إن الإمام مالك تلميذ من تلاميذ شيخ المدينة النبوية ربيعة بن أبي عبد الرحمان فروح، الذي كان فقيها بصيرا بالرأي، حتى لقب به فقيل: ربيعة الرأي. قال فيه مالك: ذهبت حلاوة الفقه منذ موت ربيعة بن أبي عبد الرحمان. وكان ربيعة الرأي على طرف مقابل من طريقة سعيد بن المسيب. كان ربيعة الشيخ الأول للإمام مالك من غير منازع، وكان يميل إلى الرأي، ولا يقنع بإلغاء العقل في فهم النصوص الشرعية. و من أجمل ما ورد عنه ما رواه الإمام مالك في الموطأ في كتاب العقول: باب ما جاء في عقل الأصابع: عن ربيع بن أبي عبد الرحمان أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ فقال: عشر من الإبل. فقلت: كم في أصبعين؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل. فقلت: كم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: أحين عظُم جرحها، واشتدت مصيبتها، نقص عقلها!! (أي ديتها). فقال سعيد: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم. فقال: هي السنة يا ابن أخي" وهو نفس الاستغراب الذي كان يشعر به الإمام الشافعي قبل أن يتراجع عنه. فقد أخرج البيهقي عنه أنه كان يقول: ..وكان مالك أيضا يذكر أنه السنة، وكنت أتابعه عليه وفي نفسي منه شيء..(انظر: السنن: البيهقي: كتاب الديات). ونقل ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن الليث بن سعد أنه قال: «أحصيتُ على مالك بن أنس سبعينَ مسألة، كلها مخالفة لسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قال فيها برأيه. ولقد كتبت إليه أعِظهُ في ذلك»(جامع بيان العلم وفضله:2/182). وقد ذكر العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته" رد المحتار على الدر المختار" أن أقرب المذاهب لمذهب الإمام أبي حنيفة هو مذهب الإمام مالك. والسبب أن كليهما من أصحاب الرأي، رحم الله الجميع وعفا عنهم. وهذا الرأي الذي كان عنده وقوي فيه هو الذي دفع بعض أهل الحديث إلى الإنكار عليه استغراقه فيه. روى الخطيب في تاريخ بغداد عن إبراهيم بن إسحاق الحربي قال: سمعت أحمد بن حنبل أنه سُئل عن مالك، فقال: «حديثٌ صحيح، ورأيٌ ضعيف». وقال أحمد بن حنبل: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث "البيعان بالخيار". فقال: «يُستتاب. فإن تاب، وإلا ضربت عنقه». ثم قال أحمد: «هو أورع وأقوَلُ بالحق من مالك». أي أن أحمد موافق لفتوى ابن أبي ذئب في استتابة مالك. والحديث السابق أخرجه الإمام مالك في موطأه وصرح بأنه لا يعمل به! مع أنه حديث صحيح مشهور بين علماء المدينة، حتى قال عنه الإمام أحمد: «هذا خبر موطوء (مشهور) في المدينة». ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله"(2/1080) عن الليث بن سعد أنه قال: «أحصيتُ على مالك بن أنس سبعينَ مسألة، كلها مخالفة لسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قال فيها برأيه. ولقد كتبت إليه أعِظهُ في ذلك»(جامع بيان العلم وفضله: 2/182، ومنها ما ورد في رسالته المشهورة: رسالة الليث إلى الإمام مالك. انظرها في: إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، إذ فيها من العلم وفقه الخلاق بين الأئمة ما جعلهم أن يكونوا أعلاما في العلم أعلاما في الأدب والأخلاق). فإذن مؤاخذات هؤلاء على مالك رحم الله الجميع مؤاخذات من جانب الرأي عنده، مما يتأكد بهذه الرويات وبغيرها أن الرأي لم يكن مهجورا عنده رحمه الله تعالى، بل كان معمولا به لإبراز محاسن الاسلام على وفق مقاصده الشرعية. ولو كنا في معرض الرد على مؤاخذاتهم مما له وجه أو أوجه من النظر عند من ردوا على من رد على الإمام، ولكننا أوردناها لحيثية الرأي الذي لم يهجره.