لم تخلق نتائج الانتخابات التشريعية في الجزائر مفاجئة كبيرة اعتبارا لما ظهر من مؤشرات حول مدى استعداد الدولة الجزائرية لخوض تجربة التغيير. فالحراك الديمقراطي الشعبي دحرته الأجهزة الأمنية بقوة في ظل قانون للطوارئ دام زهاء 19 سنة، وأعلن عن رفعه في فبراير 2011، ليتم التراجع عن ذلك بعد يومين تقريبا بدعوى التطورات التي عرفتها الجارة ليبيا حينذاك. هذا القانون الذي كان المظلة السياسية التي أعطت السلطات الجزائرية باستمرار "شرعية" الحد من حرية التظاهر السلمي وحرية التعبير، كان من بين القوانين التي لم تتمكن رياح الربيع الديمقراطي التي هبت على المنطقة من زحزحته. لقد كان ذلك بمثابة مؤشر قوي على أن "خيار اللاتغيير" هو الخيار المرجح في الجزائر. وتأتي باقي المؤشرات لتؤكد ذلك الخيار وخاصة ما تعلق بالقوانين الانتخابية وطريقة إعدادها والإقصاء الممنهج الذي كرسته ضد أكبر معارضة جزائرية إسلامية غير معترف بها. السياق المحلي الجزائري الذي نظمت فيه تلك الانتخابات إذن سياق لم يكن يوحي لا على المستوى الشعبي ولا على المستوى الرسمي بوجود ما يرجح حدوث تغيير مهم. فالانتخابات كرست نفس الأغلبية الحكومية ولكن بخريطة سياسية أكثر بلقنة حيث مثلت 26 حزبا في البرلمان مقابل قرابة 20 في السابق. وحصل حزب جبهة التحرير، الحزب الحاكم، على المرتبة الأولى ب 220 مقعدا من أصل 462 مقعدا في المجلس الشعبي الوطني، و حصل حليفه في الحكومة، حزب التجمع الوطني الديمقراطي، على 68 مقعدا، مما يعني أن الحزبين معا ب 288 وفرا الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة ومباشرة التشريع والتنفيذ بشكل مريح. وفي المقابل حصل الإسلاميون بكامل مكوناتهم، والذين يفترض أنهم من حملة مشروع التغيير، على 59 مقعدا فقط ! السؤال المحير في هذا الصدد هو: هل صوت الشعب الجزائري حقيقة على "خيار اللاتغيير"؟ وهل اختار بحرية أن يكون خارج سياق الربيع الديمقراطي في المنطقة؟ من جهة أولى، المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية غير مشجعة لترجيح تلك الفرضية. ومن جهة ثانية، أعلنت عدة أحزاب طعنها في الانتخابات على أساس وجود تزوير، وتم الحديث عن لعب ورقة الجيش في التصويت الذي لم يكن ليصوت لغير حزب الدولة، ودعت أحزاب أخرى إلى إلغاء نتائجها ... لكن رغم كل ذلك فانتخابات 10 ماي الجاري، كما أكد مراقبون دوليون، نظمت بشكل سلمي، وعرفت نسبة مشاركة تقارب 43 في المائة مسجلة ارتفاعا مقارنة مع سابقتها، وأعلنت الدول الكبرى، مثل فرنسا وأمريكا، قبولها وترحيبها بتلك النتائج... وهذا يعني أن جزائر ما قبل الانتخابات سوف تستمر بعدها بأريحية أكبر، وأن الانتخابات أكسبتها الصفة الديمقراطية بشكل أقوى مما كانت عليه. ومهما اختلفت القراءات وتعددت الانتقادات فإن الأمر الواقع يؤكد أن الناخب الجزائري "اختار"، بإرادته أو "تزويرا" عنه، استمرار نفس القوى السياسية في تدبير الشأن الجزائري. ويمكن تفسير ذلك بالقول إنه اختار أن يتم التغيير على أيدي تلك القوى، وهذا يعني أنه حسم في مستقبل الجزائر الداخلي والإقليمي في إطار خيارين لا ثالث لهما، خيار محافظ قد يفجر حراكا اجتماعيا يفتح أبواب الجزائر على تغيير يفرضه الشعب. أو خيار التغيير في ظل الاستقرار على شاكلة المغرب يجعل القيادة الجديدة القديمة تقوم بمبادرات إصلاحية حقيقية بدأ بدستور ديموقراطي وانتهاء بإصلاحات في السياسة الخارجية تهم الجوار واتحاد المغرب العربي. إن خيار المحافظة السلبي لا يعني أن الشعب الجزائري هو من سيؤدي ثمن نتائج الانتخابات التشريعية وحده، بل إن شعوب الجوار المغاربية هي بدورها سوف تؤدي ثمن "اللاتغيير" في الجزائر. وفي غياب حراك شعبي قوي وضاغط، لا شيء من غير إرادة سياسية حقيقية يجعل القادة القدامى –الجدد المتوقعين، في ظل النتائج، مكرهين أو مدفوعين إلى "التنازل" عن خياراتهم القديمة فيما يتعلق بالملفات المغاربية مثل تفعيل اتحاد المغرب العربي وفتح الحدود بين الجزائر والمغرب وحل ملف الصحراء المغربية، الذي تلعب فيه الجزائر دور راعي الانفصاليين و داعميهم. ففي ملفي الاتحاد المغاربي والحدود مع المغرب سجلت لصالحهما مكاسب، ورغم أن تلك المكاسب لا ترق إلى مستوى الاختراقات، وأنها فيما يتعلق مثلا بفتح الحدود مع المغرب هي أقرب إلى إعلان النوايا الحسنة، إلا أن التقدم في خيارهما من شأنه أن يحدث تغييرات مهمة في المنطقة. و تفعيل اتحاد المغرب العربي أصبح اليوم خيارا تفرضه التطورات السياسية في المنطقة وظهور رغبة لدى القيادات السياسية لباقي دوله تعبر عن تطلعات الشعوب وعن إرادة وقف النزيف الاقتصادي المترتب عن الوضع الحالي. غير أنه في كل الحالات يتوقع أن تفرض السياسة الجزائرية ما بعد الانتخابات إيقاعا بطيئا في حل الملفين. لكن ملف الصحراء المغربية قد يعاني من استمرار نفس السياسة الجزائرية تجاهه، وهي سياسة بالإضافة إلى أنها تدعم الانفصاليين ضد المغرب، فهي اتسمت على الدوام بالجمود واللاواقعية على مستوى الخطاب والمقاربة. وهذا الملف من بين أكثر الملفات حساسية التي سوف تمتحن الخيار الانتخابي الحالي في الجزائر ومدى إدراك قادته لأهمية تجديد مقاربتهم لملف الصحراء في اتجاه واقعي يحترم السيادة الوطنية للمغرب و وحدته الترابية. إن التحدي الذي تواجهه إرادة التغيير في الجزائر بما يخدم مصلحة الشعب الجزائري وشعوب المغرب العربي يكمن في مدى قدرة القوى السياسية التي كرستها نتائج الانتخابات من التخلص من ضغط اللوبي العسكري من جهة ومن الاستلاب لقراءات عدائية تاريخية للعلاقة بين الجزائر والمغرب.