في عالم واحد نتأثر فيه بالعولمة وتيارات الفكر والحركات الناشطة في شتى المجالات يصبح لزاماً علينا المتابعة الدقيقة لما يجري حولنا، وليس هذا التقرير من قبيل "ها هو الغرب قد أدرك خطأه!!" فالأمر ليس كذلك ومراجعات التيارات الغربية تتم من قبيل النقد الذاتي لتطوير رؤيتهم ومنهج حياتهم ومجابهة المشكلات الواقعية مع البقاء على أرضية العلمانية لا يغادرونها، لكن قراءة ما يكتبون مفيدة وكاشفة كي نتعلم من أخطاء غيرنا وربما نستفيد من قدرتهم التي لا تنكر على النقد الذاتي الذي لا تجيده التيارات العلمانية العربية ولا تريده ..وتتجاهله بإباء وشمم! المهم..فلنقرأ أحدث إصدارات جيرمين جري -داعية تحرير المرأة في أوج الثورة الجنسية في بريطانيا- وبيتي فريدان -رائدة تحرير المرأة في الولاياتالمتحدة في ذات المرحلة- وماذا يكتبون بعد ثلاثة عقود أو تزيد من تلك الثورة النسوية والجنسية، علماً بأن هذين الكتابين تعرضا لتعتيم كامل في الكتابات النسوية العربية (منتهى الموضوعية والثورية!). المرأة الكاملة ومستقبل الجنس: صدر عام 1999 كتاب جديد للكاتبة البريطانية جيرمين جرير Germaine Greer وهي من أبرز كاتبات تحرير المرأة في بريطانيا، وكان كتابها الشهير "الإخصاء النسائي" Female Eunuch إبان الثورة الجنسية أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات قد أثار ضجة لجرأته في الحديث عن المرأة والجسد والجنس. عرضت جيرمان جيرير في كتابها "المرأة الكاملة The Whole Woman " وجهة نظرها بأنه وفقًا لمعايير الجنس فإن ممارسته ستكون في الألفية القادمة عبر أشكال تجارة الجنس المختلفة المرئية والمطبوعة وغيرها، وأن المرأة ليست هدفًا لمثل هذه الوسائل الإباحية، بل إن هذه الوسائل هي طريقة للهروب من المرأة، وهي وسيلة الرجال لرفض النظر للجنس كوسيلة للاتصال أو التقارب أو أساس لعلاقة مستقرة بين الرجل والمرأة، وهو رفض في حقيقته لمسئولية العلاقة تجاه المرأة ولتحمُّل أعباء الأبوة، و ناقشت الكاتبة فكرة أن يكون الضحايا في هذه الأنماط الإباحية هم الرجال وليس النساء فقط. كما ناقشت فضلاً عن ذلك- مسألة حلول هذه الأشكال الإباحية والأنوثة المتخيلة Virtual محل المرأة كجسد، بل والأكثر من ذلك إنها ذكرت أن العادة السرية رغم كونها ميسورة للمرأة كما للرجل، فإن المرأة تظل في احتياج أو أنها تعتقد أنها بحاجة للاتصال الجنسي الفعلي مع الرجل، وبذلك يتحقق لها شعور كامل بالمتعة، وعلى ذلك فإنه كلما زادت حاجة المرأة لإقامة علاقة فعلية مستقرة وعاطفية آمنة مع الرجل أكثر من حاجة الرجل فإن هذا يعد خسارة في غير صالح المرأة في إطار عملية وصفتها بالتفاوض الجنسي. ومن جانب آخر احترمت الكاتبة الرأي القائل بأن الأسرة البيولوجية (المكونة من الأم والطفل) هي كيان ضعيف يحتاج للدعم والحماية، وأن الأمهات بحاجة لمن يعينهن على البقاء ماديًّا وذهنيًّا وروحيًّا، ويتوقع في المجتمع الغربي أن يكون الشخص الذي يمد الأم بهذه الأشياء هو الزوج أو الأب، ولكن ذلك يتوقف فقط على اختيار الرجل الآن وليس على التزام قانوني أو أخلاقي، وقد أعطت أرقامًا للأسر التي يعولها أحد الزوجين بمفرده (بسبب الطلاق أو الانفصال) ففي عام 1971 كان من بين كل 12 أسرة بريطانية أسرة واحدة يرأسها أحد الزوجين بمفرده، وفي عام 1986 كانت واحدة من بين كل سبع أسر، وفي عام 1992 كانت أسرة من بين كل خمس أسر، وشكلت الأمهات 91% من حالات مثل هذه الأسر (ومعظم