دخلت إلى قاعة الأساتذة، شاحبة الوجه يبدو في عينيها حزن عميق، ذاهلة وغير منتبهة إلى تحيتي الصباحية سألتها بفضول: ياك لباس؟ أجابت وقد ازداد عبوسها: لقد ذهبت الخادمة لزيارة أهلها في البادية، ولم تعد ! منذ أن عينت في سلك التدريس انتبهت الى الحديث المستمر عن الخادمات بين زميلاتي في العمل. وقد كان هذا الأمر يثير تقززي لأنني اعتبرته كاملا يدخل في اطار التبجح الذي يطبع سلوك بعض النساء، أو ناتجا عن ضيق عالم هؤلاء الزميلات لدرجة انحصار اهتمامهن في الحديث عن الخادمات والمتابعة اليومية لأخبارهن وسلوكاتهن. إلا أني لم أكن أتصور أن تصل أهمية الخادمة لدى بعض الاسر لدرجة تصبح معها مأساة بالنسبة لمن فقدت خادمتها كما هو الشأن بالنسبة لزميلتي التي استرسلت: "إنهن غادرات.. فلو نبهتني بضعة أيام قبل سفرها بأنها لن تعود، لكنت على الاقل تدبرت أمري ولما وجدت نفسي في هذه الورطة". إن ما يثير في الامر أننا نجد الحديث عن الخادمات منتشرا وسط عدد كبير من النساء بمختلف مواقعهن الوظيفية والاجتماعية، كما يطبعه دائما نوع من التذمر والشكوى مما يدفعنا الى التساؤل أولا عن مدى مشروعية الكلام عن التضرر من عمل الخادمات لدى هؤلاء النساء. و هل يمكن اعتباره حديث مضطهدة متجبرة عن مضطهدة متمردة؟ ام هناك بالفعل عوامل وأسباب تخلف نوعا من النزاع بين المشغلين والخادمات تتسبب في اصطدام مستمر بينهما. كما أن هذه الظاهرة تدفعنا الى طرح سؤال على الهامش باعتبار ان الاجابة عنه ليست هدف تحقيقنا هذا. لماذا نجد في الغالب النساء هن من يتحدث عن الخادمات وعن مشاكلهن بينما هذا الحديث شبه منعدم في وسط الرجال؟ لقد سبق لعدة تحقيقات تناول موضوع الخادمة، ولكنها انحصرت في الحديث عن و ضعيتها الاجتماعية والنفسية وواقع الاضطهاد والاستغلال الذي تعاني منه نتيجة غياب اعتراف قانوني واجتماعي بعملها كعمل مأجور. منطلقة من حكم مسبق من أن الخادمة هي الطرف المتضرر والمستغل في عملها وعلى ان الطرف الاخر المشغل او المشغلة. هو بالضرورة المستغل والمضطهد لكونه يستخدم مواطنة لا تتوفر على الحد الادنى من الحماية القانونية والضمان الاجتماعي، يحميها من كل التجاوزات التي يمكن ان تلحق بحقوقها. لذا سنحاول من خلال تحقيقنا هذا الانصات الى الطرفين معا للكشف من جهة عن العوامل والاسباب التي كانت وراء تشغيل الخادمة لدى فئة واسعة من الناس تتعدى بكثير الميسورين منهم، ومن جهة أخرى، محاولة ملامسة طبيعة وخلفيات المشاكل المتعددة بين الخادمات والمشغلين لماذا اللجوء إلى الخادمة؟ لقد طرح هذا السؤال على مجموعة من النساء والرجال، غير أن معظم الاجابات جاءت من النساء( الذكور نادرا ما تكون لهم علاقة مباشرة بالخادمة) وكانت كالتالي ل.ب 30 سنة موظفة... إن عملي يتطلب مني تسع ساعات في اليوم، هذا إذا أضفنا ساعة أو ساعتين اشتغلهما في البيت لتحسين مردوديتي في العمل. وقد يتطلب الامر غالبا عطلتي الاسبوعية لذلك فاعتنائي بشؤون البيت أمر غير ممكن ولذلك تصبح الخادمة أمرا ضروريا وملحا. عدم إمكانية التوفيق بين العمل المنزلي والعمل خارج البيت تعتبر اذن من ضمن الاسباب الرئيسية التي تدفع مجموعة من النساء الموظفات الى الالتجاء الى مساعدة الخادمة. أما و.