كشف العدد الثاني من سلسلة «مراصد» الصادرة عن وحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الإسكندرية، عن التجربة الفريدة لتحول اليسار إلى الإسلام السياسي، في دراسة بعنوان «اليسار المتحول للإسلام: قراءة في حالة الكتيبة الطلابية لحركة فتح»، لنيكولا دوت بويار؛ الباحث السياسي الحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس، والجامعة اللبنانية في بيروت. وتنقسم الدراسة إلى محاور رئيسة عدة، منها نقاط التقارب الانتقائية بين الإسلام والعالمثالثية، ونشأة الحركة الماوية الفلسطينية - اللبنانية في «فتح»، وقصة الكتيبة الطلابية لحركة «فتح»، والنتائج التي يمكن استخلاصها منها، بالإضافة إلى حوار مع منير شفيق وسعود المولى اللذين انضما إلى الكتيبة الطلابية. وتبين الدراسة أن مركزية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني والتأثير الطارد للمسألة الفلسطينية، واستمرارية المسألة الوطنية ومنطق العالمثالثية في منطقة الشرق الأوسط، سمحت دائماً بحدوث حالات فريدة ومتداخلة من الانتقال السياسي التي تتقاطع فيها الحدود بين القومية العلمانية والإسلام السياسي. وحدثت نتيجة ذلك التقاءات وجدانية، عبر ما يسمى بنقاط تقارب انتقائية، بين الحركة الوطنية الفلسطينية وبعض حركات اليسار اللبنانية وبين الثورة الإيرانية، نتيجة التموقع الاستراتيجي وخطوط التباين السياسي والإيديولوجي. ويتطرق الباحث إلى أهمية الحركة الماوية الفلسطينية – اللبنانية في «فتح»، وكيف أن تلك الكتيبة الطلابية أخرجت بعض الشخصيات المحورية في الإسلام السياسي ذي النزعة الوطنية، على رغم أنها كانت هامشية في حركة «فتح». وقد ولدت الكتيبة الطلابية عام 1974 عبر اتجاهين اثنين؛ الأول كان بواسطة شباب الطلبة اللبنانيين الذين خرجوا من منظمة العمل الشيوعي في لبنان وأسسوا عام 1972 مجموعة ماوية صغيرة أو ما سمي «نواة الشعب الثوري»، والثاني عبر القادة اليساريين الفلسطينيين الذين عارضوا الخط السياسي الجديد الذي انتهجته حركة «فتح» الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات. ويرى بويار أن الكتيبة الطلابية هي ثمرة التقاء فلسطيني - لبناني، لاتجاه يساري مستوحى من تجارب الانغماس الشعبي لدى اليسار البروليتاري ولدى الثورة الثقافية الصينية، وبين كوادر فلسطينية راغبة في إعادة توجيه مسار حركة «فتح» باتجاه اليسار الوطني، لتتحد الكتيبة الطلابية مع حركات أخرى مثل «المقاومة الشعبية» التابعة لخليل عكاوي في شكل خاص، وهو اللبناني ذو الأصل الفلسطيني والزعيم الكاريزمي لحي باب التبانة الشعبي في طرابلس، وكانت حركته هي الأخرى تستلهم في جزء منها تجارب العالمثالثية ذات الاتجاهات الماوية والفيتنامية والأميركولاتينية. ويوضح البحث أنه في أعقاب الثورة الإيرانية، قاد الإسلام السياسي دفة القيادة بالنتيجة؛ فمن ثالوث اليسار والعالمثالثية والإسلام الذي كان يحمله هذا اليسار الماوي، لم تتبق في النهاية سوى عنصرية الأخيرين، ذلك أن الثورة الإيرانية بوصفها ثورة الجماهير الشعبية الوحيدة في المنطقة تاريخيّاً، نجحت بقوة في الاستحواذ على المفردات الكلاسيكية: مناهضة الإمبريالية، والانقسام شمال - جنوب، ومركزية نموذج الإنسان المضطهد، مروراً بأسلمة