هؤلاء الأزواج منفصلون أو مطلقون أو أرامل)، و35% من هؤلاء لم يتزوجوا، و10% تحت العشرين، بجانب أن واحدا من كل ثلاثة مواليد في إنجلترا وويلز هو ابن لعلاقة غير شرعية، وكنتيجة لذلك فإن بريطانيا بالرغم من ارتفاع مستوى المعيشة بها، فإن واحدا من كل أربعة أطفال ينشأ في حالة فقر؛ حيث إن أمة لا تستطيع توفير المال الكافي لإعالته. وناقشت الكاتبة اقتسام علماء السوسيو-بيولوجي (دراسة المساحات المتقاطعة بين البيولوجيا والظواهر الاجتماعية) في سعي الرجل بكل وسيلة للاختيار الجيني، ويخبرنا علماء السوسيولوجي بأن النظم الأبوية التي كانت تحكم المرأة قد تقلصت، ولكن ذلك يظهر n حتى للمراقب الساذج n أن الرجال معنيون بالمراوغة في تحمل أعباء الأبوة التي تبقى على الاعتراف بالأبناء، وفوق ذلك فإن الأب الجيني لا يجبر على توقيع شهادة الميلاد لهذا الطفل. وقبل أيام قليلة، أعلنت حكومة حزب العمال أنه من الآن فصاعدًا، فإن الآباء غير المتزوجين الذين وقعوا على شهادة الميلاد سيكون لهم ذات الحقوق القانونية فيما يتعلق بأبنائهم تمامًا مثل الآباء المتزوجين من أمهات مثل هؤلاء الأطفال، وفي عام 1998 قلَّ عدد النساء اللاتي يقدمن على تقييد اسم الأب في شهادة ميلاد الأسماء عن أي وقت مضى من قبل، ويبدو تزايد ملحوظ في هذا الاتجاه المعادي لدور الأب رغم المعاناة التي تقاسيها المرأة/الأم الوحيدة التي تعول، وذلك من تأثير الحركة النسوية التي أوحت للمرأة أن أي تدخل للرجل سيكون على حساب استقلالها. وتشير الكاتبة إلى أن الرجال يتساوون في عدم اهتمامهم أو رغبتهم في تحمل مسئولية علاقاتهم الجنسية، والبعض منهم يختار أن يجهل كل شيء عن الأم والطفل، وذلك بأن يتبرع لبنك الحيوانات المنوية بسائله المنوي، ونتيجة لذلك يولد في نهاية القرن العشرين آلاف من الأبناء الذين لا يسمح لهم بالتمكن من معرفة الأب الجيني. جيرمان تؤكد على أن المجتمع الذي يسمح بحدوث ذلك الأمر لا يأخذ في اعتباره أن الأبوة مستلزمة لإنبات أي علاقة على الإطلاق. أما في الولاياتالمتحدةالأمريكية فإن الرجل الذي يتبرع بحيوان منوي لإخصاب امرأة يعرفها وبناءً على طلبها، فإنه يتحمل المسئولية القانونية تجاه هذا الطفل لمدة عشرين عامًا على الأقل، ولكن الأم التي تحصل على حيوانات منوية لتتم حملها " المستقل" لشخص غير معروف للهيئة الطبية المسئولة لتستخدمه إذا ما رأته مناسبًا دون استشارة ذلك الشخص، فإنها تعمل على ألا يتحمل هذا الشخص أي مسئولية قانونية تجاه هذا الطفل الذي يولد من جيناته، وفي المقابل فإن الرجل الذي يتصل جنسيًّا بالمرأة دون اتخاذ الحذر اللازم لمنع الحمل ربما يدعي بأنه لم يكن له النية في أن يصبح أبًا. وأخيرًا علقت الكاتبة على أن هذا المجتمع هو نفسه المجتمع الذي يواصل الصياح حول دور الرجل في حياة الأسرة، وذلك وقبل كل شيء- يمارس تمييزًا ضد النساء اللاتي وجدن أنفسهن يقمن بتربية الأطفال دون تعاون من جانب الآباء. وفي النهاية نستطيع أن نوجز وجهة نظر الكاتبة في نقطتين أساسيتين: ففي البداية، ترى الكاتبة أن الرجال قد استخدموا الثورة الجنسية لممارسة الجنس سواء مع استخدام وسائل منع الحمل أو عدم استخدامها دون تحمل أعباء سابقة، وذلك بإنكار رغبتهم في أن يصبحوا آباء، ثم استطاعوا أن يتخلصوا من حيواناتهم المنوية أيضًا دون تحمل أعباء سابقة، وذلك بالتبرع بها لأي جهة طبية وإضفاء أسمائهم، وحسب ما نفهم فإن الكاتبة مهتمة بالدرجة الأولى- بمن