تميز العقد الأخير من القرن الماضي بما يمكن أن نصطلح عليه تكثيف العمل السياسي من قبل الحركات الإسلامية في معظم الدول العربية والإسلامية، بحيث شاركت عدة حركات إسلامية في الانتخابات البرلمانية أو المحلية، وعقد بعض الإسلاميين تحالفات سياسية مع قوى أخرى. أما العنوان الأبرز للعقد الأول من الألفية الثالثة هو ما يمكن أن نصطلح عليه محاولة ترشيد العمل السياسي، وقد تمثل ذلك في بعض المراجعات وصدور بعض الأوراق السياسية والبرامج الانتخابية عن مجموعة من الحركات الإسلامية. أما أبرز عنوان للعقد الثاني من الألفية الثالثة وهو دخول الإسلاميين إلى دائرة صناعة القرار السياسي في عدد من الدول، لاسيما بعدما شهدته المنطقة من حراك عربي. لكن، لمشاركة الحركات الإسلامية في الحياة السياسية العربية كلفة ومردود يتفاوت من تجربة سياسية لأخرى في خريطة تقدم الإسلاميين نحو السلطة التنفيذية في مختلف البلدان العربية والإسلامية. حقيقة تكشف اليوم عن نفسها بجلاء شديد للعديد من التيارات الإسلامية المعتدلة وتضعها في مواجهة تحديات وتساؤلات جديدة. فحصاد مشاركة الإسلاميين، وبغض النظر عن تباين خصائص وإطارات المشاركة من تجربة حزب «العدالة والتنمية» في المغرب الذي فاز في انتخابات 25 نونبر 2011 ويستعد لخوض غمار تجربة حكومية، مروراً بجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، وتجربة جبهة العمل الإسلامي في الأردن الذي ظل يتأرجح بين المشاركة في التشكيلة الحكومية ومقاطعتها، إضافة إلى تجربة الحركة الإسلامية الدستورية الكويتية، وجمعية «الوفاق» البحرينية، واختلاف مداها الزمني طولاً أو قصراً. يضاف إلى ذلك تجربة حركة النهضة في تونس، وقبلها تجربة «حزب العدالة والتنمية» التركي، وتجارب الإصلاح في اليمن. السؤال المطروح في هذا الصدد ، واستنادا إلى التجارب التي تجاوز فيها الإسلاميون معطى المشاركة إلى قيادة الفعل التنفيذي أو المساهمة فيه بدور وازن، نتساءل: ماهي أهم خلاصات تجارب الإسلاميون في الحكم؟ وكيف كان المردود وفق التكلفة المقدمة؟ وكيف تعاملت الأطر الدعوية والمدنية المقربة للنسيج الإسلامي السياسي الذي يشتغل في تدبير السلطة؟ تواجه التيارات الإسلامية مجدداً تحدي البحث عن توازن قابل للاستقرار وصالح للتطبيق العملي بين متطلبات المشاركة في الحكم ومقتضيات الالتزام الايديولوجي. في هذا السياق، يرى المختار العبدلاوي، مهتم بالحركات الإسلامية، أنه من الناحية الاستراتيجياً والحركية، تستدعي تدبير فعل السياسة في الدول العربية بتعدديتها المقيدة وبهيمنة النخب الحاكمة عليها من الإسلاميين تبني مواقف وسطية إزاء قضايا المجتمع الرئيسية، تتفاوت بالقطع مضامينها من خبرة إلى أخرى، وتضغط عليهم لتطوير توافقات براغماتية مع النخب والمعارضات غير الدينية إن أرادوا تطوير مردود مشاركتهم الراهنة، وكذلك للحد من تلك « الاختلالات والترهل التي تصيب النسيج الدعوي والمدني التابع أو المقرب للحزب وهو يمارس السلطة». بالمقابل، أكد أيمن بسيوني، وهو باحث في مركز الدراسات التابع للجزيرة في حديث مع «التجديد»، أن ترتب القناعات الايديولوجية للإسلاميين وهم على أبواب السلطة، ومن ورائها خشية حقيقية من فقدان تميز خطابات وبرامج تياراتهم وكذلك من خطر إبعاد قطاعات واسعة مؤثرة بقواعدهم الشعبية يجيرها الالتزام الديني، يستدعي صياغة أنظمة جديدة للتعامل بين الحركات الإسلامية الدعوية وتفريعاتها السياسية والمدنية والشبابية والإعلامية.... مضيفا « لا شك أن مهمة البحث عن توازن بين البراغماتية والالتزام الأيديولوجي