ادريس بن الضاوية من دلائل عظمة قدر هذه الأمة عند باريها ،وشواهد علو مرتبتها عند منشئها، أن اختار الله لها أفضل رسله وأزكى أنبيائه الذين لم يعرف العالم كله أعبد منه، ولا أتقى منه، ولا أنفع للخلق منه، وقد زكاه الله عز وجل في مواضع كثيرة أبانت عن نباهة قدره صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته عند الله وعند ملائكته وعند كل أفراد هذا الوجود. ولعظم هذا العطاء وهذا التسخير استفدنا استفادات كثيرة وحصلنا على رتب عديدة نتشرف بها في الدنيا ونعلو بها أمام الملإ يوم لقاء الله عز وجل. فائدة الخيرية: فمما استفدناه من بعثته صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل جعلنا خير أمة على الإطلاق أخرجت لهذا العالم، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه في قوله (كنتم خير أمة أخرجت للناس) أي كنتم قبل وجود الأمم وبعد وجودها، وستبقى هذه مكانتكم مادمتم متحققين بشرط هذا الإخراج، التي هي الإيمان بالله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا» فالأولون في الزمن والآخرون في القدر والرتبة يوم القيامة، وجاء في الأثر: إنكم موفون مائة أمة أنتم أكرمها على الله عز وجل، فهذه استفادة عظيمة ينبغي أن نشكر الله عليها ونثني عليه بسببها ونحقق سبب استمرارها، ينبغي للمسلمين الآن أن يحافظوا على قدر طاقتهم ووسعهم على هذه الخيرية بالإيمان الكامل بالله والتصديق التام برسوله صلى الله عليه وسلم وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فهذه الاستفادة ليست سهلة، ولا ينبغي أن تحسب هينة، وينبغي للأمة في جملتها أن تحققها، وقد رأيتم كيف اندحرنا في هذا العالم في هذا الزمن بسبب بعدنا عن هذه الخيرية ،ورفضنا لهذه النعمة التي أكرمنا الله بها، والتي كان أهل العقل في الأمم السابقة عندما يطلعون على أوصاف هذه الأمة في كتبهم يتمنون لو أنهم كانوا في أفرادهم حتى إن موسى عليه السلام لما أخبر بعظم قدر هذه الأمة رجا أن يجعله الله عز وجل فردا فيها وأحد أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله لم يشأ له ذلك، لأن قدره كان أن يبعث إلى بني إسرائيل بالتوراة ويذكرهم بمعايبهم وينبههم إلى أسباب سعادتهم، وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم «أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى، والذي نفسي بيده لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي» أي لا يهنأ ولا يرتاح إلا باتباعي وانتهاج سبيلي، لكن للأسف الشديد أضعنا كتاب ربنا، ونسينا فضل رسولنا، واتبعنا اليهود والنصارى في كل شيء، فأذلنا الله وأخزانا كما أذل بني إسرائيل، الذين أكرمهم الله بفضل من عنده بالمن والسلوى، لكنهم تمنوا الأدنى وسألوا موسى أن ينزلوا مصر من أجل الفوم والعدس والبصل فقال الله عز وجل لهم مبتكا إياهم (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) وكان عاقبة هذا أن ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، فنحن والحق يقال شابهنا اليهود في هذا الوصف حيث تركنا الخيرية وأسبابها ورضينا بالذل والهوان الذي أضعنا به كرامتنا وعزتنا وشهودنا على غيرنا، فاحتقرنا غيرنا واستباح بعض ما عندنا، بل استباح كل شيء عندنا. فائدة وضع الإصر والأغلال عن المسلمين: واستفدنا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أكرمنا بأن وضع عنا الإصر والأغلال التي كانت على الذين من قبلنا، كما حكى الله عز وجل عن رسوله في قوله: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) فشريعتنا سمحة وسهلة، ونبيناصلى الله عليه وسلم اجتهد وسعه بأن تبقى هذه السماحة والسهولة عامة في أحكام الشريعة كلها، فالكل يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرض الله عليه خمسين صلاة ليلة المعراج ظل يراجع ربه من أجل أن يخفف من هذا التكليف الذي كان خمسين صلاة من أجل اليسر والتيسير على هذه الأمة، وفعل ذلك بإشارة موسى عليه السلام الذي قال له: يا محمد لقد خبرت بني إسرائيل حيث تميزوا بأوصاف مذكورة في القرآن الكريم، قد أكرم الله هذه الأمة بإبعادها عن بعض أوصافهم، كالعناد وغيره، لكنهم كانوا أقوياء، ومع ذلك عجزوا عن بعض الطاعات فبعد طول مراجعة جعلها الله خمسا بدل خمسين، ولكنه جعلها كأجر خمسين لأن الحسنة في هذه الأمة بعشر أمثالها، ثم كان يقول عليه الصلاة والسلام «ذروني ما تركتكم عليه إنما هلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» وكان لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكان لا يحب أن يفتضح أحدا، وكان إذا سمع من أحد شيئا لا يجابهه بل يصعد المنبر ويقول :ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، وكان يرجو دائما الستر على الناس من باب الرحمة والشفقة، وقد ذكر الله في أواخر سورة التوبة آيات معبرات (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رؤوف رحيم) ومعنى عزيز عليه ما عنتم أي أن تقعوا في العنت وتقعوا في الضيق، ويدل على ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم رغم حرصه على هداية الناس قال:إن بعضكم يتفلت مني، وقال: مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فجعل الفراش والجناذب يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، ولكن تنفلتون مني» وهؤلاء المتفلتون في اصطلاح النبي صلى الله عليه وسلم هم الخارجون عن بعض هديه، فهؤلاء لم ينسهم النبي صلى الله عليه وسلم بل ادخر لهم عطية أعطاها الله له من أجل أن يتسع عدد أفراد أمته أعطاه الله دعوة مستجابة يدعو بها بالذي يشاء، لكن النبي صلى الله عليه وسلم فكر وقدر ورأى أن أحوج الناس إلى هذه الدعوة هم الذين تخلفوا عن الاستجابة لبعض هديه، فقال صلى الله عليه وسلم «لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبئت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله كل عبد مؤمن لم يشرك بالله شيئا. والعاقل المؤمن الذي يعلم قدر النبي صلى الله عليه وسلم عندما يسمع هذا يهتز شوقا إلى هذا النبي الكريم، الذي لايسخر دعوة يدعو فيها لنفسه أو لبناته أو لمستقبله الدنيوي أو لمتعه التي يرتجيها أكثرية الناس، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل، من أجل أن يكرم المحتاجين الذين خرجوا عن نهجه، خرجوا عن بعض هديه هؤلاء لم ينسهم النبي صلى الله عليه وسلم. فائدة ستر العيوب والذنوب: واستفدنا من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ستر عيوبنا فلم يفضحنا بين الأمم كما فضح السابقين. ومن قرأ كتاب الله عز وجل يرى فضيحة بني آدم ويرى فضيحة قوم نوح وفضيحة قوم إبراهيم وفضيحة قوم موسى وعيسى وقوم شعيب وباقي الأنبياء، ونحن ستر الله علينا ببعثته لأن الله عز وجل جعل رسالته خاتمة، ولو أن كتابا كان سينزل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لامتلأت بعض صفحاته بجرائم هذه الأمة التي فاقت الحد، والتي لم تترك شيئا حرمه الله عز وجل إلا وواقعته، وليخرج الواحد منا للشوارع ويتنقل في المدن الإسلامية ،ولينظر للمناكر التي فيها، وليقارنها بالأحكام التي في كتاب الله عز وجل، فقد استباح الناس الزنى واستباحوا القمار، بل إن القمار أصبح أمرا عاديا ومرخصا له، والآن يناقشون توسيع استهلاك الخمور لأن المنتجين يقولون أن هذا النوع من الترخيص يحد من شيوع الخمر، فيطلبون الدعاية الواسعة في الجرائد والمجلات والتلفزيون وغيره، ويطلبون توسيع الاستهلاك بتوسيع مجال الرخص، ولم يكفهم هذه المناكر الواقعة الآن نتيجة الخمور، بل يريدون توسيع الدائرة، فأي واحد أراد الرخصة لدخول جهنم يعطونه إياها دون بأس، وقس على ذلك باقي المحرمات والمنكرات ، فقد صارت مباحة، وكلها صارت معلنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فائدة عدم الإجتماع على الضلالة ولا يسلط على المسلمين البلاء ثم استفادت هذه الأمة أن الله عز وجل لا يجمعها على ضلالة وستبقى فيها إلى يوم القيامة طائفة ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، فتجد في بلد واحد أناس شادين وعاصين حتى تقول أنه لا يوجد