يدعم المرأة جسديًّا وذهنيًّا وماليًّا بالأساس وفي هذا الجانب تأخذ مسألة تربية الطفل في بيئة فقيرة n بغض النظر عن حالته الروحية (النفسية)- كمثال- بل وما هو أكثر أهمية وهو معرفة سلالتهم الجينية. وأخيرًا، فإن الكاتبة عنيت بتزايد وسائل تجارة الجنس المرئي منها والمطبوع وغيرها التي تقلل من أهمية وجود المرأة ماديًّا في حياة الرجل، كما عنيت وبقدرة أقل على الاكتفاء بوسائل تجارة الجنس لإشباع رغباتها الجنسية، وفي رأيها أن ذلك يحط من قدرة المرأة التفاوضية في علاقاتها الجنسية مع الرجل (وكأن التفاوض بين المرأة والرجل هذا انحصر في الجنس، لكن لا بأس، أفضل في نظرنا من لا شيء!!). أما بيتي فريدان التي أطلقت بكتابها في أمريكا The Feminine Mystique شرارة حركة تحرير المرأة الثانية في الولاياتالمتحدة في الستينيات والتي أسست مع أخريات المنظمة القومية للمرأة اختصارها NOW أي (حقوقنا الآن) كتبت في 1998 كتابًا تم التعتيم عليه ولم يعرض في مجلات عروض الكتب الأجنبية ذاتها إلا نادرًا وباقتضاب شديد. في كتابها الأخير Beyond Gender ، أي "ما بعد الجندر" .. أو يمكن ترجمته أيضًا: "تجاوز الجندر" تعترف بيتي فريدان بالتناقض والتعارض الذي أفرزته النسوية، فحقوق النساء تم اكتسابها على حساب الرجل، فالرجال يفقدون فرص العمل والدخل لصالح النساء في كل المواقع الإدارية والتنفيذية، ولا يعني هذا العودة للجمود والأمر القائم، فقد كانت خرائط المجتمع والاقتصاد ترسم على يد الرجال، بل تم فصل بيتي فريدان من عملها كصحفية في الخمسينيات عندما كانت حاملا في طفلها الثاني، وفُرض عليها فقدان وظيفتها والانتقال لضاحية أفقر كتبت فيها كتابها الذي فجر سخط النساء وثورتهن في الستينيات، وتلاحظ بيتي فريدان أنه كان هناك اختلاف فمنذ البداية بين صفوف النسويات، فهي كانت تهدف لتوسع الخيارات أمام النساء في حين كان للبعض من معاصريها من النسويات أجندة مختلفة، فبدلاً من أن تضع المرأة الأسرة والأطفال أولاً وضعت النساء أنفسهن أولاً: وبدلاً من أن يتم إصلاح الميزات ومقاومة المظالم قامت الحرب بين الجنسين والتي طغت فيها النساء وأسأن مثلما أسيء إليهن ابتداءً وكانت النتيجة تخلي الرجال عن مسئولياتهن، فعندما يعاني الرجل تعاني الأسرة أيضًا، وحين يتخلى الرجل (أو يُخلّى ويهمَّش) تعاني النساء معاناة جديدة مضافة. تصف بيتي فريدان العلاقة بأنها كانت "سياسة الكراهية" التي تنامت واستعصت على السيطرة وتتساءل يا ترى كيف تحولت النسوية إلى حركة مصلحة مغايرة للمصلحة العامة وبذا انقسمت أمريكا إلى جلسة صراع بين قبائل بعد أن تفتت المجتمع وفقد بالنسوية خيطه الناظم بعد أن دمرت النسوية المجتمع والجماعة الوطنية. والآن على بقايا أطلال هذا المجتمع تقف بيتي فريدان لتنادي بتحول في النموذج المعرفي Paradigm shift ليتم تجاوز الوعي بالنوع والهوية الجنسية إلى رؤية جديدة للتحرر تجمع الرجال والنساء معًا لتحقيق الصالح العام، هذا الصالح العام الذي تراه الآن فريدان في دعم الأسرة واسترداد المجتمع المتماسك المتراحم، هذه العودة التي تنظر لها بعض النسويات اللاتي يسرن بالدفع الذاتي ويرفضن المراجعة والتقويم باحتقار واشمئزاز بالغ. دروس كثيرة من هناك ومن واقعنا، وما زال طريق المرأة العربية طويلاً نحو حرية حقيقية ترد لها كرامتها وفي الوقت ذاته تبني ولا تهدم المجتمع فوق رؤوس الجميع. والله المستعان! قراءة: ريهام محروس-هبة رؤوف عزت