قصة هذا الحوار بيني وبين أخي العزيز أحمد الريسوني –حفظه الله- تعود أصولها إلى الحوار الذي أدلى به لجريدة أخبار اليوم بعد 20 فبراير 2011 وعبر فيه عن عدد من الآراء والمواقف فيما يخص الأحداث الجارية آنذاك في العالم العربي وتفاعلاتها بالمغرب، وقد أورد في حديثه بعض الآراء تتعلق بالحرية والمبادرة داخل التنظيمات وكذا تعدد الانتماءات وموجباتها، مما كان يستدعي مناقشة وتمحيصا. وقد أعددت رسالة في الموضوع وكان العزم على إرسالها خلال تلك المرحلة غير أن ذلك لم يتم لأسباب متعددة. وحينما تيسر ذلك أرسلت ملاحظاتي للدكتور أحمد يوم 21 يوليوز 2011 من مراكش مكان قضاء جزء من عطلتي السنوية وقد عنونت المراسلة الإلكترونية ب"التأخر في الوصول خير من عدم الوصول"، فكان جوابه تحت عنوان "حوار حول حوار" مما أوحى لي بفكرة تعميم مضامين هذا النقاش ونشره على صفحات جريدة التجديد خلال شهر رمضان الكريم لما أقدر أن فيه فائدة للجميع فعرضت الفكرة على الدكتور أحمد الذي رحب بها ولم ير مانعا من ذلك. وقد وافق القائمون على جريدة التجديد مشكورين ورحبوا بالفكرة بصدر رحب وواسع إسهاما منهم في إثارة النقاش حول قضايا أساسية في العمل الإسلامي يستحسن الحديث بشأنها في أجواء هادئة وصافية تيسر للمتتبعين والعاملين فرصة التأمل فيها بعيدا عن مؤثرات وتأثيرات الأحداث. أخي العزيز أحمد ؛ ومن بين ما جاء في حواركم أيضا أنكم تعلمون " أن الحزب قرر عدم المشاركة باسمه وهيئته، ولكنه لم يقرر منع أعضائه من المشاركة. ولو فرضنا أنه قرر ذلك هذه المرة أو في مرة أخرى، فأنا لا أقبل هذا الحجر على العباد. فلكل أن يبادر ويمارس حريته ويصونها، والمحاسبة تكون على الإساءة والإضرار ومخالفة المبادئ والالتزامات المعتمدة". إن الذي يفهم من كلامكم وإن كان المقصود به التعليق على حادثة أو نازلة معينة ومحددة تخص الحزب، غير أن ما قررتموه من حكم بخصوص ذلك يكتسي طابعا عاما يعم كل من هو على شاكلته وأفهم منه أنه يسري على كافة التنظيمات بما فيها الحركة، ولذلك أحببت أن أشير في هذا المقام إلى بعض غموض أو تناقض فيما أوردتموه، اعتمادا على ما جاء في الميثاق أيضا وكذا في بعض كتاباتكم. ويمكن إجمال ذلك تحت ثلاثة عناوين أو ثلاث قواعد: 1 - المواثيق وما يبنى عليها من وثائق تفصيلية، عقود والتزامات ؛ 2 - ليس في الوفاء بمقتضيات التزام المرء نقص أو انتقاص لحريته ، وإن كان في ذلك تقييد لها بمحض اختياره ؛ 3 - الحجر على العباد غير مقبول، والمبادرة مرغب فيها، وممارسة الحرية وصيانتها واجب، والمحاسبة تكون أولا على مخالفة المبادئ والالتزامات المعتمدة وتتأكد عند الإساءة والإضرار. 1 - المواثيق وما يبنى عليها من وثائق تفصيلية، عقود والتزامات: لقد "جاء هذا الميثاق يحدد مرجعية الحركة ويوضح مبادئها وأهدافها ومجالات عملها، ويكون الأساس الذي تبنى عليه الوثائق التفصيلية الخاصة بالتصورات وبرامج العمل. وينبغي أن يفهم ميثاقنا هذا على أنه مجموعة من المبادئ و الأصول الإسلامية الثابتة، ومن الاجتهادات والاختيارات التي استقر عليها الرأي في الحركة وتعاقد عليها أعضاؤها، وهي كلها مستمدة من الكتاب والسنة اللذين يمثلان عروتنا الوثقى وميثاقنا الأعلى. فهو ميثاق بمعنى خاص لا يتنافى مع الميثاق العام وهو السمع والطاعة لأمر الله ورسوله : ?واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا? (المائدة-8). إن ميثاقنا هذا يشبه الوثيقة الظرفية التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينةالمنورة، فكانت مجموعة من بنودها تنظم جملة من الأمور بين المسلمين وأنفسهم، ومجموعة ثانية تنظم أمورا أخرى بينهم وبين بقية سكان المدينة من المشركين واليهود، وما لم يذكر في الوثيقة فمرده إلى الله ورسوله، ونحن أيضا نؤكد أن ما لم يذكر في ميثاقنا هذا فمرده إلى الله ورسوله، وما ذكر فيه فهو موافق لهما إن شاء الله، ونحن مستعدون للرجوع عن الخطأ إذا ثبت بدليله، والمجتهد دائر بين أجرين و أجر واحد. لقد أمرنا الله عز وجل بتوثيق العقود وكتابتها صغيرة أو كبيرة، فقال سبحانه }ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا{ (البقرة-281) وأمرنا بعد توثيقها بالوفاء بها ، فقال عز وجل ?يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود? (المائدة-1) وأحق العقود بالتوثيق وبالوفاء ما كان في سبيل دين الله ودعوته، وفي مقابل هذا أبطل الإسلام كل عقد يتعاقد فيه أصحابه على بدعة مخالفة للإسلام أو عقد يؤصل أصولا يراد لها أن تحل محل أصول الإسلام أو عقد يريد حصر الإسلام في أجزاء منه يكون عليها وحدها الولاء والبراء والحب والبغض ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :''من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق" ." (الميثاق) 2 - ليس في الوفاء بمقتضيات التزام المرء نقص أو انتقاص لحريته، وإن كان في ذلك تقييد لها بمحض اختياره: وهنا أكتفي بإيراد بعض ما جاء في الميثاق كمبادئ ومنطلقات بخصوص (الحرية والشورى) و(الطاعة والانضباط): "ونقصد بالحرية ما فضل الله به الإنسان من حرية في اتخاذ القرار بما فيها القرار المتعلق بمصيره الأخروي وهي حرية تترتب عنها مسؤولية يتحمل الإنسان فيها عواقب اختياره وتصرفه. (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويومن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) (البقرة-255). ولاحق لأحد أن يسلب من أحد ما منحه الله تعالى لا باسم الدعوة ولا باسم غيرها قال تعالى: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر" (الكهف-29) وقال: }من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد{(فصلت-45) وقال: }فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر{ (الغاشية-21- 22 ) وقال أيضا: "وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد" ( ق-45) ولا يمكن إلا أن نحترم هذه الحرية التي كرم الله بها بني الإنسان ونحن منهم، ولا يمكن أن يدخل الناس إلى الإسلام أو الدعوة أو الحركة إلا من طريق الاقتناع القائم على الحجة والدليل والرضى المؤسس على العلم والمعرفة المؤديان إلى الاستجابة الذاتية للدعوة. بيد أن الشخص الذي يختار بحريته ورضاه الانضمام إلى حركة التوحيد والإصلاح والعمل فيها يكون ملزما بما التزم به، مطالبا بالوفاء بمقتضيات التزامه. وليس في هذا نقص أو انتقاص لحريته، بل هي ممارسة منه لحريته وإعمال لها وتحمل منه للمسؤولية التي تلازم الحرية. وإن التزامنا بالشورى والعمل الشوري هو أفضل مجال وأرقى ممارسة للحرية المسؤولة. ونقصد بالشورى ذلك الخلق الإسلامي الذي يقابل الاستبداد بالرأي والإعجاب به، فقد كانت الشورى خلق الأنبياء كما كان الاستبداد خلق الطغاة والجبابرة، وليس للشورى مجال واحد بل مجالاتها هي الحياة، فالله تعالى علمنا أن نحسم تدافع الإقدام والإحجام في مواقف الحياة باستخارة الخالق واستشارة المخلوق، ولو كان أحد مستغنيا عن الشورى لكان الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه كان مؤيدا بالوحي. وكان على غاية الفطنة والعقل و سداد الرأي بالمحل، و مع ذلك لم يكن أحد أكثر استشارة لأصحابه منه، وأقره الوحي على ذلك وأمره أن يستمر عليه قال تعالى: }فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر{ (آل عمران-159). كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير في أمور البيت والأسرة وفي أمور السياسة والحرب وفي أمور المال والاقتصاد وفي أمور الطب والعلاج... وكان التشاور ميزة الجماعة المسلمة كلها فقد مدح الله تعالى المسلمين في مكة قبل أن يهاجروا بأن أمرهم شورى بينهم ، والأمر هنا عام يشمل كل أمر مشترك يحتاجون فيه إلى رأي يعتمد و قرار يتخذ. وفائدة الشورى في الأمور الخاصة و العامة أنها تجمع العقول القادرة على الاجتهاد للنازلة المعروضة ولن تعدم الرأي الصواب باجتماعها وتداولها للرأي. وكما يحصل الاطمئنان للرأي الذي أسفر عنه التشاور سواء كان تصورا فكريا أو فتوى فقهية أو قرارا عمليا. ولتكون الشورى إيجابية نافعة لا بد أن تقترن بها أخلاقها المذكورة في الآية السابقة من سورة آل عمران فتجب العناية بهاته الأخلاق لأنها تمثل الجانب الإنساني الذي يتكامل مع الجانب الإداري المتمثل في المساطر المنظمة للشورى والإجراءات التي تيسرها. وبناء على الحرية و الشورى اللتين تقدم معناهما سالفا نطالب باحترام العهود التي رضيها الفرد داخل الحركة، ورضي الطريقة المتبعة في إبرامها وإقرارها. نحن نحترم عهودنا ونفي بها، ويحاسب بعضنا بعضا على ما التزمنا به منها، فما كان منها ثابتا بالكتاب والسنة مما يتم به عقد الإسلام والإيمان، فلا نحتاج فيه إلى تشاور واتفاق، لأنه شرط أولي للعضوية لا يقبل من الفرد التفريط فيه، مثل توحيد الله تعالى وفعل ما أمر به وأوجبه واجتناب ما نهى عنه وحرمه، وما عدا ذلك من أعمال الدعوة التي تقوم بها الحركة فنفرق فيها بين ما اتفقنا عليه بالتشاور بيننا، وبين ما هو رهن النقاش. فما صدر فيه قرار فنحن ملزمون به شرعا لأن الشورى لا تستمر إلى غير نهاية، بل بعدها يكون العزم والتوكل على الله وإنفاذ المتفق عليه، ولا فرق في إلزامية القرار الصادر عن التشاور بين من كان يؤيده ومن كان يعارضه إذا صدر بصورة صحيحة مشروعة. وما لم نتشاور فيه ولم نتخذ فيه قرارا بعد فهو مفتوح للتفكير والاجتهاد، ومن حق كل فرد داخل الحركة أن يدلي برأيه ويبلغه إلى من يهمه الأمر وعليه أن يبتغي به وجه الله، ويتحرى فيه الصواب. إن من حق كل فرد على الحركة أن تقف إلى جانبه إذا منع من التعبير عن رأيه ومن واجبها أن تقف في وجهه إذا اشتط في استعمال هذا الحق على حساب الشورى والتزاماتها." "ونقصد بالطاعة والانضباط الالتزام بالقرارات التي تتخذها الحركة ومسؤولوها طاعة لله ورسوله وخدمة لدينه ودعوته، ذلك أن الشورى التي تفرز هذه القرارات لا فائدة منها إذا بقيت حبرا على ورق وتَنافس أفراد الحركة في تعطيلها وتوقيف العمل بها. إن الشورى ليست مقصودة لذاتها بل هي طريق من طرق الوصول إلى القرار الراشد الذي تجتمع له بركة الجماعة عند اختياره وعند تنفيذه. وكما يتحمل العضو المسؤولية عندما يطلب رأيه في موضوع يجري التشاور بشأنه، فإنه يتحمل المسؤولية نفسها تجاه القرار الذي أفرزه التشاور. ومسؤوليته في الحالتين أن يكون ناصحا لله ولرسوله وللمؤمنين. وقد أمرنا الله تعالى بطاعة أولي الأمر بعد الأمر بطاعته وطاعة رسوله، لأنهم ينفذون أمر الله ورسوله بعد أن يعلموه من أدلته، وما لم يكن له دليل صريح مباشر استنبطوه من النصوص العامة، واعتمدوا الشورى والاجتهاد الجماعي للوصول إلى حكمه، قال الله عز وجل: ?يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا? (النساء-58) . فكل من ولي أمرا من أمور المسلمين فهو أميرهم فيه، ولو سفرا من الأسفار، فله عليهم حق الطاعة بالمعروف، خاصة إذا كان يذكر لهم دليل ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه، ويشاورهم فيما لا نص فيه، وينزل عند رأيهم إذا رجح على رأيه. وهاهنا موقف الوسط بين التمرد على القرارات الشورية وبين الطاعة العمياء، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فمن كلف بشيء حرام فلا طاعة عليه فيه، وكذلك لا طاعة فيما لا يستطاع، أما ما سوى ذلك من الأمور والتكليفات التي تقررها هيئات الحركة ومسؤولوها في حدود اختصاصاتهم وواجباتهم فتجب طاعتها ولو كانت على غير رأيه وبخلاف ميله ورغبته. وهذه هي الطاعة في المنشط والمكره التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم. "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" ." 3 - الحجر على العباد غير مقبول، والمبادرة مرغب فيها، وممارسة الحرية وصيانتها واجب، والمحاسبة تكون أولا على مخالفة المبادئ والالتزامات المعتمدة وتتأكد عند الإساءة والإضرار : أ- إن الحجر على العباد غير مقبول وإلزامهم بتنفيذ القرار لا يصح إذا صدر هذا القرار من هيئة بصورة غير صحيحة وغير مشروعة، كما أن هذا الحجر غير مقبول من طرف المعارضين للقرار إذا صدر بصورة صحيحة ومشروعة وذلك من خلال السعي إلى فرض الأمر الواقع وإفراغ القرارات من مضمونها العملي والدعوة إلى مخالفتها لأن في هذا تضييق وحجر على العباد المؤيدين " فما صدر فيه قرار فنحن ملزمون به شرعا لأن الشورى لا تستمر إلى غير نهاية، بل بعدها يكون العزم والتوكل على الله وإنفاذ المتفق عليه، ولا فرق في إلزامية القرار الصادر عن التشاور بين من كان يؤيده ومن كان يعارضه إذا صدر بصورة صحيحة مشروعة." ب- إن المبادرة مرغب فيها ومطلوبة وقد تغدو واجبة في بعض الأحيان "وما لم نتشاور فيه ولم نتخذ فيه قرارا بعد فهو مفتوح للتفكير والاجتهاد، ومن حق كل فرد داخل الحركة أن يدلي برأيه ويبلغه إلى من يهمه الأمر وعليه أن يبتغي به وجه الله، ويتحرى فيه الصواب. ج- ممارسة الحرية وصيانتها واجب: "لا يمكن إلا أن نحترم هذه الحرية التي كرم الله بها بني الإنسان ونحن منهم، ولا يمكن أن يدخل الناس إلى الإسلام أو الدعوة أو الحركة إلا من طريق الاقتناع القائم على الحجة والدليل والرضى المؤسس على العلم والمعرفة المؤديان إلى الاستجابة الذاتية للدعوة." و "إن من حق كل فرد على الحركة أن تقف إلى جانبه إذا منع من التعبير عن رأيه ومن واجبها أن تقف في وجهه إذا اشتط في استعمال هذا الحق على حساب الشورى والتزاماتها." د- المحاسبة تكون أولا على مخالفة المبادئ والالتزامات المعتمدة وتتأكد عند الإساءة والإضرار: "وبناء على الحرية و الشورى اللتين تقدم معناهما سالفا نطالب باحترام العهود التي رضيها الفرد داخل الحركة، ورضي الطريقة المتبعة في إبرامها وإقرارها." و"نحن نحترم عهودنا ونفي بها، ويحاسب بعضنا بعضا على ما التزمنا به منها" "وحتى تسير هذه الأنواع من العمل الإسلامي في انسجام لابد من خطط ونظم وقوانين، ولابد من مؤسسات ولجان ومسؤولين ومهام، ولابد من اجتماعات ولقاءات ومشاورات وقرارات، ولا بد من محاسبة ومراجعة وتقويم، وهذا لا يكون بغير عمل جماعي منظم يجد فيه كل مسلم مكانه ويمارس فيه دوره فيخدم دينه ودعوته بما يحسن، في الوقت الذي يقوم غيره على ثغور أخرى." وأستميحك عذرا أيها الشيخ الموزون أن أورد هنا فقرة كاملة من مقال سابق لك حول "العمل بالأغلبية" تحت عنوان "السيرة النبوية والأخذ بالأغلبية" خلصت فيه إلى أن " الحقيقة أنه لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أمر، ثم خالف رأيهم أو رأي أكثريتهم فيه، بل الثابت هو العكس." وأنه "... كان بإمكان النبي الأمين صلى الله عليه وسلم في جميع هذه الحالات، وغيرها مما لم أذكره، أن