عين الرئيس الأمريكي جورج بوش كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي للبيت الأبيض سابقا وزيرة للخارجية خلفا لكولن باول الذي قدم استقالته في مطلع هذا الأسبوع، وترافق ذلك مع موجة من الاستقالات في الإدارة الأمريكية شملت عددا من المسؤولين بينهم باول نفسه. هذه الاستقالات التي بلغ عددها ستة من أصل 15 وزيرا، هي الأكبر من نوعها في تاريخ الإدارات الأمريكية، والتعيينات الجديدة في الإدارة الجمهورية الثانية، والتي على رأسها تعيين رايس مسؤولة عن السياسة الخارجية للإدارة تشير إلى أن هناك تحولات بارزة مرشحة لتقع في أجندة الرئيس الأمريكي وفريقه الحاكم، بعد فوزه بولاية ثانية قبل أسابيع، وما أشاعه ذلك الفوز من ارتياح في صفوف المحافظين والمتشددين داخل الإدارة الأمريكية والحزب الجمهوري الحاكم، وثقة في إمكانية الاندفاع باتجاه استكمال ما بدأه جورج بوش خلال ولايته الأولى التي امتدت من العام .2001 لماذا تعيين رايس؟ خلال السنوات الأربع الماضية من الولاية الأولى لجورج بوش، ظل وزير الخارجية المستقيل كولن باول محسوبا على تيار الحمائم داخل الإدارة الأمريكية، كما جرى الاصطلاح على ذلك، في مواجهة تيار المتشددين أو الصقور الذين يمثلهم على وجه الخصوص نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس وآخرون. وقد كان هذان التوجهان في الإدارة الأمريكية يمثلان وجهتي نظر متقابلتين في التعاطي مع القضايا العالمية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، إذ كان باول يميل إلى خيار الحوار والاعتدال في التعامل مع الأزمات الدولية الكبرى التي اندلعت في تلك الفترة، من مثل الحرب على العراق، حيث كان باول أحد المعارضين لخيار العنف واستخدام القوة العسكرية، قبل أن يتراجع في الأخير إثر الضغوط التي تعرض لها من التيار المتشدد القوي في إدارة جورج بوش، وكذا الأزمة مع إيران بشأن برنامجها النووي، ومع كوريا الشمالية حول برنامجها النووي أيضا، حيث ظل باول يتشبث بخيار التعاطي السلمي المبني على الحوار لحل هاتين الأزمتين، خلافا لوجهة النظر الأخرى التي كانت تدفع في اتجاه التصعيد واللجوء إلى القوة العسكرية مع إيران وكوريا الشمالية. ولا شك أن الاختلافات التي كانت تنشب داخل الإدارة الأمريكية بين الفريقين كانت تعطل بشكل أو بآخر تنفيذ البرامج التي تسطرها الإدارة الأمريكية، وتستنزف الكثير من الوقت، بسبب انتظار تغلب وجهة نظر على أخرى، وهو ما كانت تدركه إدارة بوش وتيار الصقور المتشددين أثناء الولاية السابقة، خاصة مع اقتناعهم بأنهم في مرحلة حرب ضد الإرهاب الدولي منذ تفجيرات 11 شتنبر 2001 ومن ثمة أهمية درء الاختلافات الداخلية. وقد سعى الرئيس الأمريكي في مستهل ولايته الثانية هذه، إلى تجاوز مثل هذه الثغرات، من خلال الإقدام على تطهير إدارته من العناصر المحسوبة على الحمائم الذين كانوا بمثابة كوابح في الطريق إلى تطبيق سياسته الخارجية، وتحقيق أكبر قدر من الانسجام في الفريق المحيط به. وتشير التعيينات الجديدة التي شملت عددا من كتابات الدولة في إدرة بوش، إلى أن هذه الأخيرة ستصبح أكثر تشددا وأكثر انسجاما في مواقفها حيال القضايا الدولية الموضوعة حاليا على مكتب الرئيس الأمريكي، بل إن السياسة الخارجية الأمريكية في الفترات المقبلة مرشحة لمزيد من الأحادية، إلى حد القول بأن الولاية الثانية لبوش هي الولاية الحقيقية للمحافظين الجدد، بدون عوائق. وتعتبر كوندوليزا رايس أحد المسؤولين الأمريكيين الأكثر قربا من جورج بوش وانسجاما مع خطه السياسي، إذ هي تنتمي إلى التيار المتشدد ولها علاقات قوية بالمحافظين الجدد واللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتعتبر بحسب المحللين الأمريكيين الصورة المطابقة تقريبا لوزير الخارجية الأسبق في إدارة بيل كلينتون مادلين أولبرايت التي كانت أكثر تطرفا من ناحية القضايا العربية والإسلامية لجذورها اليهودية وعلاقاتها الوطيدة مع المنظمات الداعمة للكيان الصهيوني في أمريكا، ذلك ان والد أولبرايت نفسه الذي كان أستاذا للسياسة الخارجية هو الذي أقنع كوندوليزا رايس عندما كانت طالبة لديه بالاهتمام بالسياسة الخارجية بدلا من العزف على البيانو، وهو ما يقول المحللون الأمريكيون بأنه سوف يترك الكثير من البصمات عليها في تعاملها مع الأزمات الدولية. مستقبل المنطقة العربية وما دام