أصل عنوان هذا المقال مبحث من كتاب شخصية الفقه المالكي للدكتور مصطفى بن حمزة، سماه انتظام المذهب المالكي لمقررات العقيدة السنية وقدرته على إيقاف الشذوذ العقدي والفكري.ولأهميته ننشره مع شيء من التصرف اقتضاه العمل التقني الصحفي، وللإشارة فقد تم حذف الهوامش والتعليقات. الفقه المالكي يشمل الأحكام العملية والعقدية من الأخطاء العلمية التي يقع فيها كثير من دارسي المذهب المالكي تشطيرهم له وحصرهم إياه في المباحث الشرعية العملية التي تنتظم العبادات والمعاملات والأقضية والجنايات، وهي المباحث التي أصبحت تشكل مضمون الفقه على اعتبار أن الفقه هو الأحكام العملية أو الفرعية. ومعلوم أن اعتبار الأحكام الفرعية أو العملية يقصي الأحكام العقدية أو الأحكام الأصلية التي يتناولها علم خاص، يسمى علم العقيدة أو علم التوحيد، وهي الأحكام التي جمع بعضها أبو حنيفة تحت تسمية الفقه الأكبر. وبصرف النظر عن محاولة بعض المعتزلة نفي تصنيف أبي حنيفة لكتاب الفقه الأكبر، فإن عامة علماء الحنفية قد حفظوا مواقفه العقدية. لقد كان أعلام الفقه المالكي على وعي تام باشتمال المذهب على مباحث العقيدة تحدث عنها مالك رحمه الله، وقد تكون رسالة ابن أبي زيد القيرواني وما صدرت به من قضايا عقدية من أبرز الشواهد على تناول المذهب المالكي لمسائل العقيدة، وتظل المصادر الفقهية المطولة المالكية أكثر استقطابا وتصويرا لهذه القضايا العقيدية المالكية، ويمكن أن نأخذ مثالا على هذا، كتاب الذخيرة للقرافي، فقد أفرد العقيدة بكتاب خاص هو كتاب الجامع، الذي قال فيه: هذا الكتاب يختص بمذهب مالك، لا يوجد في تصانيف غيره من المذاهب. وقد قسم القرافي كتاب الجامع إلى فروع تلتها تنبيهات. عقيدة المذهب المالكي سنية لقد كانت عقيدة مالك، عقيدة من أدركهم من السلف الصالح لا يحيد عنها، ومن ذلك أنه كان شديد النأي بنفسه عن البدع العقدية قبل العملية. ولقد ورث المالكية عن إمامهم كراهية أهل البدع العقيدية، فوقفوا بذلك حائلا دون تفشي كثير من الضلالات، التي عانت منها جهات كثيرة من البلاد الإسلامية... لقد أسهم المذهب المالكي بعقيدته السنية إسهاما قويا ومستمرا في توحيد المغرب فكريا، وهي خدمة لم تستطع بعض المذاهب السنية الأخرى أن تنهض بها لتوفرها على تصورات تسهل تسرب البدع الفكرية. ولقد أفادت المتابعات أنه قد كان من الحنفية مثلا معتزلة يقولون بخلق القرآن، وينفون الرؤية (رؤية الله في الآخرة)، ويقتصرون على القول بفسق منتقص عائشة بينما كان مالك يقول بتكفيره لمخالفته صريح القرآن في تزكيتها. ذود علماء المذهب المالكي عن العقيدة الإسلامية لقد أصبح علماء المذهب المالكي أمناء على استمرار العقيدة السنية في الغرب الإسلامي، وذلك بما كانوا يبدونه من نفور من الابتداع، وما كانوا يعملون به مظهري البدع ودعاتها من كراهية وإقصاء، وقد أدوا في سبيل ذلك الثمن من سلامتهم ومن حياتهم في كل الفترات التي كان يتغلب فيها المد الشيعي أو الخارجي. لقد كان الفقهاء المالكية عند مستوى الذود عن العقيدة الإسلامية، لكنهم أدوا الثمن أذى تحملوه، وقد بلغ بعضهم درجة الموت، فقد امتحن ابن أبي زيد القيرواني، والقابسي، وأبو عمران الفاسي. وقد قتل أبو عبد الله الشيعي إسحاق ابن البرذون. وأبا بكر بن هذيل. لقد روى عياض تفاصيل الحكم عليهما بالموت، وذكر أن الشيعة بالقيروان، كانوا يميلون إلى مذهب أهل العراق أي الحنفية لموافقتهم إياهم في مسألة التفضيل ورخصة مذهبهم، ورفعوا الأمر إلى أبي عبد الله الشيعي، وقد استدل أبو