قال تعالى :}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ{(الأنفال : 45) يتناول هذا النداء الأخير من سورة الأنفال قضية وثيقة الصلة بموضوع السورة ضمن ما سبقت الإشارة إليه من الوحدة الموضوعية في السورة الواحدة ، وفي القرآن كله رغم أنه أنزل مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة، وصدق الله القائل سبحانه :}أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً{ (النساء : 82) والقضية التي يعالجها هذا النداء هي الثبات في المواجهة والاستعانة بالله على ذلك. ولئن كانت الآية إنما جاءت في سياق المواجهة العسكرية، لكنها تتسع لكل المواجهات، أو قل كل ما يحتاج فيه المرء إلى الثبات. وممن فطن لهذا المعنى ابن عطية في تفسيره فجعلها تشمل من ولي شيئا من المسؤوليات قال:«وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في ولاية الإمارة والقضاء لا يطلب ولا يتمنى ، فإن ابتلي صبر على إقامة الحق» فالمسؤول لا ينبغي أن يطلب المسؤولية لكن إذا ابتلي بها وجب عليه أن يقوم بها أحسن قيام ولا يضعف أو يجبن مع أول مواجهة، فذلك ليس من الثبات في شيء. ثم جاء الأمر بذكر الله ، ويحمل على معناه الأصلي الذي هو التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار... ويحمل أيضا على معنى ذكر فضل الله ونصره لعباده وافتقار العبد لمعيته. وفي معناه ما قيل أن : المراد اذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر في الدنيا والثواب في الآخرة. وقال الشوكاني :«وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال ، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب، وتزيغ عندها البصائر.» وفي هذا توجيه إلى التزود الحقيقي لأية مواجهة كيفما كانت، مع النفس أو مع الغير، إنه التزود بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير، وصاحب العون والمدد وهو الله سبحانه وتعالى. ثم قال تعالى في بقية الآية :}وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{. وفي الآية كما هو واضح أمر بمعروف ونهي عن منكر ، ومن أجل ذلك بعث الله نبيه بل أنبياءه جميعا عليهم الصلاة والسلام قال تعالى:}الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ{ (الأعراف : 157) وكذلك هو أمر أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تلك هي علة خيريتها بين الأمم قال تعالى:}كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ {(آل عمران : 110) وهكذا أمر الله المؤمنين بالثبات والذكر والطاعة والصبر ونهاهم عن التنازع والكبر فجمعت الآية بذلك أسباب الفلاح والفوز وحذرت من أسباب التنازع والفشل . وفي الآية تحذير من التنازع لأنه يتعارض تعارضا كليا مع مبدأ الثبات. وتجلى هذا التحذير في ترتيب مفسدتين كبيرتين يصعب استداركهما وهما الفشل وذهاب الريح، بمعنى ذهاب الغلبة والهيبة ،وجعل الأولى مفضية للثانية . وجعل الاثنتين نتيجة مسلمة للتنازع . وفي بقية الآية نهي عن الكبر والمفاخرة كما في قوله تعالى :}وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ{ والبطر غمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها،والرياء المباهاة والتصنع ... ووقع التحذير من ذلك وإن كان سلوكا للمخالفين الصادين عن سبيل الله، لاحتمال الوقوع فيه ومن عواقبه بما فيها الصد عن سبيل الله ولو من غير قصد. وقد وقع التحذير مما وقع فيه الغير في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله تعالى :}أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ{ (الحديد : 16) ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :«لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه» متفق عليه. وفي كل ذلك تحذير من أن سنن الله لا تتخلف ولا تحابي أحدا: فمن استجمع عناصر النصر ناله، ومن سلك سبيل الفرقة والفشل وقع فيه.