أحبك حبين حب الهوى وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا فأمَّا الذي هو حبُّ الهوى فشُغلِي بذكرك عمَّن سواكا وأمَّا الذي أنت أهلٌ له فكشفُك لي الحُجبَ حتَّى أراكا فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا قالت رابعة: لو كانت الدنيا لرجل ما كان بها غنيًّا..! قالوا : لماذا ؟ قالت : لأنها تفنى! إلهي أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلَّقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك.. إلهي هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت منى ليلتي فأهنأ، أم رددتها على فأعزى، فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، وعزتك لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك. يا رب أتحرق بالنار قلبًا يحبك، ولسانًا يذكرك، وعبدًا يخشاك؟! سوف أتحمل كل ألم، وأصبر عليه، ولكن عذابًا أشد من هذا العذاب يؤلم روحي، ويفكك أوصال الصبر في نفسي، منشؤه ريب يدور في خلدي: هل أنت راضٍ عنى ؟ تلك غايتي. سيدي بك تقرب المتقربون في الخلوات، ولعظمتك سبح الحيتان في البحار الزاخرات، ولجلال قدسك تصافقت الأمواج المتلاطمات، أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار، والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، والنجم الزهار، وكل شيء عندك بمقدار، لأنك الله تعالى العلي القهار. قال سفيان الثوري لرابعة: ما حقيقة إيمانك؟ فقالت له: ما عبدته خوفًا من ناره، ولا حبًا لجنته، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبًا وشوقًا إليه. مبلغيأ وزادي قليل ما أراه أللزاد أبكى أم لطول مسافتي تحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي فيك ؟ أين مخافتي؟ كانت رابعة تصلى ألف ركعة في اليوم والليلة! فقيل لها: ما تريدين بهذا ؟ قالت : لا أريد به ثوابًا، وإنما أفعله لكي يُسرَّ به رسول الله يوم القيامة، فيقول للأنبياء: انظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها. سئلت رابعة: كيف حبك للرسول صلوات الله عليه ؟ قالت : إني والله أحبه حبًا شديدًا، ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين. هتف رجل من العبَّاد في مجلس رابعة: اللهم ارضَ عني. قالت رابعة : لو رضيت عن الله لرضي عنك. قال : وكيف أرضى عن الله ؟ قالت : يوم تُسرُّ بالنقمة سرورك بالنعمة لأن كليهما من عند الله. منير عتيبة مواعظ من صيد الخاطر للعلامة ابن الجوزي التفكر في الله ومحبته تأملت قوله تعالى: يُحِبُّهُم وَيُحبُّونهُ . فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقاً وبيان هذا: أن محبة الحس لا تتعدى الصور الذاتية ومحبة العلم والعمل ترى الصور المعنوية فتحبها. فإنا نرى خلقاً يحبون أبا بكر رضي الله عنه وخلقاً يحبون علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وقوماً يتعصبون لأحمد بن حنبل وقوماً للأشعري فيقتتلون ويبذلون النفوس في ذلك. وليسوا ممن رأى صور القوم ولا صور القوم توجب المحبة. ولكن لما تصورت لهم المعاني فدلتهم على كمال القوم في العلوم وقع الحب لتلك الصور التي شوهدت بأعين البصائر. فكيف بمن صنع تلك الصور المعنوية وبذلها وكيف لا أحب من وهب لي ملذوذات حسي وعرفني ملذوذات علمي فإن التذاذي بالعلم وإدراك العلوم أولى من جميع اللذات الحسية فهو الذي علمني وخلق لي إدراكاً وهداني إلى ما أدركته. ثم إنه يتجلى لي في كل لحظة في مخلوق جديد أراه فيه بإتقان ذلك الصنع وحسن ذلك المصنوع. فكل محبوباتي منه وعنه وبه الحسية والمعنوية وتسهيل سبل الإدراك به والمدركات منه وكيف لا أحب من أنا به وبقائي منه وتدبيري بيده ورجوعي إليه وكل مستحسن محبوب هو صنعه وحسنه وزينه وعطف النفوس إليه. فكذلك الكامل القدرة أحسن من المقدور والعجيب الصنعة أكمل من المصنوع ومعنى الإدراك أحلى عرفاناً من المدرك. ولو أننا رأينا نقشاً عجيباً لاستغرقنا تعظيم النقاش وتهويل شأنه وظريف حكمته عن حب المنقوش. وهذا مما تترقى إليه الأفكار الصافية إذا خرق نظرها الحسيات ونفذ إلى ما وراءها فحينئذ تقع محبة الخالق ضرورة. وعلى قدر رؤية الصانع في المصنوع يقع الحب له. فإن قوي أوجب قلقاً وشوقاً. وإن مال بالعارف إلى مقام الهيبة أوجب خوفاً. وإن انحرف به إلى تلمح الكرم أوجب رجاء قوياً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْريهم.