من بين الحلول التي تلجأ إليها الموظفات في تربية أبنائهن طرق أبواب والداتهن سواء باستقدامهن إلى البيت أو بإيداع الرضيع في بيت جدته بمجرد انتهاء عطلة الرضاعة، لتجد الموظفة نفسها موزعة بين بيت الزوجية وبيت أمها لزيارة رضيعها الذي أصبح بين تيارين للتربية، تيار الأم الوالدة البيولوجية وتيار الجدة التي قد لا تقبل التدخل في أسلوب تربية الرضيع على اعتبار أنها هي من ربت والدته، لتصبح أم الرضيع أمام معادلة صعبة، فبقدر ما وجدت ملجأ لابنها فهي تريد أن تطبق أسلوبها في التربية لكنها تصطدم بصخرة اسمها قناعات أمها التي ربتها. «التجديد» تحاول ملامسة الموضوع في بعض جوانبه ما دام المقام لا يتسع للإحاطة بكل تفاصيله. أمي نبع الحنان (س. م) سيدة في الثلاثين من عمرها تقطن بالعاصمة الإدارية الرباط، ظروف عملها في شركة خاصة جعلتها تستعين بأمها التي تقطن بمدينة القنيطرة في تربية رضيعتها منذ اليوم الأول من انتهاء عطلة الولادة. ظنت (س.م ) أنها حين أنهت مشاكلها مع الحضانات والخادمات ستعيش مرتاحة البال لأن والدتها لن تفرط في فلذة كبدها ولن تطرح لها مشكل العطل الدراسية ولا الساعات الإضافية، لكن ما إن مر الشهر الأول حتى بدأت تطفو على السطح مشاكل لم تكن تخطر على (س. م) التي أصبحت تعاني في صمت. تقول (س. م): «كنت أحلم بالأمومة كأي أنثى، وكنت أحلم باليوم الذي أغدق فيه ولدي أو بنتي بالحنان، لكنني بإيفاد رضيعي لأمي وجدتها تملأ مكاني في إعطاء الحنان في غيابي بل حتى في وجودي حين أسافر من أجل لحظات أقضيها مع رضيعي». وتضيف (س. م) والدموع على أجفانها: «نعم وجدت الحنان الذي لن أجده عند الخادمة ولا في الحضانة، لكنني منعت أنا من إعطاء الحنان لأن أمي للأسف لا تفهم أنني أنا أيضا من حقي أن أعطي لابني جرعة حنان من أمه وليس فقط من جدته». تعاني (س. م) من غلو أمها واستحواذها، لكن هذه الأم لا تستطيع أن تعبر عن معانتها لأنها تخاف من غضب أمها وبالتالي رفضها الاستمرار في العناية بابنها، وهي التي تفهم معنى أن تغضب أمها، أي أنها ستفتح أبواب المشاكل التي أغلقتها من ذي قبل. اختارت (س. م) الصبر حتى تسترجع ابنها وعزت نفسها بأن ما أصابها ليس إلا إحدى ضرائب غياب المرأة عن وليدها بسب العمل خارج المنزل الذي أصبح عند البعض من الضروريات بسبب غلاء المعيشة. أمي مربية عانت السيدة (ر. ب) من إخراج طفلها الأول للحضانات إذ أصيب منذ عامه الأول بنزلات كثيرة للبرد وبحساسية كادت أن تجعله من مرضى الربو لولا العناية الطبية، أضف إلى ذلك معاناتها أيام العطل الدراسية التي لا تناسب عطلتها السنوية وهي الموظفة في القطاع الخاص. أنجبت (ر. ب) مرة ثانية لكنها اختارت أن لا تعيد كرة الحضانة وطرقت باب والدتها التي تسكن في حي بعيد عن حيها بالمدينة ذاتها، إلا أنها لم تكن تدري أنها ستصطدم بمشكل آخر يتعلق بأسلوب التربية. تقول (ر. ب): «إنني فرحت كثيرا حين مر فصل الشتاء دون أن تمرض بنتي مثل أخيها بكثرة النزلات، وفرحت لأنني لم أعد أجد نفسي مضطرة لإعداد أكل الرضيع منذ الصباح ليأكله وسط النهار، كما أنني فرحت لكون العطلة الدراسية لم تعد تسبب لي خوفا، لكنني مقابل كل هذا وجدت أن أمي أخذت مني رضيعتي كما أخذت مني كل شيء يتعلق بتربيتها، فأنا أزور بنتي عند أمي وكلما أردت التدخل في شيء من تربيتها تقول لي أمي ألست أنا التي ربيتك وربيت خمسة من إخوانك وأخواتك؟ حتى نصائح طبيب الأطفال التي أتذرع بها، تقول (ر. ب)، ترفضها أمي بذريعة أن تربية القدامى هي أنجع تربية، أما أولاد اليوم فهم لا يعرفون سوى تربية الكتب والأوراق، وهي لا تغني ولا تسمن من جوع أمام خبرة الآباء والأجداد. معاناة (ر. ب) أيضا لم تكن سببا لأخذ ابنها إلى بيتها لأنها بين مطرقة تشدد أمها وسندان مشاكل الحضانات والخادمات، والصبر على أمها في نظرها أهون من معاناة لا حول لها ولا قوة إلا بالله. *** رأي المستشار مصطفى شقيب كاتب وباحث في العلوم النفسية والإنسانية قال في تصريح ل «التجديد» بخصوص استعانة الأمهات بالجدات في تربية أبنائهن: عمل المرأة خارج البيت، تحقيق الذات، وزيادة الدخل الأسري كان له أيضا الجانب الآخر المزعج المتعلق بتربية الأبناء، خاصة في السنوات الثلاث الأولى، نظرا لأهمية الحضور الفعلي للأم لإرضاع رضيعها، ورعايته الغذائية والعاطفية.. ولئن كان حل الحاضنات ورياض الأطفال من الحلول الحديثة في عالمنا العربي المصاب أيضا بحمى التغيير المجتمعي وانعكاسه على تفكيك الأسرة الواسعة لتحل محلها الأسرة النووية التي حرمت خدمات الخالات، والعمات، والجارات والجدات طبعا...فاليوم، يعود الحنين - وربما تحت وطأة صدمة واقع توكيل المربيات والحاضنات بتربية النشء الصغير - إلى الجدة كبديل تربوي مستساغ عاطفيا أحيانا ومقبول اقتصاديا أحيانا أخرى.. هذا ولم يهدأ بال الأم العاملة بالكامل بعدما أوكلت رضيعها إلى الوالدة، حيث سجلت بعض الانشغالات التي تراود ذهنها، من قبيل: - التأثير على التكوين النفسي والإجتماعي والقدرات العقلية للرضيع. - تصور الأم العاملة فقدانها لابنها ببعدها المتكرر عنه، والاعتقاد المغلوط أنها تبخسه حقه من الحاجات العاطفية بخروجها للعمل-الشعور بالذنب لذلك- - نشوء غيرة مرضية مردها إلى تعلق الرضيع بالجدة. - ثم بعض الإحساس أن الأم ترهق والدتها بتكليفها بالأعباء-على غرار الحديث الشريف»أن تلد الأمة ربتها..» كل هذه التصورات تحتاج بعض الترشيد والترتيب المنطقي، وللتذكير: كانت المرأة تعمل دائما وتخرج للحقول وتربي أطفالها وتخدم بيتها وزوجها، وتتعاون في ذلك مع أفراد عائلتها الواسعة وعلى رأسها الجدة:أم الجميع. ما تغير طبعا هو شكل العمل -فضائيا - والطابع الفرداني المميز للأسرة العصرية. فعلى الأم العاملة أن تعتز بتكوينها العملي أولا وتحقيقها لذاتها عبر المساهمة المجتمعية في خدمة الناس وزيادة الدخل الأسري عليها أن لا تنتبه إلى المقولات التي لا تستند على أي أساس علمي من قبيل أن أطفال المرأة العاملة هم أضعف تكوينا من الجانب النفسي والاجتماعي والذهني إذ لم يثبت الباحثون أي ربط في المسألة. الجدة ليست منافسة قال مصطفى شقيب بخصوص الاستعانة بالجدة: «الجدة ليست منافسة للأم، ليست من الخارج - خارج البيت الأسري - إنها جزء منه ومكونه الأول ولئن ابتعدت جسديا، إنها الأم الكبرى، الجميع أولادها، الولد ولدها، و»ما أغلى من الولد إلا ولد الولد» :لا مجال لغيرة مصطنعة أو من أي نوع ولا مجال لأي إتعاب أو تكليف -شرط بعض الأدب واللياقة - تربية الجدة المربية استمرار لتربية الأم وفي ما يخص الأسلوب التربوي للجدة، قد يكون فيه بعض النظر خاصة إذا كانت الجدة قد حرمت التعليم والمعارف الحديثة المواكبة للتعييرات المجتمعية، وفي هذا يتم التوجيه بحكمة ولطافة، بكل الأدب المطلوب تجاه الوالدين، وبالاعتياد والممارسة، قد يتم التقويم التربوي المرغوب فيه، في ما يخص التغذية، النظافة، التواصل اللغوي. والتعامل مع شتى الحالات التربوية....؛ وعلى مستوى الجانب العاطفي، ليس الحضور الجسدي للأم هو الحاسم، ولكن نوعية التواصل بين الأم ورضيعها، وفي هذا يرجى أن تستغل الأم كل وقت متاح بعد رجوعها من العمل لقضاء أكبر وقت ممكن مع طفلها، لملاطفته ومداعبته والإلتصاق به طويلا، والنظر في عينيه...قصد تدعيم الرباط العاطفي المثبت أصلا من الناحية البيولوجية...