أكتب هذه المقالة اليوم مساهما فيما يجب على النائب البرلماني أن يعيه ويستحضره حتى يكون أمينا يحقق الآمال العريضة وسط زحف الغيوم المظلمة التي خلفتها سنوات عجاف من العمل السياسي الذي سار على غير سنن الشريعة أو القوانين التي تم سنها لحماية الشعب وممتلكاته في طول البلاد العربية وعرضها. وهذه المقالة موجهة للنائب البرلماني بغض النظر عن لونه وانتمائه الحزبي. لأن من حظي بقبول المغاربة له فهو مطوق بأمانات ما شرحه وفصَّله من الخير في برنامجه، وما ينبغي في حقه القيام به سواء كان من جهة الفئة التي ستشكل الحكومة أو التي ستبقى في ضفة المعارضة المسؤولة من حيث المراقبة والمتابعة للأعمال حتى لا يكون شطط في استعمال السلطة. السياسة شرع ولقد سبق بسبب التجاذب نحو هذه المناصب العالية ومحاولة الاستفراد بها للتمكين للفساد والطغيان أن تعوذ البعض من السياسة والسياسيين، وساس ويسوس، وسائس ومسوس. وذهبت جمهرة كبيرة إلى القول والتطبيق: من السياسة ترك السياسة. أما الإسلام فقد ثبت إجماعا أن من خصائصه الشمولية، فهو لم يترك بابا من أبواب الخير أو موضوعا من مواضيع الناس، أو مجالا من مجالاتهم، إلا وله فيه قول، وله فيها حكم. قال تعالى:» ما فرطنا في الكتاب من شيء». فإن كان الصلاح في الممارسة السياسة هو المقصود، وهو الثمرة البارزة، فإن السياسة هنا هي الشرع نفسه، أو هي باب من أبواب الشريعة. فإن كانت المفاسد هي المتوخاة ابتداء، والمجلوبة انتهاء ووسطا، فهذه هي الأهواء القاتلة، والأمراض النفسية، ولا يحق لأمثال هذه الممارسات أن تسرق لقب السياسة تتحلى بالزور، قال الإمام السخاوي:»ومن أعظم خطأ السلاطين والأمراء تسميةُ أفعالهم الخارجة عن الشرع سياسة؛ فإن الشرع هو السياسة، لا عمل السلطان بهواه ورأيه»(الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ: ص90). ولذلك عرف الأقدمون السياسة بالقول: استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل». فموضوع السياسة هو جلب المصالح وتكثيرها، وإرشاد الناس وإعانتهم على الوصول إليها، ما تعلقت بدنياهم أو بآخرتهم. وعلى هذا يجب على النائب أن يزن تصرفاته كلها وهو نائب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في حيه وقريته، وفي الشمال والجنوب، والشرق والغرب بميزان الأحكام الشرعية ومقاصدها ومآلاتها، فإنه في عبادة لا يقوم بها غيره، ويستحق إذا تحرى السداد أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. الأنبياء ساسة وأعظم السياسيين الذين مروا على هذه البسيطة هم الأنبياء، فإن كل ما عملوه أو عبروا عنه، أو أرشدوا الناس إليه، أو ناضلوا من أجله، كان سياسة. وكانت خطتهم في المجال السياسي، ومقاصدهم من العمل السياسي من أعظم النماذج السياسية في التاريخ. وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي» الحديث(رواه البخاري ومسلم). فعلى النائب البرلماني أن يعلم يقينا أن له سلف في السياسة الشرعية على رأسها الأنبياء والمرسلون، وإن ميراثهم لا يزال محفوظا في كتاب الله عز وجل، كما أن في المقابل سيجد النائب البرلماني أمامه خلْف في السياسة الكسروية يتزعمها فرعون(السلطة السياسية) وهامان(التكنوقراط) وقارون(الأعيان أرباب الأموال) وغيرهم. فلينظر أي السياستين يختار. النائب عن الأمة: القوة ومن مواصفات