حُقَّ للشعب الفلسطيني المناضل أن يفرح بأكبر صفقة تبادل الأسرى مع العدو الصهيوني ينتظر أن تعيد الحرية لأزيد من ألف فلسطينية وفلسطيني، ضمنهم من قضوا أزيد من ثلاثة عقود في سجون إسرائيل. و حُقَّ للأسر الفلسطينية أن تفرح بالصفقة وضمن المفرج عنهم أمهات وأخوات وزوجات و أزواج وآباء وأشقاء. و حُقَّ لمناضلي حركة حماس أن يفرحوا بالصفقة التي دبروا أسبابها وصمدوا ضد مختلف الضغوطات والابتزازات مند أسر الجندي الإسرائيلي "شاليط" سنة 2006 . و حُقَّ لباقي الفصائل المقاومة للاستعمار الصهيوني أن تفرح كون الصفقة انتصار آخر بمنطق الصراع مع العدو الصهيوني. وهي أكبر صفقة تبادل الأسرى تدفع فيها إسرائيل الثمن الأغلى نسبيا حتى الآن، كونها لن تتسلم سوى عنصرا واحدا، مع العلم أن إسرائيل سبق لها أن أفرجت في ماي 1985 عن 1150 أسيرا فلسطينيا لكن مقابل ثلاثة عسكريين إسرائيليين. والصفقة مهمة على اعتبار أنه في المجمل يوجد ستة آلاف فلسطيني في السجون الإسرائيلية يشكلون على الدوام نقطة سوداء في سجل حقوق الإنسان للدولة العبرية. هؤلاء جميعا، الشعب الفلسطيني وأسره وفصائل المقاومة فيه، حُقَّ لهم أن يفرحوا بتلك الصفقة التي سيتم بمقتضاها تبادل ألف و27 فلسطيني وفلسطينية اعتقلوا في السجون الإسرائيلية بتهم مختلفة. لكن الصفقة تحمل درسا قاسيا لغير هؤلاء جميعا، فالوجه الآخر للصفقة هو بمثابة "صفعة" من شأنها أن توقظ الحس بقيمة المواطن لدينا جميعا على اعتبار أن رجلا واحدا في تلك الصفقة "يساوي" ألفا و27 فلسطينيا بمنطق الصفقات، وهو أغلى ثمن تدفع إسرائيل في تاريخ تبادل الأسرى حتى الآن، والأكثر من ذلك أن الصفقة كلفت إسرائيل الكثير. فاعتقال "شاليط" شكل دوما أحد أكبر المشاكل التي واجهتها الحكومة الإسرائيلية، حيث تم الانشغال بها على جميع مستويات الدولة وأجهزتها المختلفة، وكانت محط جدل سياسي وشعبي كبيرين. بل إن الصفقة عبئ قضائي ثقيل لم تحسمه سوى المحكمة العليا الإسرائيلية التي رفضت الطعون الرامية إلى نقضها، فحسب ما أعلنته صحيفة "هآرتس" الصهيونية الاثنين، فإن مدة محكوميات الأسرى المزمع الإفراج عنهم في إطار تلك الصفقة بلغت 883 مؤبد بالإضافة إلى أحكام سجنية بلغت في مجموعها 4940 عاما. وقالت الصحيفة أن 275 من الأسرى، حكم عليهم مؤبدا بمتوسط 3.21 حكم مؤبد لكل أسير، وأن 198 أسيرا حكم عليهم بسنوات سجن بمعدل 24.9 عام لكل أسير. وللصفقة ثقل آخر تحملته إسرائيل مقابل الإفراج عن مواطنها الوحيد، فهي تحملت أن تفاوض ولو بطرق غير مباشرة، إحدى أخطر الحركات في نظرها والتي تصنفها هي والإدارة الأمريكية ضمن التنظيمات الإرهابية! كل هذا الثقل السياسي والشعبي والقضائي والدبلوماسي، الذي أشير إليه، يبرز قيمة المواطن "شاليط" لدى الدولة العبرية. مقابل هذا نواجه في أوطاننا ثقافة شعبية لا تعطي القيمة للفرد، ونواجه أحزابا تلتزم سياسيا مع السلطة أكثر من التزامها مع الشعب، ونواجه سلطة لا تتردد ليس في عدم تقدير المواطنين فحسب بل في حرمانهم من حقوقهم الأساسية بل وتقتيلهم مقابل مكاسب سياسية. ولقد تابع العالم جميعا قصة نزع رؤساء من كراسيهم بعد أن أزهقت أرواح عشرات الآلاف من المواطنين، وهم ليسوا سوى مرشحين سابقين نظمت من أجل تمكين أغلبهم من الحكم "انتخابات" عامة هي بمثابة انقلابات في حقيقتها، وما زالت دماء الشعب السوري واليمني تسيل وأرواح الشهداء تزهق في ثورات أكبر كذبة فيها القول بحماية المكتسبات الديمقراطية! ولعل مهزلة الارتباك الحكومي عندنا في تهييئ مختلف القوانين الانتخابية خير مثال على غياب التقدير السياسي للمواطن، فجل الاختلالات التي اعترت تلك المشاريع القانونية هي في العمق إجهاز على حقوق المواطنين ومنها حقوق نص عليها الدستور الجديد. ولا شيء يبرر السلوك غير الديمقراطي لمعدي الترسانة القانونية للانتخابات المقبلة سوى الرغبة في التحكم القبلي في نتائجها. ولا تختلف "مجزرة القوانين" عن مجازر الشوارع في شيء، فالأولى قتل معنوي للمواطنين والثانية قتل مادي لهم، والقاسم المشترك بين الحالتين هو عدم الاعتراف بالمواطن بصفته اللبنة الأساسية التي تستمد منها كل السلطات والمصدر الوحيد للشرعية السياسية. لقد وجب علينا، نحن الشعوب والفاعلين والحكام من غير الفلسطينيين، أن نخجل من "صفقة شاليط"، وأن نتخذها درسا في تقدير المواطن. لقد خلد التاريخ صرخة مواطنة حركت جيش دولة إسلامية قديما، واستجابت الدولة لصرخة "وامعتصماه!" الشهيرة، واليوم صمت آذان الحكام عن صرخات المقهورين من بني جلدتهم في كثير من بقاع الأرض، إن بسبب الطغيان كما في فلسطين، وإن بسبب الجوع كما في منطقة القرن الافريقي... بل تتصاعد صرخات آلاف الجماهير في الشوارع تطالب بحقوقها الأساسية فيتم التنكيل بها باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان. إنه لا يكفي الخجل رغم أنه أول الطريق، بل يجب أن يستيقظ الوعي بالمواطنة الحقيقية التي ليس فيها شيء مقدس سوى المواطن نفسه.