يستعمل صلاحيته النبوية، أو صلاحيته القيادية، فينفذ ما يراه بمفرده، أو ما يراه وقلة من الصحابة، ولكنه لم يكن يفعل. وإن في ذلك لمغزى ومنهجا، يجب فهمه واتباعه." السيرة النبوية والأخذ بالأغلبية: نبي الله كما هو معلوم مؤيد بالوحي معصوم. فلو أنه لم يستشر قط في حياته أحدا لكان الأمر واضحا لا غبار عليه. ولكنه عليه الصلاة والسلام كان يتصرف ليَسُن لأمته، وليرسم النهج للأئمة من بعده. فلذلك كان يستشير ويكثر الاستشارة، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه : (ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم)[10 [ لكن هل كان يلتزم في مشاوراته مع الصحابة الأخذ برأي أكثريتهم، أم يُمضي ما يراه حتى لوكان على خلاف مستشاريه ؟ الحقيقة أنه لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أمر، ثم خالف رأيهم أو رأي أكثريتهم فيه، بل الثابت هو العكس. وفيما يلي نماذج من ذلك. في غزوة بدر: لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن قريشا قد تجهزت لقتال المسلمين، استشار الصحابة في شأن الاستعداد لملاقاة قريش ومناجزتها. فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو، وكلهم أيدوا الرأي النبوي لمواجهة قريش، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا كلهم من المهاجرين، وكان عليه السلام يريد أساسا معرفة رأي الأنصار، فاستمر يقول: "أشيروا علي أيها الناس". قال ابن إسحاق: "وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس". - 11 -(أي أكثريتهم). فقد كان عيله السلام، حريصا على معرفة رأي الأكثرية، ومدى استعدادهم للقتال ضد قريش. فلذلك أراد أن يسمع رأي زعماء الأنصار بالذات. فلما علموا هذا وفهموه، قاموا فأعلنوا تأييدهم وجاهزيتهم للمعركة. فلما ضمن ذلك وتأكد منه، بتصريح سادتهم وزعمائهم أمر بالانطلاق قائلاً: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم". 12- - وفي غزوة أُحُد : لما علم المسلمون بتجهز قريش وتحركها لمقاتلتهم بالمدينة، استشار عليه السلام عموم الصحابة، فكان رأي أكثرهم الخروج لمناجزة المشركين خارج المدينة، حتى لا يظن الأعداء وعموم العرب، أن المسلمين ضعفوا وجبنوا. وكان رأي النبي وجماعةٌ من شيوخ الصحابة، هو المُكث في المدينة، فإذا دخلها المشركون سهُل على جميع المسلمين الانخراط في قتالهم، ومع ذلك فقد أخذ عليه الصلاة والسلام، برأي الأكثرية المخالفة لرأيه. وفي غزوة الأحزاب: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تحالف المشركين واليهود والمنافقين، وحصارهم للمدينة، قد أوقع المسلمين في خطر ماحق، فكر في خطة يكسر بها هذا الحصار المطبق، فلجأ إلى أضعف حلقاته، قبيلة غطفان، ففاوض زعماءهم، وعرض عليهم الخروج من هذ الحلف مقابل ثلث ثمار المدينة لتلك السنة، فقبلوا. لكنه اشترط مشاورة أهل الثمار، وهم الأنصار أهل المدينة. فلما عرض الأمر على زعماء الأنصار، سألوه إن كان هذا وحيا من الله فيطيعوه، أو هو شيء يحبه النبي ويرغب فيه فيلبوا رغبته، أم هو شيء يصنعه رفقا بهم وتخفيفا عليهم ؟ فلما أخبرهم أنه اجتهاد منه ليخفف عنهم وطأة الحصار، قالوا على لسان سعد بن معاذ : "يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذاك" فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا" - 13 - لقد كان بإمكان النبي الأمين صلى الله عليه وسلم في جميع هذه الحالات، وغيرها مما لم أذكره، أن يستعمل صلاحيته النبوية، أو صلاحيته القيادية، فينفذ ما يراه بمفرده، أو ما يراه وقلة من الصحابة، ولكنه لم يكن يفعل. وإن في ذلك لمغزى ومنهجا، يجب فهمه واتباعه.