النائب البرلماني القوة في الصدع بالحق وتبصير بأمته بالحقيقة حتى تشاركه في الغرم والغنم. وأن يكون قويا في الدفاع عنها لا يتركها لعصابات السوء والفساد. فلم يتقدم للنيابة عن الأمة والتكلم باسمها والحديث عن آمالها وآلامها إلا من وثق في قوته، وأنه لن يخسرها بالوهن أمام عاديات الأيام. والقوة عند العلماء نكرة، تحتمل كل ما يمكن أن يطلق عليها هذا الاسم. فهي القوة في العلم، والقوة في الحجة والبرهان، والقوة في لجم الفساد، والقوة في عدم التهيب أمام الاستبداد، والقوة في التعبير عن منتظرات الشعب. إنها القوة النفسية والمعنوية في كل تجلياتها، وهي التي قالت عنها ابنة شعيب:»إن خير من استأجرت القوي الأمين»(القصص:). النائب عن الأمة: الأمانة وتتراقص أمام النائب البرلماني فرص الوجاهة والثروة، تتعرض لها المكاسب في كل واد، وتتزين فاتنة الدنيا مقبلة عليه عارضة نفسها. وهاهنا يجب على النائب أن يتذكر العهود والمواثيق، ويستحضر الأقوال والشعارات، وأنه مسؤول أمام ربه عن بضاعته التي دونها في ورقات الترشح مزينا إياها بصورته ونبذة من سيرته. تذكر قول الحق تبارك في علاه:» وقفوهم إنهم مسؤولون». وقد يعجز النائب عن تحقيق ما وعد به، لفخاخ لا دراية له بها، وعراقيل لم تخطر على باله. والأمة ذكية تقف إلى جانه وإن لم يحقق كل ما وعد به، ولكنها لن تغفر له أبدا أن يخونها، ويضعها في مزاد البيع والشراء لمن يعطي أكثر. النائب البرلماني: أمين على المال العام ومن الأمانة عدم التواطؤ على قسمة المال العام، والتغاضي عن النهب والاغتصاب فتلك جريمة وموبقة من الموبقات. وتقديم الناس نوابهم إنما هو توكيل منهم على فعل الخير وليس الإفساد، ولقد استمأنوهم على البلاد ولم يقدموهم لأنهم خونة. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:» ليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك مِلكه؛ فإنهم أمناء ونواب ووكلاء، وليسوا مُلاَّكًا»(السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية). وفي هذه الصدد تنزل بالنائب البرلماني نوازل في المجال المالي وحدود استفادته منها، فنراهم قد أفتوا أنفسهم واقنعوا غيرهم للالتحاق بهم، وقد تكون المبررات التي يحشدون معقولة، وتحتمل ان تكون تلبيسا عليه للتورط فيما لا يحل. وهنا أنبه النائب البرلماني إلى أن اشتغاله لا يجيز له أن يتحول إلى مُفت يحل ويحرم، بل عليه أن يلتجأ إلى أهل الاختصاص، ويأطر نفسه على الحق الذي بينوه، لأن أقل أحوال النائب البرلماني في التجرؤ أنه محل التهمة، ولا يجوز بحال عقلا وشرعا أن يكون الإنسان خصما وحكما في الوقت ذاته. النائب عن الأمة: الشعب أولا إن كل المطالب المعقولة للشعب المقهور هي الأولى في الواجب عند النائب البرلماني. ولقد سبقت تجارب مريرة عبر سنوات وعقود كان الدخول إلى هذه المجالس فرصة للغنى والثراء الفاحش، ومكانا للارتقاء الاجتماعي، لم يحصل هؤلاء الداخلون إلا دعوات غير صالحة من الناس، ونفورا من كل ما يمس للعمل السياسي أو يقرب منه. والفرصة اليوم مواتية لتقديم نموذج جديد يشهد على صدق الأقوال السابقة، تلكم هو نموذج نأكل بعد أكل الأمة، ونشرب بعد أن تشرب، وهذه هي مقالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبطنه وهو يشتكي عضة الجوع: قرقري أو لا تقرقري، والله لن تذوقي