أعز من الولد ولد الولد.. مثال شعبي، تصدقه حكايات جدات اضطرتهن طوعا ظروف بناتهن العاملات المتزوجات، إلى تحمل مسؤولية تربية أبنائهن.. فلم يعتذرن لكبر سنهن، ولم يتراجعن لكثرة مسؤولياتهن، بل انخرطن بحبهن الفياض، وتضحياتهن التي لا تعرف حدود الزمان أو المكان، وصرن أمهات يملأن فراغ الأم الوالدة.. ويبذلن من حنانهن وعطائهن راضيات.. إذا كان الحمل، ولحظات استقبال مولود جديد، حدثا سعيدا في حياة كل أسرة، إلا أنه في بعض الأحيان، قد يتعكر صفو هذا الإحساس الجميل، استغراق الوالدين في التفكير فيمن سيعتني بهذا الضيف لحظة غياب الأم عن المنزل بعد تولي شهور عطلة الأمومة، والتحاقها بوظيفتها، ومن تم وانخراطها في عملها اليومي، فكثير من الأمهات يرفضن الاستعانة بمربية، لما تتناقله الألسن من حكايات حيكت صدقا أو زورا عن فئة من المربيات خن الأمانة، أو لعدم القدرة على دفع المبالغ المالية التي يطلبنها مقابل الخدمة، كما ترفض أخريات إرسال أطفالهن إلى الحضانة في الشهور الأولى خوفا عليهم من الأمراض، أو خشية قلة العناية والاهتمام.. وتتعدد الأسباب ويبقى هاجس الأم: من سيرعى طفلي في غيابي، وكثيرات لم يجدن طريقا للنجدة والخلاص سوى قلب تلك الإنسانة التي تمنح الحب بلا حدود. والدات تحت الطلب تجلس الحاجة فاطمة قرب سرير حفيدتها تحكي لها حكاياتها المشوقة قبل النوم. والتي لم تمل ندى من سماعها كل ليلة، حتى صارت تحفظ جزءا منها وهي التي لما يتجاوز عمرها السنتين والنصف، فحضور الجدة في حياة ندى ابتدأ منذ أكملت شهرها الثامن، حيث تعيش معها بعيدا عن منزل والديها، واليوم صار ارتباطهما وثيقا، تترجمه القبلات المتبادلة، والمداعبات الطفولية التي تضفي بريقا خاصا على البيت، فندى عاشت مع والديها إلى حدود الشهر الثامن، وبعد هذا التاريخ، اضطرت والدتها لتركها في بيت أسرتها، بمدينة القنيطرة، وتحكي أم ندى، فصول قصة افتراقها القهري عن ابنتها بنبرة متفائلة، مشوبة بإحساس شوق إلى احتضان ابنتها التي ستراها بعد يومين، فالسيدة كريمة، تعمل بالقطاع الخاص، وتقطن رفقة زوجها بحي شعبي بالرباط، اضطرتها ظروف مرض ابنتها، وعدم انسجامها صحيا مع جو الحضانة إلى الاستعانة بوالدتها الحاجة فاطمة لتتولى رعاية ندى، حتى يشتد عودها.. وتحكي كريمة، أنها لم تستطع في الأيام الأولى لفراق ابنتها تحمل الوضع، فأصابها اكتئاب وفقد للشهية، إلا أنها مع مرور الوقت، وتحسن حالة ابنتها، وانسجامها الكامل مع أفراد أسرتها، خفف من حدة وساوسها النفسية، بل صارت تشعر براحة تامة وهي ترى ابنتها تنمو في جو سليم، تحت رعاية والدتها التي أحيت فيها ندى ذكرات أمومتها الأولى.. حيث صارت الحاجة فاطمة، لا تخرج إلا برفقة ندى، تضحك عندما تكون ندى سعيدة، وتحزن عندما تصاب بمكروه، وتبتئس عندما تفارقها أيام العطل.. وهكذا أضفت ندى بحلولها في بيت جدتها سعادة لا توصف. ارتباط وثيق وحكاية كريمة لا تختلف كثيرا عن حكايات أخرى لسيدات أخريات، فضلن حضن والداتهن عن زوايا حضانات الأطفال، ومن بينهن السيدة رشيدة، عاملة بمطبعة للكتب، وضعت