تطبيقاتها. ويشير الباحث إلى أنه يمكن استخلاص عدد كبير من النقاط من تجربة الكتائب الطلابية و«ماويي فتح»؛ أولاها أولوية السياسي على الأيديولوجي، أو في شكل أكثر دقة، أولوية المنطق القومي العالمثالثي على الأيديولوجيات التي يتم إنشاؤها، فلم يتم تبني الماركسية والماوية عبر الافتتان النظري بها ولكن لأجل البعد العملي فيها. واعتبر الباحث أن أولوية السياسي هذه تدفع عبر الزمن إلى التفكير في الوظيفة التعبوية المتفردة التي تقوم بها الأديان في تاريخ نزاعات التحرر الوطني، والإسلام ليس إلا مثالاً ضمن أمثلة أخرى. ويتضح أن تجربة الكتائب الطلابية و«ماويي فتح»، أظهرت بقوة الأهمية المعطاة لمفهوم الشعب و«الجماهير» الذي جاء في خطاب «ماويي فتح». هذا النداء الروحاني تماماً والموجه إلى الشعب تتقاسمه الماوية مع الإسلام الثوري. ويتطرق البحث إلى فكرة التعالي وارتباطها بعقيدة الخلاص، فإن انتقال ماويين وشيوعيين وقوميين عرب من اليسار إلى الإسلام السياسي يسمح بالتساؤل حول هذه العلاقة المتفردة التي يتضمنها كل حدث ثوري مع فكرة التعالي. والتعالي ليس بالضرورة ذلك الأفق البعيد المتعلق بالغيب، حيث يصف الفاعلون في كل ثورة الانتفاضة الثورية بمصطلح رسالي لأنها تعبر عن حدث، ولأنها فريدة، من جهتها، تعتبر الثورة الإيرانية مختلفة لأنها تؤكد تعاليها أيديولوجيّاً طالما أنها تعرف نفسها رسميّاً بمصطلحات سياسية ودينية. وتتابع الدراسة تشظي مسارات اليسار المتحول للإسلام، بعد التحول الديني وانتهاء الثورة الإيرانية وتراجعها تحت أنقاض الحرب مع العراق والسياسات القمعية ومصادرة السياسي والحدث الثوري معاً، وهكذا بقي الإسلام ليمثل الأمل الوحيد لدى «ماويي فتح». وأتى الإسلام في المرتبة الأولى، حتى حين لم يعد يعتبر بالضرورة إسلاماً ثورياً. قليلون هم من عادوا عن تحولهم الديني، أما الآخرون فقد ابتعدوا شيئاً فشيئاً عن العمل السياسي. أما الاتصال الفلسطيني - اللبناني الذي شكل عمود «اليوتوبيات العملية» الثورية بين سنوات 1969 و1984 فاختفى وأعقبه تشتت للفاعلين السياسيين، وهكذا تنتهي شيئاً فشيئاً مرحلة كاملة، ويضمحل خط الجماهير والإسلام الشعبي الثوري شيئاً فشيئا. وتبين الدراسة أن التشظي يتم وفق ثلاثة نماذج: النموذج الأول هو نموذج الاستقلالية والابتعاد، والفاعل هنا يشعر أن المجال السياسي لا يترك له هامشاً للحركة، أما النموذج الثاني فهو نموذج الالتزام السياسي المستمر، وهنا ثمة شكل متكامل من البراغماتية. والنموذج الثالث، وهو الأكثر ندرة ودراماتيكية أيضاً، وهو نموذج الاختفاء نهائياً أو نموذج الشهيد. ويعتبر خليل عكاوي المثال الصارخ على هذا النموذج، ويمثل الشهيد بكلمة واحدة النهاية المنطقية للاستحالة، للحلم المجهض. ويتطرق الباحث إلى النقاش الدائر حول وجود لاهوت إسلامي للتحرير، مشيراً إلى أنها مسألة لم تحسم بعد، فهي لم تكن موجودة ولم توجد أبداً بوصفها كذلك، ولكن المحاولات المتكررة لرسم معالمها تدفع إلى التساؤل حول القوة التي تتمتع بها هذه الفكرة، فقد وقعت تجربة «ماويي فتح» في سياق ظرفي، فبدت أكبر من سياقها وغير مكتملة في الوقت نفسه. دينامكية اليسار والعالمثالثية بدأت بالتراجع، ثم الديناميكية الإسلامية التي كانت في مرحلة الزخم. ويقول