سمنا ولا عسلا حتى يشبع ذراري المسلمين. إن الشعب الذي خرج وهو يقول لبعض وجوه الفساد: إرحل. وخرج يصرخ ولا يزال: الشعب يريد إسقاط الفساد. لن يستثنيك من مطالبه غدا إن ظهر له بالحجة القاطعة أنك سلكت سبيل المفسدين. النيابة عن الأمة وواجب كفاية الشعب إن الأصل في البرلماني أن يبدع الأساليب ويتفنن في الوسائل التي يدفع فيها فقر الفقراء، ومسكنة المساكين. وقبل الانتخابات كانت الدعوات إلى وجوب الدخول في المجلس النيابي واستدل كثير من العلماء والفضلاء بقصة يوسف عليه السلام، في بيان منهم أن الدخول في هذه القبب له مشروعية وسند في عمل الأنبياء عليهم السلام، وهم صادقون فيما ذهبوا إليه وترجح عندهم. واليوم بعد دخول فئة جديدة تنادت برفع مقالة يوسف عليه السلام: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. نريد أن نذكر هؤلاء ونلفت حصيف عنايتهم إلى الجواب على ما يلي: ما المقصد الشرعي من طلب هذا النبي الكريم؟ والجواب الذي دفع الكريم إلى إعلان نفسه لهذه المهمة هو القيام بشؤون الشعب المقهور في قوته، فإن الأزمات يصطلي نارها من لا يجدون حيلة ولا يهتدون إلى سبيل، ويستأثر الملأ بالأقوات فوق ما يحتاجون وإن على حساب الجماهير الغفيرة. قال سيد قطب رحمه الله تعالى وهو يذكر جانب من مقاصد يوسف عليه السلام:» ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض.. إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة؛ وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غنماً يطلبه يوسف لنفسه. فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة. إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون». البرلماني: واجب تعزيز الديمقراطية وذلك بكل المعاني الإيجابية المرتبطة بالحريات العامة والكرامة ومحاربة الفساد والاستبداد. إنها أدوار يجب على البرلماني أن يتصف بها ويستحضرها مع حلفائه أو معارضيه. إن دوره ان يصبح الفرد المفرد له الحق كاملا غير منقوص في التعبير والمشاركة والمساهمة والنهي عن الاعوجاجات، لا يخاف أن تتخطفه الأغلبية، أو أن يتوجس خيفة من عددها. إن المهم والأهم هو أن يشعر الناس جميعا؛ النواب وغيرهم أن سقف الحرية مرتفع، وأن هذه الحرية ملجمة بلجام المسؤولية. النائب البرلماني: الانتماء للأمة والوطن كل قضايان العادلة الوطنية والدولية لا تقبل أنصاف الحلول. فإن كنت عاجزا على التمكين لها، فلا تكن بلاء على أمتك.قضيتنا في الصحراء وفي الجزر السليبة وفي سبتة ومليلية وفي الثروة البحرية والبرية لا يجوز خيانة الأمة فيها بالسكوت عن المناكر التي تتعرض لها. وإن النائب المسؤول عن شعبه الذي يعيش وسطه، ومسؤول عن أمته أيضا. مهمة النائب أن تكون له أياد بيضاء على القضية الفلسطينية والسورية واليمنية والمصرية وكل الأحرار والشرفاء. يستثمر علاقاته المتاحة له في تقديم خير ودفع مساءة. ولنا في الأخير كلمة إذا كان النائب قد دخل المجلس في جميع مراحله أو بعضها بما لا يقبل شرعا ولا قانونا، فليجتهد في إحسان العمل ونفع الوطن والعباد عل هذه الحسنات العظيمة أن تكون مكفرة لما سلف من الإثم، فالفرصة الآن مواتية أن يصلح ما بدأ به من الإفساد، وليعزم على تنقيته الشأن العام ما وسعته الاستطاعة. والله في عون البرلماني مادام البرلماني في خدمة البلاد والعباد.