ز 50 سنة وربة بيت (عاطلة) فتقول:" انني رغم الاستعانة بالخادمة لا أعرف الراحة منذ تزوجت وانجبت، فماذا لو استغنيت عن عملها؟" هناك إذن العبء الثقيل للعمل المنزلي الذي يتجاوز طاقات النساء، سواء كن يشتغلن خارج البيت ام لا وبالتالي فمساعدة الخادمة تصبح ضرورة قصوى لتخفيف هذا العبء عن صاحبة البيت. "احتاج الى خادمة لمساعدتي في البيت لكي تتاح لي الفرصة للمطالعة وللقيام باعمال أخرى كالمشاركة في انشطة متنوعة".تقول أ.و 39 سنة استاذة. تأتي الحاجة هنا الى الخادمة في اطار الحاجة الى استغلال الوقت الثالث للمشغلة للاهتمام بأمور تهمها. أو "»لكسب الوقت للاعتناء بنفسي والاهتمام بزوجي« "كما تقول م 32سنة استاذة. قد يكون أيضا لتشغيل الخادمة اسباب أخرى تتجاوز عبء العمل المنزلي والارهاق الذي يسببه، نجدها في الشهادات التالية حيث تقول ل.ب "زوجي بطبعه رجل كسول حين يتعلق الامر بالعمل المنزلي كما يشكل مصدر استفزاز دائم لي. ولأنني أرفض تحمل مسؤولية البيت وحدي، لم يكن أمامنا سوى أن نقتسم المسؤوليات الأخرى بشكل متساو. فكان الحل هو اللجوء إلى الخادمة. أما و.ز فتقول: "إن غياب الخادمة يتسبب لي في مشاكل عديدة، من جهة مع زوجي الذي لا يفكر اطلاقا في مساعدتي بل يشترط ان يجد طعامه جاهزا في وقته والبيت مرتبا وملابسه نظيفة. ومن جهة أخرى تتدهور علاقتي بالاطفال لأنني أضطر لارغامهم خصوصا البنات على مد يد المساعدة ويؤدي رفضهن الى نزاعات حادة لأنهن متابعات بواجبات مدرسية أو لأن لهن رغبة في اللعب أو مشاهدة التلفزة. للخادمة دور حيوي في خلق نوع من التوازن النفسي داخل الأسرة حيث إن إلقاء العبء على فرد واحد في الاسرة وغالبا ما تكون المرأة، يؤدي الى تظلم هذه الاخيرة وتوتر أعصابها فتنتج عن ذلك مشاحنات متزايدة بين أفراد الاسرة. لماذا العمل في البيوت؟ أما الطرف الاخر، الخادمات، فقد جاءت إجابتهن حين سئلن عن سبب اشتغالهن في البيوت كالتالي: "محتاجة إلى المال لأعول إخوتي" س. طفلة عمرها 10سنوات "تزوجت برجل فقير، فخرجت للعمل في البيوت لمساعدته". "احتاج الى المال لاقتناء الملابس وآلة للخياطة قد تساعدني في تحسين وضعي المادي".تقول خ 19 سنة الفقر والحاجة إذن من الدوافع الرئيسية لمجموعة من النساء للاشتغال في البيوت كما هناك ايضا الافتقار الى مؤهلات مهنية تسمح لهن بالقيام بعمل آخر. فأغلب المستجوبات أميات أو انقطعن عن الدراسة في وقت جد مبكر. أما د. 40 سنة فهي تفضل العمل في البيوت على أي عمل آخر وفي هذا الإطار تقول: "قد سبق لي ان اشتغلت في معمل الليمون وماطيشة حيث كانت مصاريف الطعام والنقل من أجرتي بينما العمل في البيوت يوفر لي الملبس والمأكل والحمام على حساب المشغلين". للطرفين اذن من خلال كل هذه الشهادات ظروف قوية واسباب ملحة تجعله يحتاج الى الطرف الاخر. فماهي اذن طبيعة العلاقة التي تجمع بين المشغل والمشغلة من جهة والخادمة من جهة اخرى؟ طبيعة العلاقة بين المشغل والمشغلة اتسم الحديث عن هذا الموضوع لدى أغلب المستجوبات، سواء كن مشغلات أو خادمات بمرارة يتخللها في الغالب شعور بالاستياء والكراهية، إذ أن إحدى المشغلات وهي متفرنسة كانت تنعت الخادمات ب LES BONNES OU LES MAUVAISES كما يسمونهن باللغة الفرنسية وفي المقابل نجد الخادمات يتحدثن بألم وتذمر عن عملهن: "حين أفكر في الامر، أجهش بالبكاء وأشعر بالغربة واعتقد أنني إن هاجرت الى بلاد بعيدة لن اشتاق الى احد هنا".