوت الخروج خارج العمارة، وبدأنا جميعا بالخروج رافعين أيدينا وملابسنا، وقد رأينا أثناء خروجنا حول العمارة عشرات الجنود المصطفين بشكل دائري ويصوبون أسلحتهم نحونا ونحو العمارة فيما تتقدمهم ثلاث دبابات ميركافا وطائرات مروحية تحلق في السماء. ويضيف واصفا المشهد: بالتزامن مع محاصرة المنزل كانت تتوافد تعزيزات عسكرية وكانت جيبات حرس الحدود تفرض حظر التجول في كافة أنحاء حي وادي أبو كتيله وتغلق مداخله. وقدر القواسمي عدد الجنود في حينه بأنهم أكثر من مائتين وخمسين جنديا، وأن عدد الجيبات العسكرية والدبابات لا يقل عن خمسين. إخلاء وتفتيش وأضاف: بعد إخراجنا إلى ساحة العمارة تم تفتيشنا بكل دقيق واحدا تلو الآخر، وتم تقييد الرجال وتعصيب أعينهم ووضعنا جميعا في منزل مجاور وأحاط بنا الجنود، وذلك عند الساعة الخامسة صباح الثلاثاء تقريبا. وتابع القواسمي: بعد إخلاء البناية من السكان أمر جنود الاحتلال من بقي بداخلها وهم الشهيدين بالاستسلام إلا أنه لم يجبهم أحد، وأجبروا اثنين من السكان بالتوجه إلى العمارة والبحث عما إذا وجد فيها أي إنسان فعادا وأكدا أنهما لم يريا أحدا بالداخل، وبعد فشل النداء بمكبرات الصوت للاستسلام بدأت قوات الاحتلال عند الساعة التاسعة قصف البناية بالدبابات من عدة جهات ولا زالت بقايا القذائف موجودة حتى الآن، واستمر القصف حتى الساعة الثالثة عصرا بمعدل قذيفة كل ثلاث دقائق، كما شاركت في القصف طائرة أباتشي وذلك بإطلاق صاروخين على العمارة، وكانت نتيجة القصف تدمير واجهات العمارة واستشهاد الطفل ثائر السيوري الذي كان يتابع الأحداث من منزله عندما أصابته شظية قذيفة وذلك عند الساعة العاشرة والنصف تقريبا. وعما إذا كان المحاصرون قد أطلقوا النار تجاه قوات الاحتلال قال القواسمي: حقيقة اختلقت أصوات إطلاق النار من قبل الجنود والدبابات ولم نستطع التمييز لكن سمعنا الجنود ينادون بعضهم ويطلبون لأنفسهم سيارات إسعاف مما يدل على حدوث إصابات بينهم. إخراج الجثث والانتقام من العمارة وتابع: عند الساعة الثالثة وبعد إحراق العمارة وتدمير أجزاء كبيرة منها أجبرت قوات الاحتلال نفس الشخصين الذين ذهبا للتفاوض في المرة الأولى على دخول العمارة ثانية، وأجبرتهما أيضا على حمل هاتف خلوي وإبقائه مفتوحا لسماع أي حديث يدور، وبعد تفتيش طويل خرجا بجثتين تبين أنهما للشهيدين أحمد بدر وعز الدين مسك من كتائب القسام. ورغم استشهاد الشابين لم تنتهي مهمة قوات الاحتلال التي قصفت العمارة السكنية بمزيد من القذائف بهدف إتلافها ثم أحاطتها بالمتفجرات ومع مغيب الشمس قامت بتفجيرها وأثارت غيمة من الغبار وزلزال في مدينة الخليل بأكملها. ورغم ذلك يقول القواسمي: إرادة الله أبقت العمارة قائمة ولم تنسف كما تريد قوات الاحتلال، مما أثار مجددا غيظ الجنود الذين شددوا حظر التجول في المنطقة وقامت طوال فقصفها بالدبابات والطائرات إلا أنها كذلك لم تسقط، فقامت مجددا بلغمها بمتفجرات ثقيلة وتفجيرها في ساعات ظهر الأربعاء مما حولها إلى ركام وأطلال بما فيها من ممتلكات وأثار وتعب العمر. تهجير للمرة الثانية وعن تجربته الخاصة يقول القواسمي: هدمت قوات الاحتلال منزلي المكون من ثلاث طوابق عند استشهاد ابني فؤاد قبل عدة شهور في عملية استشهادية، فاستأجرت شقة في هذه العمارة والآن تم هدمها بما فيها وهاأنذا مع أفراد عائلتي الثمانية على قارعة الطريق في خيمة صغيرة قدمها الصليب الأحمر. وعما تركه في شقته السكنية يقول: تركت كل شيء، لم يسمحوا لنا بإخراج أمتعتنا وأموالنا ووثائقنا، لقد طلبنا منهم عدة مرات أن تحضر جوازات السفر والهويات فرفضوا وقالوا: انسوا شققكم..بعد قليل سترون كيف تكون، ويردف: حدث كب هذا على مرأى ومسمع العالم والأمة الإسلامية..