ففيهما فجاهد يكاد يكون "بر الوالدين" من القيم والثوابت الأصيلة التي بدأت تتلاشى في مجتمعنا بسبب رياح التفكك التي تسربت لمنظومتنا الأسرية، وبسبب سدنة ومؤسسات "الحداثة" التي بدأت تنبت في تربتنا، وتنمو وسط أبناء جلدتنا. ولعل من أخطر ما أصبح يهدد أسرتنا تلك الوثائق الأممية التي تهدف إلى تنميط المجتمعات الإسلامية على النمط الغربي، في إطار ما يسمى بعولمة القيم، حيث فاجأتنا وثيقة الأممالمتحدة حول الطفولة (من قبل) بالعديد من البنود الخطيرة التي لم تشر إلى الدين كمؤثر فاعل في الحياة الاجتماعية، بل اعتبرت الدين أداة من أدوات قهر الإنسان وتقييد حريته، كما أكدت على أن مفهوم الأسرة يجب أن يتجاوز مفهومه التقليدي ليحل محله مفهوم مبتدع يعتمد على مفهوم "النوع"، واعتبرت هذه الوثيقة الدخيلة مسألة "الأبوة" و"الأمومة" من الأمور الكلاسيكية العتيقة التي يجب تجاوزها لمالها من تأثيرات سلبية على الطفل. وأمام هذه الوثائق وما أصبحنا نراه ونسمعه من عقوق الوالدين، وتعرضهما، أو تعرض أحدهما للإهمال والأذى في الكثير من الأحيان من طرف فلذات الأكباد والأولاد، ولجوء العجزة من الوالدين للخيريات ودور الإيواء، كما يحدث عند الغرب تماما، الذي لا تسمح "حضارته" بالاعتناء بالوالدين والتكفل بهما إلى آخر رمق من الحياة. أمام كل ذلك، أضحى لزاما علينا التذكير بفضل الوالدين، وفضل برهما، والترهيب من عقوقهما عسى أن ينال هؤلاء ما يستحقونه من تكريم، وإحسان، وبر... فمن دلائل علو مرتبة الوالدين عند الله عز وجل أنه قرن في كتابه الكريم بين الحض على عبادته، والحث على بر الوالدين عندما قال: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا...) وقال سبحانه: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا...)، كما قرن سبحانه شكره بشكر الوالدين عندما قال: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك)، ولا يقرن الله تعالى أمرا بعبادته وشكره إلا إذا علا شأنه، وارتفع قدره، وعظمت مرتبته. وإن أشقى الأشقياء، وأغبن المغبونين، وأذل الأذلة؛ رجل عاش بين ظهرانيه والداه، أو أحدهما ولم يغنم من برهما أجرا يدخله الجنة ويقيه النار. ففي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، فلم يدخل الجنة»رواه مسلم. بل إن التفريط في حق الوالدين وعقوقهما يعد من أكبر الكبائر التي قد تتساوى مع الإشراك به سبحانه، وهذا أمر قد يغفل عنه الغافلون الذين لا يجدون غضاضة ولا حرجا في القسوة على الوالدين أو إهمال شأنهما أو قطيعتهما. عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا قلنا: بلى: يا رسول الله: قال :»الإشراك بالله وعقوق الوالدين». وإذا كان عقوق الوالدين يستوي بالشرك وبشهادة الزور وبغيرهما من الكبائر فإن برهما مفتاح للخير كله، ومرقاة لأعلى درجات التواب الموجبة للجنة، ووسيلة يتوسل بها لإجابة الدعاء وتفريج الكرب، وحديث الثلاثة الذين سدت عليهم فتحة الغار واضح في هذا الباب، وفيه توسل أحد الثلاثة ببر والديه: «اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا...». وفي الأخير أشير إلى أن آفة عقوق الوالدين لم تعد مقتصرة على العصاة الظالمين، بل أخذت تتسرب إلى الكثير من أهل الطاعة والصالحين، الذين أضحى الكثير من الآباء والأمهات يشكون أذاهم وإهمالهم، والانشغال عنهم بالأزواج، والأولاد، ومشاغل الدنيا، فلا ينال أولئك من هؤلاء سوى الفتات أو أقل من الفتات بدعوى تحمل مسؤولية البيت، أو مسؤولية الدعوة التي قد ينفق فيها وعليها هؤلاء أموالا وجهودا، لو أنفق النزر القليل منها على الوالدين لكان أقرب للتقوى، وأنفع لهؤلاء في الدنيا والآخرة، وأقرب للجهاد في أعلى صوره، وأرفع مراتبه، ولكن الشيطان يلبس على كثير من الناس تلبيسا... وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى قال: نعم: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما» متفق عليه وهذا لفظ مسلم. وفي رواية لهما: جاء رجل فاستأذنه في الجهاد قال: «أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد»... المصطفى الناصري