القسط الأوفر من اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية موجها بالتحديد إلى المنطقة العربية والعالم الإسلامي، ومنطقة الشرق الأوسط أساسا، يصبح منطقيا البحث عن تداعيات وتأثيرات التعيينات الجديدة على السياسة الخارجية لإدارة بوش تجاه القضايا العربية في المرحلة المقبلة، وقياس حجم التحولات فيها بمواقف أقطاب صانعي القرار الأمريكي المحيطين ببوش، وعلى الأخص كوندوليزا رايس والفريق الذي سوف يعمل معها. ومن اللافت أن الولاية الثانية لجورج بوش، وتعيين رايس على رأس الخارجية، قد تزامن مع حدثين بارزين في الساحة العربية: الحدث الأول هو رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ودخول القضية الفلسطينية مرحلة جديدة بعد غيابه لا تزال معالمها لم تتضح بعد، وظهور ما يشير إلى أن الإدارة الأمريكية عازمة إلى وقت غير معلوم على الضغط في المرحلة القادمة على الفلسطينيين والقيادة الفلسطينية الجديدة بعد غياب الزعيم الكاريزمي الذي كان يستطيع قوللا في وجه الإدارة الأمريكية وحشد الفلسطينيين بجميع أطيافهم حوله. الحدث الثاني هو ما جرى ويجري في الفلوجة ومناطق أخرى من العراق، يشير كله إلى نهج جديد لدى الإدارة الأمريكية في ولايتها الثانية في التعاطي مع الأزمة العراقية والحرص على إنهائها في أسرع وقت ممكن، مما يعني أنها أصبحت في سباق ضد الساعة قبل موعد الانتخابات، خوفا من استراتيجيتها في العراق والمنطقة. وبين هذين الحدثين البارزين، هناك الأزمة السودانية المتفجرة، وعلى الصعيد الإسلامي هناك الملف الإيراني والملف الأفغاني والسوري واللبناني. وتنطلق رايس في مواقفها إزاء القضايا العربية بأكملها من مبدإ أن خيار التشدد والردع هو الخيار الأفضل في التعاطي معها. ففي الأزمة العراقية ترى أن الحل هو استخدام القوة العسكرية لإنهاء ما تسميه الإدارة الأمريكية بأعمال الإرهاب هناك، و تنظر إلى البؤرة العراقية على اعتبار أنها حالة نموذجية يتوقف على نجاحها نجاح المبادرات الأمريكية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وكانت قد كتبت في العام الماضي مقالا مطولا بجريدةالوشنطن بوست الأمريكية تحت عنوان: عملية التحول في الشرق الأوسط قالت فيه إن هناك ألمانيا جديدة توشك أنْ ترى النور في أرض الرافدين، بفضل الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة لإطاحة نظام حكم الرئيس العراقي صدام حسين، وإن العالم العربي، الذي يقدر سكانه ب300 مليون نسمة ويقل الناتج القومي الإجمالي لدوله عن الناتج القومي لإسبانيا التي يبلغ عدد سكانها 40 مليون نسمة فقط، يمكنه أنْ يغتنم هذه الفرصة التاريخية، التي أتاحها الاحتلال الأميركي للعراق، فيسير في طريق الديمقراطية والازدهار الذي سارت فيه من قبل شعوب أوروبا حتى بلغت، في الاتحاد الأوروبي وبفضل الدور المهم لألمانيا، تلك المنزلة العالمية المرموقة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. أما القضية الفلسطينية فهي مرشحة لأن تشهد المزيد من التصلب الأمريكي في المرحلة القادمة، إذ لن يبقى مطروحا ما يسمى بمبدإ بوش المتعلق بقبول دولة فلسطينية في العام القادم، أو ما كان يدعىوعد بوش، بل المطروح اليوم هو تكثيف الضغط على البيت الفلسطيني ومنح الدولة العبرية فترات استدراك بناء ما هدمته الانتفاضة عبر شغل الفلسطينيين في معارك داخلية والضغط من أجل نزع سلاح المقاومة الفلسطينية وإيقاف الانتفاضة وإصلاح مؤسسات السلطة الفلسطينية قبل البحث في أي مفاوضات بشأن الدولة الفلسطينية الموعودة. وما يعكس ذلك على الخصوص، حرص رايس وعدد من المحافظين الجدد بينهم ريتشارد بيرل، المستشار السابق في مجلس الدفاع التابع للبنتاغون وأحد أكبر حلفاء االدولة العبرية في واشنطن، يحاولون ترشيح دانيل بليتيكا، نائبة رئيس معهد أميركان انتربرايز، لتحل محل ويليام برينز كمساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الاوسط، وهي معروفة بشدة كراهيتها للعرب والمسلمين ودفاعها المتشنج عن اليمين الإسرائيلي، وتبريراتها المتكررة لغزو العراق والحروب الاستباقية الأميركية في العالم الاسلامي. إن هذه المعطيات تجعل الملاحظ لمسار السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العرب والمسلمين يتساءل: هل ستكون أيام كونداليزا رايس في الخارجية الأمريكية سوداء على العرب؟ إدريس الكنبوري