لا يمتلك الكيان الصهيوني ثروة طبيعية تذكر، فباستثناء بعض الأملاح التي تستخرج من البحر الميت، وفوسفات ونحاس النقب، وخامات صناعة الأسمنت، فإن الكيان الصهيوني فقيرة في مواردها الطبيعية، ويبلغ سكان الكيان الصهيوني نحو 5.5 مليون نسمة في منتصف التسعينيات، منهم نحو 20% عرب، أي أن عدد الكيان الصهيوني يعادل 1/50 من عدد سكان الوطن العربي، ورغم فقر الإمكانيات من الموارد الطبيعة والبشرية فإن الدولة العبرية استطاعت خلال عمرها- الذي لا يزيد قليلاً عن الخمسين عامًا- تحقيق مستوى متقدم من التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي جعلها تصنَّف ضمن الدول ذات الدخل المرتفع، 20ألف دولار/للفرد سنويًا. كما أن الناتج المحلي الإجمالي للكيان الصهيوني يصل إلى نحو 98 بليون دولار في حين أن الناتج الإجمالي العربي لا يزيد عن 388 بليون دولار، وبلغت نسبة الصادرات الصهيونية 18% من صادرات الشرق الأوسط عام 1995م، بما فيها صادرات المواد الأولية، ومن بينها النفط، والتي تمثل 90% من الصادرات العربية، وقد زادت صادر الكيان الصهيوني من المنتجات الإلكترونية من حوالي مليار دولار عام 1986م إلى قرابة ال"6" مليار دولار عام 1999م. المساعدات الخارجية للكيان الصهيوني وإجمالاً فإن بقاء الكيان الصهيوني على قيد الحياة لمدة خمسين عامًا وسط محيط من الأعداء كان يكفي لاعتبار تجربتها تجربةً استثنائية في النجاح؟ فكيف والحال أنها أصبحت متفوقة على أعدائها المحيطيين بها جميعًا، ولازالت قواتها موجودة في ثلاث دول عربية، ناهيك عن تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي الذي يجعل الهوَّة ساحقة بينها وبين أعدائها. إن ما حققته الدولة العبرية من نجاح وتقدم، خلال العقود الخمسة الماضية، يمكن إرجاعه إلى روح المثابرة والعمل والاعتماد على النفس التي اتَّسم بها أداء الدولة العبرية منذ المهاجرين الصهاينة الأوائل وحتى الآن، ورغم التأكُّد على العامل السابق, إلا أن ذلك لا ينفي أهمية الدور الذي اضطلَّعت به المساعدات الخارجية المقدمة للكيان الصهيوني في إعانتها على تحقيق ما حققته، فبدون هذه المساعدات والمنح فإن تحقيق ما تحقق لم يكن ممكنًا بهذه السرعة. حلم تكوين الكيان الصهيوني لقد نصح "تيودور هرتزل" الصهاينة الأوائل بقوله: "لو عقدتم العزم عليها فهي ليست حلمًا"، أي إقامة دولة لليهود، وقد ظلت أصداء هذه النصيحة تتردد في صدور ونفوس الصهيونيين منذ ذلك الوقت الذي قيلت فيه، وحتى حقّق العزم ما لم يكن حلمًا لدى الصهاينة الأوائل في عام 1948م، وهكذا أصبح التفاؤل والعزم والتصميم هي الصفات التي اعتمدها الكيان الصهيوني؛ ليشكل ملامحها في السنوات السابقة على إقامة الدولة في السنوات التي أعقبت ذلك، وبعيدًا عن الوقوع في فخ الدعاية الصهيونية فإن الصهيونيين قاموا بعمل شاق؛ من أجل بناء دولة وكيان وطني يجمع شتات اليهود في العالم، وقد اعتمدوا في تنفيذهم لهذا الحلم على أسلوب البناء خطوة خطوة بقدر كبير من الدأب والصبر، فقد أبلغ "حاييم وايزمان"- رئيس المنظمة الصهيونية العالمية- المؤتمر اليهودي عام 1931م بأنه "إذا كانت هناك أية طريقة أخرى لبناء بيت غير طريقة "طوبة طوبة" فلا أعرف ذلك، وإذا كانت هناك طريقة أخرى لبناء بلد غير طريقة "دونما دونما" فلا أعرف ذلك، ورغم اعتماد الدولة الصهيونية لهذه الطريقة في العمل فإنها قد مزجت ذلك بلمسة بيزنطية في عمل الأشياء بتميز يجعل هناك دومًا رغبة متأججة في تحقيق ما يُعد نوعًا من المعجزات، فمن لا يؤمن بالمعجزات غير واقعي، كما يقول "ديفيد بن جوريون"، الذي يعتبر أحد رواد الحركة الصهيونية الذين وضعوا أيديهم. اليهود لم يكونوا شعبًا عاديًا على جوهر المرض الذي يعاني منه