إسلام، ولكن تجد في هذا المجتمع الركع والسجد، وتجد المزكين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار والصائمين، من أجل أن يكونوا حجة على غيرهم ، فهذه الأمة أكرمها الله بأن لا تجتمع على ضلالة. واستفادت هذه الأمة من بعثة هذا الرسول الكريم أن الله عز وجل لا يصيبها ببلاء عام ولا يسلط عليها عدوا من غيرها، إلا إذا تقاتلت فيما بينها وحارب بعضها بعضا وسبى بعضهم بعضا كما قال صلى الله عليه وسلم. هذه فضائل عديدة في الدنيا علينا أن نفخر بها ونجمع أسباب استبقائها، ونكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأقل مائة مرة في اليوم من أجل أن نؤدي بعض الحق لهذا الرسول الكريم، ونكثر من الثناء عليه ومن الدعاء له ومن الصلاة عليه رجاء أن نؤدي بعض الحق. فوائد أخروية من البعثة النبوية: أول من يدخلون الجنة أما الذي نحوزه في الآخرة فإننا سنكون بإذن الله عز وجل ،كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أول أمة تحاسب وأول أمة تدخل الجنة ،قال عليه الصلاة والسلام :"وأنتم أول من يقضي الله فيهم من الخلائق". وسيكون حساب أكثرية المسلمين المتبعين للنبي صلى الله عليه وسلم يسيرا، عبارة عن عرض، ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذين سيناقشهم الحساب سيعذبوه، قال عليه الصلاة والسلام: «آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من؟ فأقول: محمد، فيقول أمرت ألا أفتح إلا لك ولمن خلفك» وقال صلى الله عليه وسلم مفتخرا، وأنا أول من يقعقعها أي أول من يفتح باب الجنة وسيدخل معه في أول الداخلين أتباعه قبل الأنبياء السابقين والأمم السابقة، وهذه فضيلة ليس بعدها فضيلة حيث يظل الناس محبوسون في الحر: فمنهم من يصله إلى كعبيه، ومنهم من يصله إلى فخذيه ،ومنهم من يصله إلى صدره، ثم من يلجمه العرق إلجاما ،وأنت أيها المسلم في ظل الرحمان أو في انتظار الزمرة التي ستحاسب الحساب اليسير وتكرم بما أكرم به النبي عليه الصلاة والسلام بأنواع الشفاعات. علو المنزلة في الآخرة لمن يموت موحدا واستفدنا في الآخرة أن تعلو منازلنا عند الله عز وجل بالاقتراب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وسعنا الإحسان إلى الغير وتحققنا بالأخلاق الفاضلة التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لإتمامها قال صلى الله عليه وسلم «أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون». واستفدنا في الآخرة أيضا أن نكون أول من يشرب من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أكرم به، وبعض الناس يشرف بأنه يشربه النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن في زمانه، لارتباطه بسنته وهديه قال صلى الله عليه وسلم: «وإن من أمتي من يشفع يوم القيامة في مثل مد» أي في مثل أمة كبيرة أوحي كبير في آلاف من الناس، يشرفه الله عز وجل فيجعله سببا لعتق عالم من الناس. واستفدنا في الآخرة أن الذي يموت على التوحيد وإن فعل بعض الخطايا والذنوب التي لا تحبط الإيمان فإنه وإن دخل النار يخرج بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولو بعد حين ،على قدر جرمه وعلى قدر تقصيره، هذه نعم متعددة ليس لنا أن ننكرها وينبغي أن نذكرها، ونؤدي بعض الحق للنبي صلى الله عليه وسلم حتى نكون من الشاكرين. فنبينا صلى الله عليه وسلم لم يرج منا بعد هذه الاستفادات المتعددة إلا أن نرتبط بسنته ونكرم آل بيته ونخلص لله عز وجل في توحيده وله في اتباعه صلى الله عليه وسلم (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) فلا يرجو صلى الله عليه وسلم أي مقابل، رغم هذا الإحسان الذي لا حد له، فلنقابل هذا الخير العميم بالثناء على رسول الله بالإكثار من ذكره والاستعداد لاتباع سنته والاجتهاد لمعرفة سيرته عليه الصلاة والسلام، بتقديم هديه على كل شيء من أجل أن نكون حقا من الشاكرين، ومن أجل أن نطبق قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه «من أسدى لكم معروفا فكافؤوه فإن لم تجدوا فادعوا له». إعداد :عبد الإلاه بن زيان