طلع علينا المجلس الأعلى للحسابات، بتقريره السنوي لسنة 2010. وكعادته، فإن هذا التقرير جاء بمعلومات صادمة، ترسم «خريطة الفساد المالي» في مؤسسات الدولة والمجتمع، وتحدد مواطنه ومظاهره وآلياته وفاعليه. ولابد هنا من الإشادة بعمل هذه المؤسسة، التي تمكن بشكل مهني ودقيق من معرفة مواطن الخلل في عمل الدولة ومؤسساتها، يجعل منها نموذجا للمؤسسة المستقلة والجادة في عملها. ويأتي تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2010 في ظرفية خاصة، وهي ظرفية ما بعد الربيع العربي الذي كان للمغرب من أثاره الحظ الوافر، بما أحدثه في المشهد السياسي من تغييرات عميقة. وعلى رأس هذه الآثار وصول حزب العدالة والتنمية إلى مقاليد السلطة التنفيذية، وفق برنامج سياسي، شعاره الأساس محاربة الفساد، بكل أشكاله، بما فيها الفساد المالي وسوء التدبير والتبذير والاستغناء على حساب أموال الدولة. وبذلك، وفي ظل هذه الظرفية التي تشهد إلى حد كبير غلبة لقوى الإصلاح والتغيير، تحت الضغط الشعبي والثورات التي أطاحت بعدد من رموز الفساد ورمتهم في السجن في بلدان عربية أخرى، يمكن القول إن تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2010 يستفيد من هذه الظرفية العامة الشعبية والمؤسساتية الدافعة نحو الإصلاح والرافضة للفساد. وهو ما ولد إرادة عامة وقوية غير مسبوقة في محاربة الفساد، حيث لا توجد اليوم قوة في المغرب تستطيع الصمود أمام رغبة الشعب والدولة في الإصلاح وإعمال الحكامة والعدالة في عمل الدولة والمجتمع. وفي هذا الإطار، فإن الحكومة الجديدة انبثقت من صميم هذا الخيار الشعبي الذي أراد الإصلاح، وهي تعبير عن رغبته العميقة في العيش في مجتمع مختلف، مبني على العدل والمساواة. وهو ما يعطيها القوة الكافية والشرعية اللازمة لمحاربة هذا الفساد الذي ينهك إمكانيات الدولة، ويتسبب في التوتر الاجتماعي والتردي الاقتصادي. وفي هذا الإطار، فإن المحلل لمشروع الميزانية لسنة 2012 يلاحظ أن عجز ميزانية الدولة قد يتفاقم بشكل خطير تحت الضغوط الاجتماعية الداخلية أو الأزمات الاقتصادية والسياسية الخارجية، بما قد يستلزم في أي لحظة إعادة هيكلتها. وهو ما يجعل من الضرب بقوة على أيدي المتورطين في هذه الفضائح المالية والاقتصادية، والتي تنهك مقدرات الدولة وتبدد أموالها، ضرورة سياسية واجتماعية وأخلاقية عاجلة، من أجل إعمال مبادئ الحكامة والفاعلية، والتي تبقى الحل الأوحد والأخير أمام الدولة من أجل إعادة بناء مواردها وقدراتها. ولعلنا في هذه الظرفية أحوج ما نكون إلى إعطاء إشارات إيجابية وقوية لجميع الأطراف في اتجاه القطيعة مع منظومة الفساد التي أنهكت الوطن والمواطنين. فالمواطن كطرف أول في هذه المعادلة يعيش الاستياء والغضب ليس فقط لأنه يلاحظ يوميا مظاهر الفساد والتبذير المستشري لقدرات الدولة والمجتمع، بل لأن المتورطين لا تتم محاكمتهم ولا يخافون حتى السؤال. مما يولد إحساسا عميقا بالغبن وغيابا للعدالة، ويشجع على استشراء الفساد وتوسع رقعته. أما الطرف الثاني، فهم كل هؤلاء المسئولين على مصالح الدولة ومؤسسات المجتمع، الذين يجب أن تبعث إليهم رسائل قوية مفادها أن عهد الحصانة للفاسدين والمفسدين قد ولى، وأن المسؤولية مرهونة بالمحاسبة القاسية. وهنا يجب التنبيه على أن أزمة المسؤولية والقيم التي تعيشها مؤسساتنا بكل أصنافها هي نتاج لعقود طويلة من ثقافة مبنية على الزبونية والولاءات والهبات وتبادل للمصالح. حيث أنتج المجتمع مؤسسات تعكس هذه الثقافة، وتعيد إنتاج هذه القيم، بما في ذلك الأحزاب والجمعيات المدنية، والتي أظهر تقرير المجلس الأعلى للحسابات أنها لا تكترث هي أيضا لمبادئ المسؤولية والمحاسبة في استعمال المال العام. وهنا تصدمنا أرقام مزلزلة، حيث يبلغ عدد الجمعيات المستفيدة من أموال الدولة والتي لا تقدم أوراق أنشطتها ومحاسبتها 95 في المائة حسب الأرقام الرسمية. وبطبيعة الحال، فإن إعمال مبادئ الحكامة والمراقبة والتوثيق والمحاسبة، ستضطر هذه الهيئات المدنية والسياسية إلى مراجعة مبادئ وآليات اشتغالها، وستكون مجبرة على احترام قواعد الحصول على إعانات الدولة وصرفها. وفي إطار انخراط الحكومة في محاربة كل هذا الفساد المستشري، فإن تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2010 يدعمها في هذا المسار بالشرعية القانونية والمؤسساتية ويزودها بخريطة عمل وبدليل واضح على مواطن الفساد ومقالعه، بما سيمكن من حماية المال العام واقتفاء آثار مبدديه أمام القضاء من أجل استرجاعه، حيث لا يملك أحد حق التنازل عنه، كما وقع في الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون، والتي تخلت عن استرجاع ما يفوق 38 مليون درهما من الديون. ويجب في هذا السياق، القطع مع التماطل الذي عرفته ملفات الفساد طوال العقود السالفة، حيث يتم اجترارها حتى يطالها التقادم، ويفلت المتورطون من العقاب. وعليه، فإن التعامل بحزم مع الاختلالات المدمرة والممنهجة التي رصدها تقرير المجلس الأعلى للحسابات هو امتحان للتغيير الذي انخرط فيه المغاربة جميعا، بما يستوجب إعمال العدالة أمام القضاء، من أجل إعطاء إشارات قوية أن زمن الفساد والإفساد قد ولى، وأن عهدا جديدا قوامه المسؤولية والمحاسبة قد انطلق.