قضايا ومناقشات لا جدال في أن القرار الفلسطيني (سلطة رام الله) والعربي (لجنة متابعة مبادرة السلام العربية في الجامعة العربية) جاء نتيجة الهروب من دفع ثمن فشل استراتيجية الرهان على أميركا والمفاوضات والتسوية. كان من الضروري أن تسقط هذه الإستراتيجية تحت ضربات إخفاقاتها المتكرّرة، وما قامت به من تغطية للتوسّع الاستيطاني وتهويد القدس، ومن اتفاق أمني أميركي-إسرائيلي مع محمود عباس-سلام فياض لتصفية المقاومة والحيلولة دون اندلاع انتفاضة أو أيّ مقاومة شعبية جادّة ضدّ الإحتلال (مواجهة الحواجز وقوات الإحتلال والمستوطنين والمستوطنات). علماً أن سقوطها كان مستوجباً لاعتبارات مبدئية تستند إلى الثوابت الفلسطينية وميثاقيْ م.ت.ف 1946 و1968، فضلاً عن المنطلقات التي تشكلت على أساسها كل فصائل المقاومة التي كان اسمها الثورة الفلسطينية. وذلك حين كان الهدف تحرير فلسطين المغتصبة عام 1948 وكان الكفاح المسلح هو الإستراتيجية الوحيدة لتحقيق ذلك الهدف. بدلاً من ذلك اختير الهروب من خلال اللجوء إلى هيئة الأممالمتحدة مع التأكيد على التمسّك باستراتيجية المفاوضات والتسوية. ومن ثم الرهان على أميركا كما تقتضي تلك الإستراتيجية. ولكن الذي أنقذ فضيحة هذا الهروب جاء من موقف حكومة نتنياهو المتشنج ضدّ هذه الخطوة من جهة وموقف الإدارة الأميركية التابع له بمعارضة هذه الخطوة من جهة أخرى، الأمر الذي حوّلها (خطوة الهروب إلى هيئة الأممالمتحدة) إلى معركة سياسية حول تصويت أعضاء الجمعية العامة: الاعتراف أو عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود قرار 242 عام 1968. أي الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) المحتلة في حزيران 1967، كما الاعتراف بالعضوية في هيئة الأممالمتحدة. هنا بدأت التحليلات من قبل الكثيرين تدور حول أهمية هذه المعركة لعزل حكومة نتنياهو دولياً وإحراج أميركا، ومن يمكن أن يعترض على مشروع القرار. ومن ثم من ذا الذي يحق له، أو يستطيع، من بين الفلسطينيين والعرب والمسلمين الاعتراض على أهمية هذه الخطوة؛ أفلا يلتقي ذلك موضوعياً مع موقفيْ حكومتي الكيان الصهيوني وأميركا؟ لهذا يجب أن تُبتلع هذه الخطوة ويُدافع عنها أو الانقياد وراء جوقة المضخمين لأهميتها، كما لو كانت الخطوة المُثلى والبديل الذي لا بديل خيراً منه. أما إذا لم تفعل فأنت تضع الحَبّ في طاحونة أميركا والكيان الصهيوني. هذا النهج كان وراء كل التنازلات الفلسطينية والعربية؛ لأن ما من تنازل قُدِّم حتى الآن إلاّ رُفِضَ بشكل أو بآخر من جانب الكيان الصهيوني. بل ما من مشروع للتسوية أو لإطلاق التسوية تقدّمت به أميركا نفسها إلاّ واجه تحفظاً من جانب الكيان الصهيوني أو رفضاً، أو إضافة شروط عليه. فعلى سبيل المثال الذهاب إلى مؤتمر مدريد بعد حرب الخليج الثانية، كان مرفوضاً من جانب حكومة الليكود وشارك فيه شامير تحت الضغط الشديد، وعلى عينيه، وبهدف حرفه حتى عن الهدف الأميركي الذي تُوّخيَ منه. ولكن ابتلاعه عربياً وفلسطينياً استند فيما استند إليه باستخدام حجّة رفض الكيان الصهيوني له وإحراجه وعزله دولياً وحتى عند أميركا نفسها. طبعاً كل هذا المنطق ذهب أدراج الرياح، ولم يتحقق على أرض الواقع، ولم يبق غير التنازل الفلسطيني والعربي فيه، ومنه. أوَلم يحدث الأمر نفسه في الترويج لمشاريع التسوية التي حملها جورج ميتشل في عهد أوباما. وقد أضيفت حجّة جديدة هي ضرورة دعم أوباما وتشجيعه ليمضي قدماً في التناقض مع نتنياهو. ثم ألم يسبق ذلك الترويج لمبادرة السلام العربية سيئة الذكر والأثر من خلال الادّعاء بأنها ستعزل الموقف الإسرائيلي وتحرجه وتجعل العرب يكسبون أميركا ولو جزئياً. إنها القصة المكرّرة نفسها، ولنقل منذ قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 حتى الآن. والدليل لنقف أمام كل ما يُقال في الترويج لقرار اللجوء إلى هيئة الأممالمتحدة (الملتهب حالياً): ابتداء في القول بأهميته وإنزال العزلة بالكيان الصهيوني وإحراج أميركا والغرب. وإذا كان هنالك من ملحوظات فهي لتحسين أداء الذين سيحملونه إلى هيئة الأمم. وبالمناسبة حجّة بعض مؤيديه من العرب ممن يشعرون باستمرار الدوران في الإطار نفسه وهي أنهم يفعلون ذلك تلبية لرغبة الفلسطينيين. ومن هم أولئك الفلسطينيون؟ إنهم سلطة رام الله وجماعة المفاوضات والتسوية والرهان على أميركا. والآن لندع جانباً هدف الهروب من إخفاقات طريق المفاوضات والتسوية والرهان على أميركا. وذلك لننظر في الإشكالية الجوهرية التي يتضمنها إصدار قرار من الجمعية العامة وفقاً للمشروع الفلسطيني-العربي المقدّم بالإعتراف بالدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967. هذا الاعتراف يتضمن، بصورة مباشرة وغير مباشرة اعترافاً بدولة الكيان الصهيوني ضمن حدود ما قبل حزيران 1967. وهو هديّة مجانية تقدّم للكيان الصهيوني من جانب الجمعية العامة. وذلك بتخطي قراريها الخاصين بالتقسيم 181 وبقبول عضوية الكيان الصهيوني التي اشترطت العودة إلى حدود قرار التقسيم أي أقل من 24% من مساحة فلسطينالمحتلة فوق قرار 181 الظالم وغير الشرعي والمخالف، أصلاً، للقانون الدولي وميثاق هيئة الأممالمتحدة. إذن نحن هنا أمام تنازل استراتيجي ومبدئي في القضية الفلسطينية مقابل ما يُساق من حجج عزل الكيان الصهيوني وإحراج أميركا وكسب معركة سياسية ضدّ نتنياهو، وتثبيت ما يُسمّى دولة فلسطينية في حدود 67 مع بقاء الإلتزام الذي قدّمته سلطة رام الله واتفاق أوسلو بقبول تعديل تلك الحدود. فكيف يمكن أن يُضحّى بما هو تنازل استراتيجي مقابل "مكسب" تكتيكي سرعان ما سيتبيّن بأنه حبر على ورق من الناحية العملية شأنه شأن كل قرارات هيئة الأممالمتحدة. ولنتذكر أن كل قرارات هيئة الأممالمتحدة ابتداء من قرار 181 عام 1967 الذي أعطى "شرعية" (مزوّرة في حقيقتها) أعلن قيام دولة الكيان الصهيوني تحت رايتها وصولاً إلى قرار 242 عام 1968، وانتهاء بكل قرار لاحق، وأخيراً مشروع القرار الذي نحن في صدده، كانت تكريساً، على مراحل، لتثبيت قيام دولة الكيان الصهيوني وتكريس ما فعل من توسّع وتهجير وتهويد. بل إن تأييد قرارات هيئة الأممالمتحدة أو المطالبة بتنفيذها أصبحت الفخ لكل قادم جديد باتجاه التنازل عن ثوابت القضية الفلسطينية، فبدلاً من أن تُذكر التنازلات التي تضمنتها تلك القرارات يُشار، فقط، إلى القرارات والمطالبة بتنفيذها. وهنالك قادمون جدد سبق أن اعترضوا على اتفاق أوسلو وتحفظوا عنه وجدوا ضالتهم الآن بالدفاع عن مشروع قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 67، ليقدّموا أوراق اعتماد جديدة من خلال مشروع أو هدف "الدولة الفلسطينية في حدود 67". إن هذا المشروع منذ إرهاصاته الأولى في مشروع النقاط العشر عام 1974 وصولاً إلى قرار المجلس الوطني في الجزائر عام 1988 بإعلان قيام دولة فلسطين وفق لحدود قرار 242، شكّل لعنة على جوهر القضية الفلسطينية. جوهر القضية الفلسطينية تحرير فلسطين من النهر إلى البحر وعودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية التي هجروا منها، ولكنه دِيسَ تحت أقدام مشروع الدولة الفلسطينية في حدود 67. وقد امتدّت هذه اللعنة لتغيّر في جوهر مقاومة الإحتلال ودحره بلا قيد أو شرط عن الضفة الغربية وقطاع غزة إلى صراع حول الاعتراف بقيام دولة فلسطينية، وهذا ما أنجزه اتفاق أوسلو وسياسات محمود عباس-سلام فياض. والغريب أن بعض الذين يروّجون لمشروع الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 67 بالقول إنه سيحوّل الوجود الصهيوني في الضفة والقطاع إلى حالة احتلال. عجباً، ما الذي أسقط سمة الإحتلال الصهيوني للضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبح من الضروري الآن استعادتها لسمة الاحتلال؟ أليس هو اتفاق أوسلو ومشروع الدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967؟ مشروع الدولة الفلسطينية وضع العربة أمام الحصان بدلاً من أن يبقي الأولوية للإحتلال ومقاومته ودحره (وبعدئذ لكل حادث حديث). أصبح الاعتراف بالدولة الفلسطينية يتطلب التنازل المسبق عن 78% من فلسطين وحق العودة واستراتيجية التحرير والمقاومة. وغدا مشروع الاعتراف بالدولة الفلسطينية المقدّم إلى الجمعية العامة هدية مجانية لاعتراف هيئة الأمم بدولة الكيان الصهيوني في حدود ما قبل حرب حزيران 1967. وبكلمة أخرى، بدلاً من أن تكون الدولة نتاج تحرير فلسطين أو في الأقل نتاج دحر الاحتلال عن الضفة والقطاع بلا قيد أو شرط أصبح المطلوب أن يدفع ثمنها من الأرض والثوابت والحقوق، وذلك ما دامت عُرضت في المزاد العلني وللمساومة الدولية أولاً ثم مع الكيان الصهيوني عند التنفيذ ثانياً.