اليهود والذي يجب استئصاله حتى يمكن إقامة الدولة، فقد سلم "بن جوريون" بأن اليهود لم يكونوا شعبًا عاديًا، فسنوات التيه والحرمان عملت على تغييرهم، ولو أراد اليهود أن يكونوا شعبًا عاديًا مرة أخرى فإنه ينبغي عليهم إعادة تعلم مهارات الشعب العادي، وأوّلها مهارة العمل. فكما يقول "بن جوريون" فإن "الشعب الذي حُرم من الحالة الطبيعية.. والذي تعوَّد على كافة أشكال الحياة باستثناء حياة العمل التي تقتضي جهدًا وكدحًا، لا يمكنه أن يصبح مرة أخرى شعبًا عاملاً طبيعيًا مفعمًا بالحياة دون أن يبذل كل إرادته تجاه تلك الغاية، ونحن نفتقر إلى العنصر الأساسي، إننا نفتقر إلى العمل الجاد، ذلك العمل الذي يجعل الناس مرتبطين بأرضهم وثقافتهم. ينبغي أن لا نَخدَع أنفسنا والعمل الجاد عند "بن جوريون" شرط ضروري لإقامة الدولة اليهودية، وإعادة إحياء الشعب اليهودي، فعند "بن جوريون" فإن الشعب المفعم بالحيوية يملك دائمًا الأهلية التي تجعله يرى العمل جزءًا من حياته، وليس هناك من يرون ذلك بيننا، نحن نمقت العمل، وحتى بين عمالنا هناك الذين يعملون بسبب الحاجة، ويعقِدون الأمل على الهروب منه في يوم ما والبدء في "حياة أفضل"، وينبغي أن لا نَخدَع أنفسنا، وينبغي أن نعرف كم نحن غير عاديين في هذا المجال!!، وكيف أصبح العمل غريبًا ومنفرًا لنفوسنا!!، ليس فقط بالنسبة للفرد العادي، وإنما أيضًا بالنسبة للشعب كله، وهناك تعبير عبري ينطبق علينا تمامًا يقول: "إنه حينما يقوم الكيان الصهيوني بتنفيذ إرادة الله تعالى فإن عملها يقوم به الآخرون"، وهذه التي بيننا ليست مجرد كلمات. والوجدان- سواء كنا مدركين له من عدمه- أصبح قائمًا على الوعي الجزئي، إنها حالٌ طبيعية ثانية بالنسبة لنا، وهكذا قامت الحركة الصهيونية بتغيير أفكار وقيم ووجدان الشعب اليهودي ليتحقق ما سعى إليه ونادى به "بن جوريون" في أن يكون "العمل هدفًا إنسانيًّا نبيلاً، وهو هدف المستقبل.. وظروفنا في الماضي، وأوضاعنا في الحاضر تعلِّمنا أنه يجب علينا أن نتولَّى زمام القيادة في ذلك، ويجب أن يعمل كلّ واحد منّا"، لقد كانت أفكار "بن جوريون" ملهمة وحاملة لبناء الحركة الصهيونية، ومن بعدها الدول الصهيونية. لقد دعا "بن جوريون" إلى "دين العمل" لليهود، لقد جعل "بن جوريون" من العمل السبب الذي يعتمد عليه اليهود في بنائهم، وكتب يقول "تعرضنا إلى الهزيمة بسبب الافتقار إلى العمل، والعمل هو الذي يشفينا، وفي وسط كل آمالنا يجب أن نضع العمل، ووجودنا كله يجب أن يعتمد على العمل، وكتب "جوريون" أن اليهود بعد ألفي عام من حرمانهم من الأرض ومن العمل اليدوي لا يمكنهم أن يصبحوا "شعبًا قويًا وطبيعيًا" لم يتم تسخير كل طاقاته في العمل "العمل الذي يجعل الشعب مرتبطًا" بأرضه وثقافته. بصمة دائمة على الكيان الصهيوني و"جوريون"- أو على الأقل فلسفة "جوريون"- وضَع بصمة دائمة على الكيان الصهيوني والصهيونيين، وحتى على هؤلاء الذين لم يسمعوا عنه اليوم. والعمل- بما ينطوي عليه من قيمة مادية وبحد ذاته- مازال جزءًا من العقيدة الوطنية في الدولة اليهودية. وفي الدولة اليهودية التي تصوَّرها الأوائل في عقولهم، فإن مفهوم العمل احتلَّ مكانه مرموقة، والعمل كان يشكِّل جزءًا من برنامج إثبات الذات بالنسبة لليهود القادمين إلى فلسطين، وبينما كان اليهودي من العالم القديم منعزلاً عن الأرض وفاقدًا مهارة ساعديه فإن اليهودي الجديد كان يمكن أن يكون أقوى ومتمتعًا باكتفاء ذاتي، مُزارع، وعامل، ويقوم ببناء وطنه القومي اليهودي بعقله وعضلاته. وكما برهنت قواعد الأشياء فلم يكن هذا بالأمر الصعب وكقاعدة عامة، فإن "مفهوم العمل" كان يشكّل منهجًا إيجابيًا وبنَّاءً عند الحركة الوطنية اليهودية التي وعدت بتسخير الطاقات