تزداد صعوبةً، بل قد تتعثر عندما يفقد خيار المشاركة السياسية ونهجه وطاقته الإقناعية لدى بعض قيادات الإسلاميين وقواعدهم الشعبية في حالة كان حصاد الفعل السياسي ضعيفا». والنتيجة هي إما إقدام المرجعية والشريعة على ارتدادات حركية عن سابق مواقف وسطية، أو الشروع، كحال حزب «العدالة والتنمية» التركي وجمعية «الوفاق» في البحرين، في إحداث تحولات براغماتية في الجوهر المؤسس للفعل السياسي للتيارات الإسلامية والأوزان النسبية للبراغماتي والأيديولوجي ومن ثم حول أولويات المشاركة يفرض، على الرغم من إبهاره للباحث المراقب، حالة من الغموض الاستراتيجي عالية الكلفة. في هذا الصدد، يؤكد محمد ظريف، باحث في الحركات الإسلامية،أن تفتح وضعية التيارات الإسلامية المعتدلة الباب على مصراعيه لإعادة التفكير في مضامين العلاقة بين المكون الدعوي والمكون السياسي، والشكل الأمثل لتنظيمها وتأطيرها مؤسسياً. فإذا كانت الفرص المتاحة أمام المشاركة السياسية خلال العقود الماضية قد أسفرت من جهة عن إنجاز بعض الإسلاميين لفصل وظيفي بين الدعوة والسياسة تجسد في نشوء أحزاب وجبهات وجمعيات استقلت مؤسسياً عن التيار الأم وتخصصت في العمل السياسي وبلورت من جهة أخرى نزوعاً حقيقياً بين الإسلاميين نحو تعظيم أهمية السياسة كمدخل رئيسي الى التغيير والإصلاح، فإن انفراج أفق المشاركة تضع مجتمعة العديد من علامات الاستفهام حول رجاحة الاختيارين. ويرى ظريف أن « المرحلة المقبلة لمشاركة التيارات الإسلامية في تقاسم السلطة في عدد من الدول العربية سيجعل من أمر التفكير في إحداث مسافة إجرائية بين الدعوي والسياسي أمرا ضروريا». مشددا على أن « تجربة اليمين المسيحي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكذا الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا، وأحزاب الخضر تعطينا رؤية أخرى، حيث أن هذه التنظيمات تشتغل وفق منطق الإشتراك في الرؤية الاستراتيجية للفعل المدني، ولكن اليمين المسيحي يشتغل وفق منطق الأذرع، حيث أن فشل الذراع السياسي أي الحزب لايؤثر بشكل مباشر على باقي الواجهات السياسية والبحثية والخدماتية». في هذا السياق، يرى البسيوني، لمواجهة تخوف تآكل الأداة الدعوية بعد مشاركة التوجهات الإسلامية في تدبير الشأن العام في عدد من الدول العربية ومنها المغرب، أقترح أن يكون اشتغال الواجهة الدعوية مرتبطا بتدبير الإستراتيجي، مع خلق مسافة نقدية مع التنظيم الذي يدبر السياسة، ذلك على أساس الأهداف التي أعلنها الإسلاميون أنفسهم للتأسيس لاختيار المشاركة في المؤسسات الرسمية. ويمكن تحديدها في أربعة أهداف كبرى هي:أولا: امتصاص عنف الأنظمة وتوسيع هوامش الديمقراطية. ثانيا: مواجهة تيارات الفساد، والدفاع عن الهوية الإسلامية، وتخليق الحياة العامة. رابعا: الدفاع عن حقوق الناس، خاصة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. في دراسة للكاتب لؤي صافي « الدولة الإسلامية بين الإطلاق المبدئي والتقييد النموذجي» يذهب الكاتب إلى أن تطوير نموذج سياسي مناسب للبنى الاجتماعية والسياسية المعاصرة تتطلب الجمع بين مقتضيات الانتماء الحضاري إلى الثقافة العربية الإسلامية، ومتطلبات تطوير نظام سياسي قادر على الاستجابة لتحديات الحاضر وتلبية احتياجات المستقبل، بمعنى أن النموذج السياسي المنشود يجب أن يعتمد مبادئ الأمة وقيمها العلوية أساسا لترشيد عملية تطوير بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتوجيه الاجتهادات الرامية إلى البحث عن مناهج وأساليب عمل تتناسب وحجم التحديات المعاصرة.