إسحاق البرذون على صحة إمامة أبي بكر الصديق بأن عليا كان يقيم الحدود بين يديه، فلولا أنه كان إمام هدى مستحقا للتقديم لما حلت له معونته، وقد أمر أبو عبد الله الشيعي بحبس ابن البرذون، وابن هذيل ثم قتلهما، ولما قدم ابن البرذون للموت طلب منه أن يرجع فقال أعن الإسلام تستتيبني، ثم قتل الرجلان وربطا بالحبال وجرتهما البغال في الشوارع ثم صلبا ثلاثة أيام. وقد كاد أحمد بن عبد الله بن أبي الأحوص أن يلاقي ذات المصير، لولا أن ابراهيم بن أحمد الشيعي تخوف من أثر ذلك. سبب اتخاذ المذهب المالكي مذهبا رسميا للدولة في الغرب الإسلامي وسيرا على هذا النهج في الدفاع عن السنة وفي مقاومة البدع تمحض الفقه المالكي لأن يكون فقه سنة، وفقه مقاومة للبدع، عاصما من التشرذم والتسيب، بين اتجاهات عديدة، بهذا السبب فقط اتخذ المذهب المالكي مذهبا رسميا للدولة في الغرب الإسلامي. قد كان هشام بن عبد الرحمن أول من دعا إلى ذلك الناس بالأندلس، حسبما يذكره عياض في المدارك، والونشريسي في المعيار، عن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. وقد كان هشام رجلا طلب العلم وبحث عن الرجال ونقر عن أحوالهم تنقيرا لم يبلغ شأوه كثير من أهل العلم، وكتب في ذلك إلى الفقيه أبي ابراهيم قائلا: قد نظرنا طويلا في أخبار الفقهاء وقرأنا ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم نر مذهبا من المذاهب غيره أسلم منه، فإن فيها الجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة والشيعة إلا مذهب مالك رحمه الله تعالى فإنا ما سمعنا أحدا ممن تقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع فالاستمساك به نجاة إن شاء الله. لقد أورد القاضي عياض هذا القول من قبل الونشريسي إعجابا به وتسليما بفحواه ودعمه بما حكاه من أن القرويين مزقوا أسمعتهم من ابن أبي حسان وطرحوها على بابه لكلمة بدرت منه لأمير إفريقيا حضه بها على العصاة، ولا يبعد صوابها في بعض الأحوال، وكان الأولى بمثله غيرها لأمانته وفضله وتقدمه. وقد كان عبد الله بن أبي حسان المذكور قد أشار على زيادة الله بمعاقبة الجند الثائرين، وكانوا قد هدموا بيوت ابن أبي حسان، لكن الناس لم يقبلوا منه تلك الإشارة، وتركوا الأخذ عنه، بل إنهم مزقوا كل ما سبق لهم أ أخذوه عنه. حمل الناس على مذهب مالك تقنين للأحكام الفقهية إن دعوة هشام بن عبد الرحمن إلى الأخذ بالمذهب المالكي التي رأى فيها البعض أنها إلزام للناس بما لا يلزم، ليست إلا عملا يراد به صيانة العقيدة قبل الفقه أولا، ثم توحيد القضاء والفتوى وتدبير الأمور، خصوصا حينما يعلم أن الحياة المدنية كلها كانت تقاد وتضبط بالفقه، فلم يكن صوابا أن يختلف القضاة في الأحكام فيحكم هذا بصحة الحبس مثلا، ويحكم الآخر ببطلانه، ويحكم هذا بجواز التفاضل في غير الأموال الربوية الستة، ويمنع ذلك آخرون في الأقوات أو الأطعمة، أو في كل المكيلات والموزونات إذا بيعت بأجناسها، ولو أن الأمر ترك لاختيار المفتين والقضاة لأدى ذلك إلى اضطراب شديد، لا تستقيم الأوضاع الاجتماع معه. إن حمل الناس على مذهب مالك لم يكن إلا نوعا من تقنين الأحكام الفقهية لنقلها من مستوى الفتوى غير الملزمة إلى مستوى الحكم الملزم. ولقد استشير كثير من الفقهاء المحدثين في حكم تقنين الفقه فأفتى بجواز ذلك علماء كثيرون منهم: الشيخ علي الخفيف وحسنين مخلوف من علماء مصر والشيخ عبد الوهاب الحافظ من سوريا والشيخ أبو الأعلى المودودي من باكستان، والشيخ عبد العزيز آل الشيخ من السعودية، وغير هؤلاء.