عبق ساحر يفوح من أرجاء مدينة الخليل الفلسطينية، جنوب الضفة الغربية، رابع أقدسش مدينة في العالم التي يضم ترابها المقدس مرقد "إبراهيم الخليل " أبو الأنبياء. الخليل تثبت مرة تلو الأخرى وهم مفهوم التعايش السلمي بين "الشعبين" الذي يحاول الاحتلال نشره، ويؤكد تلك الحقيقة النهر الجاري من دم الشهداء ومعاناة أهالي المدنية بوجود المستوطنات والمستوطنون في قلبها الساحر. هذه القنابل "المستوطنون" يجدد جيش الاحتلال استخدامها لإخضاع هل الخليل ولكن سرعان ما تفش كل خططهم في السيطرة على السكان الفلسطينيين. تهويد الحرم الإبراهيمي وبما أن فهم الحاضر لا يتأتى دون استيعاب الماضي، لا بد من الرجوع للمطامع الإسرائيلية في المدينة؛ فمنذ وقعت الخليل تحت الاحتلال عام 1967م ، أبدى اليهود رغبة واضحة في تهويد المدينة وجوهرها الحرم الإبراهيمي الشريف، بحجة أنها "مدينة الآباء والأجداد" وأنها "أول عاصمة لمملكة داود"، واجتهدوا في تهويدها ومحاولة تقسيمها إلى قسمين: الخليل العليا والخليل السفلى على غرار مدينة الناصر في أراضي فلسطينالمحتلة عام 1948م. الرغبة والأطماع الصهيونية في مدينة الخليل يعبر عنها الساسة الإسرائيليون ورجال الدين اليهود في كل توجهاتهم وجراءاتهم، وتتجسد في استغلال أي حدث يحصل في المدينة لتنفيذ هذه الرغبة على الأرض، وخير مثال على ذلك استغلال وقوع مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف عام 1994م لتقسيم الحرم، وإخضاع المصلين للتفتيش قبل الدخول إليه. ولم يكن مفاجئا أن تبدي حكومة الاحتلال بعد عملية الخليل يوم الجمعة 14/11/2002م ، رغبتها في توسيع ما تسمى البؤر الاستيطانية في المدينة، رغم أن ذلك يتم على حساب المواطنين الفلسطينيين وبيتهم وأراضيهم وممتلكاتهم. الاستيطان في المدينة بدأ الاستيطان في مدينة الخليل بإقامة أحزمة استيطانية استكمالا لفكرة "الخليل العليا" التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية في 10/10/1968م، وتم بموجبها إنشاء أول مستوطنة على مشارف المدينة وهي مستوطنة "كريات أربع"، تمهيدا لتطويق الخليل ومحاصرتها جغرافيا وسكانيا بالقلاع البشرية والعمرانية على غرار ما تم تنفيذه حول مدينة القدس. ومن أجل تحقيق هذا الهدف صودرت مساحات واسعة من أراضي الفلسطينيين حول المدينة لإقامة مستوطنة أخرى تدعى "كرمئيل" ومستوطنة ثالثة تدعى "ماعون" على أراضي بلدة يطا،ة جنوبالمدينة، ومستوطنة "متسفي جبرين" على أراضي بلدة ترقوميا، غرب المدينة، ومستوطنة "تشيغوت" على أراضي بلدتي صوريف وبيت أمر شمال المدينة. وبدعوى إعادة بناء الحي اليهودي الذي كان قائما في المدينة وجرى تدميره عام 1929م، جاءت فكرة إعادة إحياء الاستيطان اليهودي فيها بعد الاحتلال عام 1967م، وذلك عن طريق ذريات العائلات اليهودية التي عاشت في تلك المنطقة قبل أحداث 1929 التي قتل فيها ستون عائلة يهودية. ولكن الواقع يناقض هذا الدعاء حيث لا يوجد علاقة بين المستوطنين الحاليين واليهود الذين كانوا يسكنون الخليل عام 1929م، وفي