قيل الكثير حول زيارة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول لدمشق، لا سيما من زاوية التفاعلات الداخلية في الولاياتالمتحدة بين صقور يريدون استخدام العصا الغليظة مباشرة مع دمشق، وآخرون على رأسهم (باول) يميلون إلى الخيار الدبلوماسي. والحال أن قراءة الموقف على نحو دقيق قد تقول خلاف ذلك، فالصقور اليوم هو الأقوى داخل الإدارة بعد انتصارهم السهل في العراق ولو أرادوا موقفاً آخر لما صعب عليهم أخذه، ولما كان بإمكان وزير الخارجية أن يدفع في اتجاه مضاد. ما يمكن قوله إذن هو أن الصقور ومعهم الصهاينة قد مالوا إلى خيار الدبلوماسية في التعاطي مع دمشق من منطلق قراءة واعية للمشهد السياسي وتداعياته أمريكياً وإسرائيلياً. أمريكياً، يبدو النجاح في إدارة الشأن العراقي الداخلي وتجنب تحويل الانتصار هناك إلى ورطة هو الهاجس الأساسي لصقور الإدارة. ومن هنا يمكن القول إن الهاجس الأول في مباحثات (باول) في دمشق قد ركز على موقف سوريا من الداخل العراقي عبر إعطاء ضمانات واضحة بعدم التدخل، وبالذات نحو الدفع في اتجاه انطلاق المقاومة العراقية ضد القوات الأمريكية. ويشير السياق العام إلى أن دمشق قد قدمت بالفعل هكذا تعهدات، وهي ما يرجح أن تأخذ طريقها إلى التطيبق بالفعل وليس بالقول فقط. إسرائيلياً، يمكن القول إن وقف المقاومة هو الأمر المهم في هذه المرحلة، فضلاً عن التقدم صوب تسوية وفق التصورات الصهيونية، وهذه يصعب مرورها بوقوف دمشق العملي ضد برنامج "خريطة الطريق". على هذا الصعيد، يمكن القول إن من المرجح أن دمشق قد قدمت ضمانات مشابهة بعدم التدخل في الملف الفلسطيني عكس تيار "خريطة الطريق"، ولا شك أن تصريحات القيادة السورية حول القبول بما يقبل به الفلسطينيون تشكل دلالة واضحة على الموقف الجديد. أما الملفات الأخرى على طاولة المفاوضات بين دمشق و(باول) فلم تكن ذات أهمية كبرى، بل ربما جاءت على هامش الحديث، بما في ذلك ملف حزب الله، باستثناء تدخل هذا الأخير في الشأن العراقي، الذي يجب أن يمر من خلال سوريا في معظم الأحوال. هل يمكن القول بناء على ذلك إن دمشق قد خضعت للشروط الأمريكية، وقدمت ما تطلبه واشنطن من خلال عصا التهديد، ومن دون الحاجة إلى اللجوء إلى لغة القوة، وهل يمكن القول إن الرضا قد حل على سوريا وإن استهدافها قد غدا مستبعداً؟ بالنسبة للملف العراقي، ليس من العسير القول إن تراجع دمشق عن الدفع باتجاه إطلاق مقاومة ضد القوات الأمريكية قد شكل تراجعاً، بيد أن بالإمكان القول أيضاً إن ذلك لن يشكل ضمانة لعدم انطلاق تلك المقاومة في حال نضجت ظروفها، ذلك إن الإمكانات الذاتية للشعب العراقي ومعها خطوط الإسناد الأخرى قد تكفي في المرحلة الأولى لإدخال الوجود الأمريكي في مأزق، كمحطة لتراجع السطوة الأمريكية العاتية، ومن ثم البدء في توفير الدعم اللازم لاستمرار تلك المقاومة وصولاً إلى انتصارها. فلسطينياً، لا تبدو دمشق قادرة في كل الأحوال على وقف مسيرة "خريطة الطريق"، كما لم تكن قادرة في السابق على وقف مسيرة (أوسلو) حين كانت قادرة على مواصلة المسير في سنوات 97 وصولاً إلى أيلول عام 2000، أي تاريخ اندلاع انتفاضة الأقصى. إن استمرار عمل المقاومة بشكل مؤثر يحتاج قبل موقف دمشق ودعمها إلى إجماع وطني، وضمانة بعدم التعاون الأمني من طرف السلطة مع الاحتلال، إضافة إلى قدرات معقولة يمكن القول بسهولة إنها تراجعت بفعل شدة الضربات التي تلقتها حماس والجهاد والقوى الأخرى، على اعتبار أن فتح ستنسجم مع الواقع الجديد. ومن هنا يمكن القول إن قوى المقاومة ستميل في معظم الأحوال إلى التهدئة بهدف تجنب الاصطدام بالسلطة، حتى لو واصلت تلك القوى الفعل بوتيرة أقل وبنوعية معينة، مع محاولة استثمار الوقت في لملمة الصفوف من جديد. من جانب آخر، ليس من العسير القول إن مطالب شارون من "خريطة الطريق" والتعديلات التالية قد تعطلها، وإذا لم تفعل فإن الاصطدام بجدار الاستحقاقات السياسية التالية سيكون مؤهلاً لذلك، ما يعني أن العودة إلى خيار المقاومة هو المرجح، لا سيما إذا ما بدأ الوجود الأمريكي في العراق في التحول إلى مأزق باندلاع المقاومة التي تحاكي التجربة اللبنانية والفلسطينية، فيما لن تجد هذه الأخيرة بداً من التصعيد من جديد بعد الحصول على إجماع وطني ودعم شعبي داخلي وعربي وإسلامي أيضاً. إذا لم يحدث ذلك كله ونجح الأمريكان فإن من المحتمل أن تدخل سوريا في مأزق، حيث تبدأ الإملاءات بالهبوط تباعاً وصولاً إلى مدى لا حدود لسوئه، بيد أن مختلف المؤشرات، المحلية العراقية على وجه الخصوص، ومعها العربية الشعبية، فضلاً عن الظروف الدولية، تقول بخلاف ذلك، ما يعني أن التراجع السوري قد يكون عادياً، حتى لو كان مخالفاً للروح المبدأية التي تتمناها الجماهير. ياسر الزعاترة