طفلتها في بيت أسرتها، ومكثت هناك طيلة شهور إجازة الوضع، حتى تعلقت والدتها بطفلتها، وصارت لا تتحمل الابتعاد عنها إلا للضرورة القصوى، بل لم تكن تترك المجال لرشيدة كي تقترب من المولودة إلا للرضاعة أو النوم، فكانت هي من تحملها، وتناولها رضاعة الحليب وتغير لها الحفاظات والملابس، وحتى الطفلة تحكي رشيدة صارت تبادل الجدة حبا بحب، ولا تنقطع أحيانا عن البكاء إلا بين يديها وهي تستمع إلى مناغاتها وأغانيها وتهاليلها الموزونة، وعندما انقضت شهور الإجازة.. لم تتحمل الجدة فراق الطفلة، سيما وأنها ولدت بعد فراق زوجها بأيام، فرأت فيها هبة إلهية خففت عنها أحزان ولوعة الفراق، وارتبطت بها ارتباطا عميقا.. ونظرا لاقتراب بيت كريمة من بيت والتها، وبما أن ظروفها المادية لم تكن تسمح لها بالاستعانة بمربية، أو إلحاق ابنتها بحضامة تتوفر على شروط الاهتمام والرعاية، فإنها فضلت بعد اتفاق مع زوجها، أن تمكث مع والدتها، وصارت لا تذهب إلى بيتها سوى في نهاية الأسبوع وأيام العطل، وعن هذه الأيام تقول جدة ياسمينة أتحمل فراق حفيدتي على مضض خلال هاته الأيام التي تطول لياليها ونهارها، ولا ترجع الابتسامة إلى البيت سوى بعودتها إلى حضني. لهلا يخطي علي الميمة أما سعاد، فتلخص قصتها في دعاء لهلا يخطي علي الميمة، فقد تولت مسؤولية تربية ولدها زكرياء، فرغم أن والدتها الحاجة عائشة، سيدة طاعنة في السن، ووزنها الزائد يعيق حركتها، إلا أنها كانت لولدها نعم الجدة فسعاد كما حكت لـالتجديد، ألحقت طفلها بحضانة قريبة من بيتها، وكان زكرياء يقضي طيلة يومه بالحضانة إلى حدود الساعة الخامسة مساء، ومرة عادت سعاد لتأخذ طفلها، فوجدته في حالة يرثى لها، حيث قام طفل أكبر منه بشهور قليلة بغرس انيابه في أماكن متفرقة من وجهه، والدماء تغطيه، منظر أدخل سعاد في حالة جنونية، تسب وتشتم وتتوعد، وبعدما هدأت، أخذت طفلها إلى البيت، وهي تحلف بأغلظ الأيمان أن لا تضع ولدها مرة أخرى في حضانة للأطفال قبل أن يكمل عامه الثالث، فعرضت على جارتها فكرة رعاية ابنها في غيابها مقابل مبلغ مادي، وعندما علمت والدتها بالأمر غبت منها، وطلبت منها حمل طفلها إلى بيتها لتعتني به، وهكذا، تنفست سعاد الصعداء، ولم تصدق خيرا كما يقول المثل، ومن الغد حملت ابنها وكل أغراضه في اتجاه بيت الجدة وصارت لا تراه إلا في عطلة نهاية الأسبوع، وأيام العطل الأخرى، ورغم بيت والدتها المتواضع، وصحة والدتها الضعيفة، إلا أن زكرياء ألف أخواله وخالاته، وصار جزءا من أفراد الأسرة من الذين لا يحلو المكان إلا بوجودهم. اضطرار وليس اختيار يجمع الأخصائيون النفسانيون أن وجود الأم في حياة الطفل خلال شهوره الأولى مهم لصحة بنيته النفسية، لكن الكثير من السيدات يرين أن ترك الطفل مع الجدة التي ترعاه بحب واهتمام، وتبذل من راحتها لأجل راحته، أهون لديهن من تركه في يد مربية أو خادمة قد تجهل الكثير عن أمور التربية، وقد تستهين بدورها في غياب عين المراقب، وكذلك أهون من تركه لحما طريا في حضانة للأطفال قد لا تتوفر فيها شروط العناية اللازمة..