أول خطوة لهم تنكر الحاخام "موشيه ليفنغر" وعدد من أتباعه على شكل سياح في نيسان 1968 واقتحموا فندق النهر الخالد في قلب المدينة، وأعلنوا عن نيتهم البقاء في الخليل. مستوطنة كريات أربع وفي آب من عام 1970 أصدر الحاكم العسكري للضفة الغربية أمرا بمصادرة 1200 دونم من الأراضي شمال شرق مدينة الخليل، وفيها تمت إقامة النواة الأولى لمستوطنة كريات أربع، واستمرت هذه المستوطنة في التوسع على حساب أراضي الفلسطينيين حتى بلغت أكثر من ثلاثة آلاف دونم، ثم تم إغلاق ومصادرة مساحات كبيرة من الأراضي شمال المستوطنة تمهيدا لعمليات توسعية جديدة. وفي نيسان من 1979 قادت "مريم ليفنغر" زوجة الحاخام ليفنغر مسيرة نسائية قررت التحرك للاستيطان في قلب الخليل، واستقرت النسوة في منطقة الدبوية أو "بيت هداسا" كما يسمونها، وهي عمارة كانت مركزا للشرطة ومعتقلا في الفترة العثمانية، ثم سلمت لحارس أملاك الغائبين الأردني، الذي سلمها بدره إلى وكالة الأممالمتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين عام 1953م، حيث أصبحت مدرسة لأبناء اللاجئين. وفي عام 1967 تسلم البناية المسؤول عن الأموال المتروكة في سلطات الحكم العسكري الإسرائيلي وظلت وكالة الغوث تستعملها كمخازن، حتى عام 1979 عندما تم الاستيلاء عليها من قبل المستوطنين. عربدة منذ البداية وردا على حملة الاحتجاج التي قادتها بلدية الخليل ضد هذا الحادث، ازداد المستوطنين الذين احتلوا البناية وبعض المباني المجاورة، وتزايدت الاستفزازات والمضايقات للمواطنين العرب المجاورين للبناية أو الذين يستأجرون الطبقة السفلى منها بقصد إجبارهم على ترك المنطقة وإفساح المجال أمام المستوطنين لإقامة حي يهودي داخل المدينة تكون بناية الدبويا مركزا له ويضم بيت رومانو ( مدرسة أسامة بن منقذ )، والساحة التي يزعم المستوطنون أنها تقوم على أنقاض حارة اليهود ( محطة الباصات المركزية ). وفي عام 1980م، جاءت "عملية الدبويا" التي قتل خلالها عدد من المحتلين ردا على هذه الاستفزازات وتأكيدا صارما على رفض أهالي الخليل للوجود الاستيطاني في قلب مدينتهم. لكن قوات الاحتلال أعقبت هذه العملية بإبعاد رئيس بلدية الخليل والقاضي الشرعي للمدينة ورئيس بلدية حلحول آنذاك، كما تم هدم جميع المحال التجارية المقابلة للمبنى من ناحية شارع الشهداء. في عام 1982 أنشئت مستوطنة خارسينا ( خارصينا ) شمال كريات أربع وهي مستوطنة جماعية، وفي عام 1984 أقيمت مستوطنة "بيت حاجاي" جنوبالمدينة، ومستوطنة "رامات يشاي" على مقابر المسلمين. وفي عام 1984 قامت مجموعة من المستوطنين بالاستيطان في حي "تل الرميدة" الأثري. وفي أواخر عام 1985 تم الانتهاء من تشييد بناية سكنية ضخمة بجوار سوق الخضار المركزي (الحسبة) في البلدة القديمة، أطلق عليها اسم "ساحة كنيس ابراهام ابينيو". وفي أعقاب مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف في عام 1994 تعالت الأصوات على كافة الأصعدة المحلية والدولية وحتى داخل حكومة الاحتلال التي نادت بضرورة