تقول خادمة صغيرة في السن. فماهو اذن مرجع هذاالتشنج الذي يطبع العلاقة بين المشغلة والخادمة؟ تقول الباحثة فاطمة المرنيسي " تختلف العلاقة ذات الطابع البارد التي يربطها مدير معمل بالعامل في المعمل عن العلاقة جد الحميمية بين نفس المدير وخادمته. فالخادمة تنظف الملابس الداخلية وتحمل الفطور حتى الفراش وتسلم المنشفة في الحمام. فالعلاقةبين السيد والخادمة علاقة مطبوعة بالحميمية إلى جانب اللامساواة التي تشكل جوهرها الرئيسي، ويزودها كل ذلك بشحنة انفعالية وعاطفية قابلة للانفجار." قد يبدو لنا من خلال هذا الاستشهاد ان الاحتكاك القريب للخادمة بمشغليها يصبح منبعا للاصطدام المستمر والمباشر نظرا لاطلاعها على كل القضايا الحميمية للاسرة واحتكاكها بمشاكلها واصطدامها المباشر بالفارق الطبقي. ولكن من خلال تصريحات بعض ا لمشغلات وبعض الخادمات تبرز لنا عوامل أخرى قد تكون اكثر تعقيدا من ذلك. وفي هذا الاطار تقول لنا ز.ج. 32سنة طبيبة "لقد كنت حريصة على أن أدفع للخادمة أجرا مناسبا وأحدد لها ساعات العمل مع احترام حقها في الراحة ايام العطل الرسمية ويوم عطلة كل اسبوع مؤدى عنها ،وان يطبع سلوكنا معها انا وزوجي نوع من الاحترام. هذا إذا اضفنا الهدايا التي نقدمها لها من حين لاخر بمناسبة او بدون مناسبة سواء كانت هدايا نقدية أو على شكل ملابس أقتنيها لها. هذا ما كان يطبع علاقتي مع كل الخادمات اللواتي سبق ان اشتغلن عندي. ولكنني وللاسف أجدها بالمقابل تحاول استغلالي، فهناك من تسرق المواد الغذائية لدرجة تضاعف معها مصروف البيت وهناك من اضبطها وهي تعامل ابني الرضيع بوحشية تصل احيانا الى ضربه أو إرعابه لأسباب تافهة. هذا اذا اضفنا إهمالهن لواجبهن في الاعتناء بنظافة البيت وتدبير أموره.. لقدا حترت بالفعل كيف سأحدد تعاملي معهن. في المقابل تقول ه .56 سنة خادمة" أستيقظ في السادسة صباحا لأهيئ طعام الفطور. بعد مغادرة الجميع للبيت، في ا لساعة السابعة والنصف أقوم بإعادة ترتيب غرف النوم والصالون والحمام واجمع كل الملابس المتسخة، تم أتجه الى المطبخ لكي اغسل الاواني وأهيئ طعام الغذاء. في الثانية عشرة يكون طعام الغذاء جاهزا. وفي الثانية بعد الزوال أهيئ لهم الشاي قبل اتجاههم الى العملف. فأبدأ في تنظيف الملابس ثم اكوي الملابس التي تحتاج الى الكي وأرتبها في الدولاب. في الخامسة أهيئ لهم القهوة والرغايف أو بغرير ثم أبدأ في تحضير طعام العشاء وانام في الساعة الحادية عشرة اذا لم يكن هناك ضيوف. أما اذا كان هناك زوار فأنام جد متأخرة بعد ان ارتب البيت وأغسل الاواني حتى أتفادى عتاب ربة البيت القاسي..