بويار: «حدث المنعرج هنا واضحاً، فالإسلام بدا حينذاك أيديولوجية فعالة في مرحلة خابت فيها الآمال، وماويو فتح في هذا الإطار التاريخي لم يكن أمامهم ووفق منطق خط الجماهير سوى التحول. تجربة الماويين في طرابلس وفي جنوب لبنان تتعلق ربما بيوتوبيا عملية لم تتحقق نظريّاً وتمت أسلمتها سريعاً، لتعلن عن تركيب حقيقي بين الماوية العالمثالثية والإسلام الثوري». ويشير البحث إلى نوع جديد من أنواع الخطاب، وهو خطاب الممانعة الذي يمثل عودة الإيديولوجيا الضمنية، فإن البعد «القومي» والمقاوم في خطاب الفاعلين، والانقسام العمودي بين «المهيمنين المستعمرين» و«المهيمن عليهم المستعمرون»، وثنائية «المركز المحيط» و«شمال/ جنوب» هي التي ستظل، تحدد خطوط الاستمرارية والتلاقي بين الإسلام السياسي والقومية العربية واليسار الراديكالي، وترسم الأيديولوجية الضمنية الحقيقية الجارية في قطاعات واسعة من المسرح السياسي في الشرق الأوسط. ويضيف الباحث: «كانت تجربة الكتيبة الطلابية ترسم ضمنيّاً تجربة لشيوعية مسلمة كامنة، لكن في النهاية الإسلام السياسي هو الذي سيحدد الدينامكية الكلية. لكن الإسلام السياسي نفسه اليوم سيلتقي على الأرضية الأيديولوجية الضمنية الأساسية: سيبني شرعيته، ليس على الإسلام فقط، ولكن أيضاً على خطاب يرتكز على المصطلح المزدوج للمقاومة والممانعة، هذه المفاهيم الأولى نفسها التي تم تقاسمها تاريخيّاً في شكل مشترك من الإسلاميين إلى القوميين العرب مروراً باليسار الماركسي. إذا كان الحدث الثوري الرسالي قد اختفى، فقد بقي خطاب الممانعة الذي يخترق الأيديولوجيات الأخرى من الطرف إلى الطرف: في شكل عام، وبدلاً من الحديث عن لاهوت للتحرير، فسيكون من الدقة الحديث عن لاهوت للممانعة». ويفرد بويار الصفحات الأخيرة لدراسته لشخصين من الكتيبة الطلابية، أنجز كل منهما انتقالاً متقدماً إلى الإسلام السياسي في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. ويتحاور بويار مع كل منهما لالتقاط أفضل للتطورات المتلاحقة التي قادت إلى الإسلام السياسي انطلاقاً من الماركسية الثورية العالمثالثية. والشخص الأول هو منير شفيق؛ مسيحي فلسطيني يحول إلى الإسلام، كان عضواً في مكتب التخطيط في منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة «فتح»، وهو أحد الفاعلين في تيار اليسار فيها في السبعينيات. كما أنه كان القائد الرئيسي للكتيبة الطلابية في حركة «فتح» وقريباً من أبو جهاد؛ الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية. أصبح شفيق في سنوات الثمانينيات أحد ملهمي «كتائب الجهاد الإسلامي في فلسطين»، وهي حركة مسلمة اندمجت في بداياتها في حركة «فتح»، وهو يظل يمثل المرجعية بالنسبة إلى الحركة الإسلامية والقومية. أما الشخص الثاني فهو سعود المولى؛ لبناني يعمل اليوم أستاذاً في الجامعة اللبنانية وهو عضو في المؤتمر العربي للحوار الإسلامي - المسيحي والمجلس الشيعي الأعلى. كان المولى مقرباً من الإمام محمد مهدي شمس الدين ومعروفاً بابتعاده الكبير عن «حزب الله»، وتقلد وظيفة رئيس تحرير مجلة «الوحدة الإسلامية». وهو مناضل سابق في الكتيبة الطلابية في «فتح» التي انضم إليها بعد فترة من دخوله منظمة العمل الشيوعي في لبنان عام 1969.