إجلاء المستوطنين من قلب المدينة، إلا أن هذه الحكومة صمت آذانها عن هذه الأصوات إلى أن جاء بروتوكول إعادة الانتشار في مدينة الخليل مطلع 1997م الذي وقعته السلطة الفلسطينية ليضفي الشرعية على وجودهم فيها. تقسيم المدينة وقسم البروتوكول المدينة فعليا إلى مدينتين، الأولى تخضع للسيطرة الفلسطينية (H1 ) وتشكل 68 % من إجمالي مساحة المدينة، ويقطنها حوالي 40 ألف مواطن، والثانية تخضع للسيطرة الإسرائيلية ( H2 ) وتشكل نسبة 32 % من مساحة المدينة، وتمتد هذه المنطقة من حي باب الزاوية شمال غرب المدينة، والمنطقة الصناعية جنوبا والضواحي الجنوبيةالغربيةوالجنوبيةالشرقية من المدينة حتى مستوطنة كريات أربع. وتعتبر هذه المساحة الشاسعة الخليل الحقيقية وتشمل بلدتها القديمة وتتواجد فيها أهم المقدسات والمعالم التاريخية وتشكل قلب المدينة الحضاري والتجاري ونقطة الوصل بين كافة المناطق والأحياء. واستمر التوسع الاستيطاني في قلب المدينة على مدى السنوات الماضيةفي كل من البؤرة الاستيطانية " ابراهام ابينو " التي أصيحت أربعا وعشرين وحدة سكنية جديدة، وبؤرة "تل الرميدة: التي أصبحت تضم 16 وحدة سكنية، وبؤرة " بيت رومانو " حيث تم بناء ثلاثة طوابق جديدة بواقع عشر وحدات لكل طابق. ورافق هذا التوسع توسعات وبناء مرافق خدمات للمعهد الديني اليهودي، وبناء خمسين وحدة سكنية في مجمع بيت "هششاه" و"ناحوم هورس"، كما تم إسكان نحو 80 مستوطنا جديدا في تلك البؤر، ولا زالت أعمال البناء الاستيطاني متواصلة. مشروع الامتداد الإقليمي لم تكن خطة شارون بربط البؤر الاستيطانية داخل مدينة الخليل بمستوطنة كريات أربع وليدة اللحظة عقب عملية الجمعة 14/11، وإنما جاءت ضمن خطة تهويد المدينة او "مشروع الامتداد الإقليمي". ففي عام 1996 لاحظ المواطنون القاطنون في بعض أحياء البلدة القديمة، وقبالة البؤر الاستيطانية " بيت رومانو " وفي ساحة الكراجات القديمة زيادة غير طبيعة في عمليات حفر متواصلة، وإزالة كميات كبيرة من الأتربة ذات الألوان السوداء والرمادية، إضافة إلى إدخال آليات ومعدات غريبة إلى أسفل مواقع الحفريات، ووصفت هذه المعدات عبارة عن كميات كبيرة جدا من قضبان سكك حديدية وعربات نقل كتلك المستخدمة في مناجم استخراج الفحم وعجلات كوابل كهربائية وجرارين، وتمت أعمال الحفريات وإزالة الأتربة بصورة سرية وتحت حراسات عسكرية مشددة وفي ساعات ما بعد العصر وخلال فترة الليل. ونتيجة ذلك تعرضت عدة عقارات ومنازل عربية مأهولة لاهتزازات عنيفة خلال ساعات الليل، مما أدى إلى تصدعات وشقوق واضحة فيها، على طول خط مستقيم ما بين المركز الاستيطاني " بيت رومانو " مدرسة اسامة بن منقذ سابقا، مرورا بحارة القزازين والأبنية المحاذية لساحة الكراجات في اتجاه ما يسمى بالحي اليهودي " أبراهام أبينو " في سوق الخضار سابقا.. وخلال هذه الفترة كثف مسؤولون من حكومة الاحتلال زياراتهم لمواقع الحفريات، وكانت أولاها لوزير البنى التحتية آنذاك أرئيل شارون، تلاه وزير الدفاع إسحاق مردخاي ورئيس الوزراء