« اما د. 15 سنة، خادمة فتقول: "انهم يضربونني بلا سبب، ينهرونني بلا سبب يعطيك الضر يعطيك الكونصير.. اخاف كثيرا من صاحبة البيت لدرجة أراها كل يوم في منامي كالكابوس تحاول أن تقتلني«. يظهر لنا من هذه الشهادات ان كلا الطرفين متضرر ولكل منهما اسبابه المعقولة والموضوعية. فالعلاقة بينهما غالبا ما يطبعها الصراع وذلك لأن الخادمة تختزل تذمرها وحقدها على واقعها المزري في علاقتها بمشغليها وتسقط عليهم كل أسباب معاناتها، وبالتالي لا تتردد في إلحاق الضرر بهم (وإن كان تعاملها معهم انسانيا) بالسرقة او اتلاف الممتلكات او ضرب الاطفال. بينما ترى المشغلة في الخادمة الحل السحري الذي سيعفيها من كل التزاماتها بالعمل المنزلي وتربية الاطفال وبالتالي تجد نفسها حانقة على هذه الاخيرة إن لم تستجب لكل أوامرها وان كانت هذه الاوامر تفوق طاقة الخادمة خصوصا إن كانت صغيرة السن. أو حين تغادر المنزل دون سابق انذار فتصب عليها غضبها وتنتقم منها بأساليب مختلفة قد تصل الى الضرب والإهانة وتلفيق تهمة لها. كيف يمكن تجاوز هذه العلاقة المتوترة؟ هل هناك اذن امكانية لتجاوز هذا الواقع وتحديد علاقات جديدة بين المشغلين والخادمة، مبنية على احترام حقوق وواجبات كلا الطرفين مادام الاشتغال في البيوت ظاهرة لا يمكن الاستغناء عنها في الظرف الراهن لأنها مازالت وحسب الشهادات السابقة أمرا ضروريا بالنسبة لكلا الطرفين. فخروج المرأة الى العمل لم يوازه تغيير في العقلية التي ترى بأن العمل المنزلي وتربية الاطفال مسؤولية ملقاة على عاتقها وحدها، وبالتالي فإن انعدام المشاركة في تحمل هذه المسؤولية داخل الاسر من طرف الذكور يثقل كاهل هذه الاخيرة وتصبح الخادمة بالتالي حلا توفيقيا. كما أن انتشار الامية وسط عدد هائل من النساء وانعدام مؤهلات اخرى لدى فئة عديدة منهن والفقر المدقع الذي تعاني منه فئة واسعة من الشعب المغربي، يدفع مجموعة كبيرة من النساء الى الاشتغال في البيوت. إذن مادام هناك واقع لايزال يعيد انتاج هذه الظاهرة ،فكيف يمكن تجاوز حالة الحرب الباردة التي تطبع علاقة الخادمة بأرباب البيت؟ تقول لنا و .خادمة. في هذا الاطار لابد من وضع قانوني لحماية الخادمة من اولياء امرها من جهة الذين لا يهمهم سوى الحصول على أجرتها آخر كل شهر ومن جهة اخرى حمايتها من تجاوزات صاحبة البيت الذي تشتغل فيه". أما ح .56سنة خادمة فتقول: "لابد من صياغة قانون يحمينا.. لكي يفهم الجميع اننا بشر مثلهم كما يجب ان يتم الدفاع عنا في التلفزة والراديو لكي يسمع الكل ويبدأ في احترام الخادمات«. بينما ف 10سنوات وهي خادمة ايضا فهي تطالب بقانون يمنع تشغيل الاطفال لأن العمل حمل اكبر من قدراتهم. البنات الصغيرات يجب ان يتعلمن القراءة والكتابة لكي يستطعن إتقان فن الحديث. بالمقابل يأتي تصريح ل .مشغلة ليصب في نفس اتجاه التصريحات السابقة.. ان عقد عمل يحدد بشكل واضح ومدقق حقوق وواجبات كلا الطرفين سيخلق نوعا من الثقة والاطمئنان و الاستقرار لديهما مادام كلاهما لن يتعامل وفق نزواته وانفعالاته ولكن انطلاقا مما يمليه عليه القانون وبنود العقد.. فالقانون سيريحني انا شخصيا من ذلك الاحساس بالذنب من انني استغل الخادمة أو الاحساس بالشمتة« على أنها استغلت تعاملي الانساني معها لإلحاق الضرر بي.. كما يظهر من هذه الشهادات أن كلا الطرفين المشغلة والخادمة يعتبران أن تقنين هذه الظاهرة حصانة للجميع كما أنه ينظم العلاقة بينهما ،ويرسم حدود الحق والواجب. وفي الوقت الذي نقر فيه بالاهمية القصوى لوجود مثل هذا القانون، يظل السعي الحثيث لتحقيقه على أرض الواقع هدفا يخدم مجمل الأطراف المعنية. (*) عن مجلة «على الأقل)