في أعمال إصلاحية، واليهود الأوائل غنوا أغنية عبرية بسيطة: "جئنا لنبني الأرض وتبنينا". الاعتماد على النفس وعدم الركون وإلى جانب الإعلاء من قيمة العمل الإنساني الشاق والجاد وتعليم الشعب اليهودي مهارات العمل اليدوي المنتج، والذي تطور فيما بعد ليشمل جميع الأنشطة الاقتصادية الأخرى، إضافةً لنشاط التجارة والربا الذي قام اليهود به تاريخيًا، إضافةً إلى كل ذلك تعلَّم اليهود في فلسطين أهمية الاعتماد على النفس وعدم الركون إلى وعود أو مساعدات الآخرين، وإن كان لا بأس من الحرص على استغلال الأغيار لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية. ففي طقس له دلالته يؤخذ الجنود الصهيونيين إلى موقع الماسادا، حيث رمز الوقفة الأخيرة الخائفة للمتحمسين اليهود عام 73م، الذين انتحروا بدلاً من الاستسلام للجنود الرومان، الذين فرضوا عليهم الحصار بعد هدم الهيكل الثاني في القدس، واليوم يؤخذ الجنود الصهيونيين إلى ذات المكان لحلف اليمين تحت ضوء خافت في احتفال يستهدف استحضار صورة ذهنية رمزية تربط بين الحاضر والماضي لعدم حدوث الماسادا مرة أخرى، حيث الدرس المستفاد من التاريخ والتجربة هو أنه ليس هناك أحد من الأغيار يمكن الاعتماد عليه، وأن العون الحقيقي الوحيد في النهاية يأتي من الذات. المساعدات الخارجية سبب في قيام للكيان الصهيوني وهكذا نجحت الصهيونية في إيجاد "اليهودي الجديد" الذي كانت تسعى إلى إيجاده، إلا أنه رغم الجهد الذي قامت به الحركة الصهيونية أولاً ثم الحركة الصهيونية، والدولة الصهيونية في المرحلة اللاحقة، فإن الأمر الذي لا شك فيه هو الدور المحوري والأساس الذي قامت به المساعدات والمعونات الخارجية التي قدمت للكيان الصهيوني منذ ما قبل نشأتها وحتى الآن. ففي خلال فترة الانتداب البريطاني حصل اليهود في فلسطين على مساعدات كبيرة من الجالية اليهودية العالمية، وأصبح شراء الأراضي وتطوير المشاريع والخدمات الأخرى أمرًا ممكنًا؛ بسبب المدفوعات اليهودية العالمية، وبعد 1948م تزايدت المساعدات على نحو كبير في وقت بدأت فيه الدولة الجديدة في الصراع من أجل البقاء والتغلب على المشكلة السكانية المتزايدة. وفي السنوات الأولى للدولة أمكن تخفيف مشاكل الكيان الصهيوني المالية إلى حد كبير من خلال اتفاقية مع ألمانيا القريبة وُقِّعت في 1953م، قضت بدفع مئات الملايين من الدولارات على هيئة مساعدات إلى الكيان الصهيوني، وهذه المساعدات كانت على جانب كبير من الأهمية في تطوير الصناعة الصهيونية، وأيضًا في تزويد الجيش بالمعدات الضرورية التي كانت في حاجة شديدة إليها، وبالإضافة إلى المساعدات التي حصلت عليها دولة الكيان الصهيوني، فإن ألمانيا وافقت أيضًا على دفع تعويضات الصهيونيين الذين عانوا على أيدي النازيين. 9.5 بليون دولار وقد حصل الكيان الصهيوني على مبالغ غير عادية من المساعدات الخارجية، على هيئة قروض ومنح وإعانات مالية ومساعدات عسكرية، وحتى قبل قيام الدولة كان الكيان الصهيوني قادرًا على الوصول إلى مصادر أموال اليهود في العالم، ومن 1950م إلى 1975م أعطى اليهود في كل أنحاء العالم أو أقرضوا الكيان الصهيوني 9.5 بليون دولار، بالإضافة إلى ذلك فإن الكيان الصهيوني والصهيونيين حصلوا على حوالي 3.9 بليون دولار على هيئة تعويضات من ألمانيا لتسوية مطالب ناشئة عن المحرقة النازية، والولايات المتحدة أعطت أو أقرضت الكيان الصهيوني أكثر من 14 بليون دولار في الفترة من 1949م إلى 1979م. وإجمالاً فإن ما حصل عليه يهود الكيان الصهيوني منذ إنشائها عام 1948م حتى عام 2000م بلغ قرابة 3000 بليون دولار أي أنها حصلت سنويًا خلال عمرها الذي لم يتعدَّ الخمسة عقود إلا بعامين على 60 بليون دولار سنويًا، دون وجه حق.