ومسؤولو الإنشاءات الحيوية في وزارات الدفاع والأديان وغيرهم من المسؤولين، وقد شملت هذه الزيارات ثلاثة مواقع حفريات وسط إجراءات أمنية مشددة، وسبق ذلك قيام طواقم فنية إسرائيلية بعمليات مسح لمواقع الحفريات وحولها ووضع رموز واشارات عبرية على مسافةتنقدر بكيلو متر هوائي. تدخل أمريكي في عام 1996 وبصورة مفاجئة تقدم القنصل الامريكي في القدس بطلب زيارة عاجلة لمدينة الخليل، ووصل القنصل برفقة عدد من موظفي القنصلية إلى دار البلدية ليجتمع مع رئيس وأعضاء المجلس فيها بناء على رغبته. ووجه القنصل حديثه على رئيس وأعضاء المجلس قائلا : إننا في الخارجية الامريكية مهتمون بضرورة الاستقرار والأمن بالمنطقة مطالبا بتوضيحات ول الاعتداءات الإسرائيلية. ونتيجة التحركات الفلسطينية توقفت حكومة الاحتلال شكليا عن أعمال الحفر. ولكن بعد تنفيذ عملية إعادة الانتشار في المدينة وفق بروتوكول الخليل " المعدل " عام 1997م، فوجئ سكان المدينة والمراقبون لحركة الاستيطان بتطبيق الخطط الإستيطانية ومنع ترميم أحياء وعقارات يمتلكها فلسطينيون. ثم توسيع مساحة السيطرة الإسرائيلية لما يقارب 500 متر عرضي في بعض المواقع ، ومنع التوسع والبناء العربي العمودي على وجه الخصوص، وفرض تصاريح للتجول على المواطنين الفلسطينيين من سكان المنطقة وغيرها من الاجراءات. وفي ربيع عام 1997 استأنفت قوات الاحتلال عمليات الحفر في ثلاثة مواقع في البلدة القديمة. وفي ذروة الحفريات وجهت دائرة الأوقاف الإسلامية في الخليل عشرات الكتب والمذكرات لكافة الجهات ذات العلاقة مشيرة فيها إلى اعتداءات الجيش والمستوطنين. وبتاريخ 3/9/1997 وجه خبير الاراضي والاستيطان عبد الهادي حنتش مذكرة عاجلة إلى مسؤوليه في بلدية الخليل إلى عمليات حفر في باطن أرض البلدة القديمة. جمعية تطويرية في عام 1999 بدأت خطة تطوير جديدة لما تسمى "الأحياء اليهودية"، وتضمنت هذه الخطة بناء ستة وحدات سكنية في سوق الخضار أطلق عليها "حي نحوم ويهودا "، واشتملت أيضا على بناء خمس طوابق في بناية الدبويا – بيت هداسا وترميم البيوت المجاورة ، ومشروع بناء 16 وحده سكنية في تل الرميدة ونادي ليلي في مدرسة اسامة بن منقذ سابقا " بيت رومانو " وفي بداية عام 2002 وضعت جمعية تطوير الأحياء اليهودية خطة جديدة لتهويد الخليل وشرعت بعمل حفريات تحت الأرض، ثم رفعت الجمعية لشارون ووزير دفاعه بن اليعزر خطة جديدة تضمن إقامة حيين استيطانيين في حارتي أبو اسنينه والشيخ؛ لتفريغ البلدة القديمة والأجزاء التي تمت السيطرة عليها من سكانها الأصليين. قنابل موقوته ودفعت الظروف السابقة مسؤولين فلسطينيين ومراقبين إلى التحذير من استغلال حكومة شارون للتطورات الأخيرة في مدينة الخليل لتنفيذ كافة الخطط الإسرائيلية وتهويد المدينة، وبالتالي تهديد السكان الفلسطينيين وأمنهم وتراثهم وحضارتهم وتاريخهم. كما حذروا من وقوع مجازر كبيرة قد يرتكبها المستوطنون على غرار مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف عام 1994. الخليل-عوض الرجوب