لقد غابت نخوة الأمة..15 عشر عائلة في خيم الصليب لا يجدون شيئا من الكم العربي الذي كنا نقرأ عنه في كتب التاريخ. ويظل القواسمي جالس يحتسب عند الله مصابه عسى أن يفرج الكرب ويبدله سكنا آخر. ابني شهيد وأنا مصاب وبيتي هدم! وهذا "حسن محمد العجلوني" له أيضا تجربة أخرى ومعاناة أخرى، وعن هذه التجربة يقول: استشهد ابني فادي(7) سنوات منذ بداية الانتفاضة وأصبت أنا ولا أزال أتلقى العلاج، ويوم تفجير البيت كنت في مستشفى المقاصد أتلقى العلاج من آثار الإصابة في قدمي التي لا أستطيع المشي عليها، وعندما عدت من المستشفى يوم الخميس لم أجد إلا ركاما، ووجدت خيمة فارغة تنتظرني.. حيث لا ملابس ولا أغطية ولا أي شيء.. وجدت تعب السنين قد تحول إلى كومة من التراب. ويتابع: لقد حاولت أن أدخر قدر المستطاع من أموالي لشراء الشقة وبذلت في سبيل ذلك كل أموالي وما أملك، والآن أصبحت دون أي شيء حتى الملابس ولا أملك شيئا من المال لأشتري احتياجاتنا.. كل شيء ذهب مع البيت ضحية قرار عنصري ضد أناس أبرياء. وأشار إلى أن شقته كانت تأوي 4 أطفال إضافة إلى الأبوين، موضحا أنه لم يقدم له ولباقي المشردين أي شيء من قبل أي من المسؤولين في مدينة الخليل أو في السلطة وأن ما كان يقال عن مساعدات تقدم للمتضررين لا شيء منها على أرض الواقع وقد تصل فقط لجيوب المسؤولين والضحايا منها براء. بعت ذهب زوجتي لأشتري الشقة أما "اسحق الناظر" في العقد الرابع من عمره فيروي قصته قائلا: بذلك كل جهدي من أجل شراء الشقة التي كلفتني نحو 25 ألف دينار حيث ادخرت قدر المستطاع من راتبي المحدود وبعت ذهب زوجتي واستطعت شراءها، ولم يمر على سكننا فيها سوى عام، وهاهي الآن تحولت إلى ركام وضاع تعب العمر في لحظات.. كانوا يقصفون العمارة وكأنهم يقصفون صدري.. لم يبقوا لنا شيئا.. إنها النصيرة وغريزة الانتقام. ويضيف: أصبحنا نعيش في خيمة قدمها لنا الصليب وبعض الأدوات الأساسية، لكن لم يقدم لنا أي من الذين يدعون المسؤولية في الخليل أي شيء سوى الحضور للاطلاع على منظر العمارة بعد الهدم. لكنه يشدد على أن العقاب الجماعي سياسة الاحتلال منذ وطأ الأرض الفلسطينية، لكنها لن تزيد الشعب المؤمن بحقه إلا قوة وإصرارا على الصمود. طخوا أبي وضاعت ألعابي الأطفال كانوا هم الأكثر تضررا وحضورا في هذه المأساة، وبدا الألم والحزن في عيون عدد من الذين التقتهم "التجديد"، فهذا الطفل "سامر الدجاني" 4 سنوات، ابن الأسير المصاب "باسم الدجاني" الذي يقول إن ما يحزنه هو اعتقال والده وإصابته. وما أصعب أن يكون الطفل شاهدا على نزيف دم والده، وبطريقته يروي ذلك المشهد قائلا: طخوا أبي في رقبته.. رأيت الدم ينزف وأبي لا يتكلم ولا يتحرك.. حملته جارتنا فسرقه الجنود.. لقد سمعت تفجيرات كثيرة.. وبيتنا هدموه الجيش". وعن أغلى شيء فقده في هدم البيت يقول سامر: أحرقوه كله وهدموه.. أحرقوا ملابسي وألعابي بالقنابل أنا أخاف أن يعودوا لقتلنا أنا وأمي..لقد أخذوا أبي ولم نراه. وتشير والدته إلى أن زوجها "باسم" يخضع للعلاج المركز في مستشفى هداسا في القدس وأجريت له أربع عمليات جراحية، ولا يسمح لأحد بزيارته. وتخلص أمنياتها بالقول: الحمد لله.. الله يصبرنا. أما شقيقة سامر التي تبدو أنها تكبره بقليل فقالت إنها لن تنسى مشهد والدها بينما كان ينزف، مضيفة أنها أصبحت تخاف إذا بدأ الليل لأنها تخشى من حضور جنود الاحتلال لطردهم مجددا. أثرا بعد عين وقد أصبحت عمارة القواسمي أثرا بعد عين، ومزارا للمؤسسات الإعلامية والإنسانية، واختلط الحابل بالنابل وتناثرت أملاك الناس وأغراضهم، وضاعت دفاتر وكتب الأطفال وأموال ذويهم وكل ما يملكون، فهنا طفلة تبحث عن لعبتها وهناك آخر يبحث عن دفتر واجباته، وأم تبحث عن أدوات المطبخ، ورجل يحاول من خلال "الباقر" أن يستخرج ملابسه وأمتعته..وثالث ورابع..يبحثون علهم يجدون ما يستترون به. وانتهت بهم الأمور إلى تلك الخيم يحسبون عند الله مصيبتهم داعين إياه أن يأخذ الظالم وينتقم لهم. الخليل-عوض الرجوب