اختارت ليبيا سلطاتٍ وعناصر جهادية وعلماء وشعبا طريق الحوار والمصالحة مع جزء من أبنائها، وأصر هؤلاء جميعا على التغلب على كل العقبات والإكراهات، وتوحدوا من أجل مصلحة واحدة وهدف واحد وهو مصلحة ليبيا وأمنها واستقرارها، فبدلوا أزيد من ثلاث سنوات من الإصرار والعمل والجهد فكانت النتيجة أن التجربة الليبية أضحت نموذجا في المعالجة الحوارية لملف السلفية الجهادية وقضية الارهاب.. وهذا الحوار يفتح بعض النوافذ من خلال الوسيط الشرعي بين الدولة والجماعة الليبية المقاتلة د. على الصلابي، وذلك من أجل التعرف على بعض خلفيات هذه التجربة ورجالاتها ومراحلها وحقيقتها، فإلى نص الحوار: ماذا تبقى من ملف الجماعة الليبية المقاتلة بعد الإفراج مؤخراً عن أكثر من 200 عنصر؟ بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله صحبه وسلم وبارك عليه، قال تعالى: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم. الحمد لله كما قال الدكتور سيف الإسلام في خطابه الصحفي بهذه المناسبة وصلنا إلى قمة الجبل، وهذا الكلام صحيح من حيث إن الذين خرجوا من السجن كأمير التنظيم وهو عبد الحكيم بالحاج ويعرف بأبي عبد الله الصادق، وأيضاً المنظر الشرعي الأخ الشيح أبو منذر السعدي هو الأخ سامي السعدي، وأيضاً خالد الشريف وهو المسؤول الأمني والعسكري للتنظيم، وأيضاً في دفعات خرجت من الجماعة الليبية المقاتلة عشرات سابقة والآن خرج عشرات آخرون، والدولة الليبية يبدو أنها حلت ملف هذه الجماعة المقاتلة واقتنعت بأنها لا تشكل خطرا، لكن الملف يخضع للرؤية الأمنية بشأن إخراج هؤلاء المواطنين على دفعات حتى تضمن الدولة اندماجهم في المجتمع أو تحترز من أي ردود أفعال، إذ إن القيادة الأمنية في ليبيا تخشى أن تخطوا خطوات غير مسحوبة حتى لا تضطر للرجوع خطوات إلى الخلف، وتحاول أن تكون أي خطوة مدروسة بحيث يأمنوا حدوث أي نوع من الرجوع أو ردة الفعل، وإلى الآن ومنذ سنتين خرج 90 شخصا ثم 85 آخرون، وأثناءها تم إخراج العشرات بالعشرين وبالخمسة عشر فردا على دفعات، إذ وصل عدد المفرج عنهم إلى حوالي 700 ولم يبق إلا حوالي ,409 وقد قال الدكتور سيف في خطابه الأخير إن حوالي 234 يهيئون للخروج في الفترة القادمة بإذن الله تعالى. بالنسبة للإفراج هل تم تحت مظلة سيف الإسلام فقط أم هو حاصل بموافقة من الزعيم معمر القذافي؟ طبعاً لا شك أن موقف القيادة السياسية العليا موقف مثمن وشجاع وموقف إيجابي وحكيم، خصوصا إذا عرفنا أن الجماعة الليبية المقاتلة حاولت قتل العقيد القذافي مرات عديدة، ولذلك يدخل إفراجه هذا عن أعضاء هذه الجماعة في مكارم الأخلاق، أي العفو عند المقدرة. طبيعي أن هذا الملف خصوصا لا يستطيع أحد أن يحسم فيه بليبيا إلا القيادة العليا، التي تجاوبت مع الحوار. وعدم معارضة خطوات الدكتور سيف الإسلام من أجل الاستمرار في الحوار للوصول إلى هذه النتائج دليل على أن العقيد مقتنع بأن الحوار أجدى من الأساليب الأخرى في معالجة مثل هذه القضايا. هل يمكن أن تعطينا صورة عن المراحل التي مر بها الحوار في ليبيا؟ في المرحلة الأولى كان هناك اتفاق مع الدكتور سيف الإسلام القذافي على نبذ السلاح والعنف مقابل الحرية. المرحلة الثانية هي استيعاب التجارب التاريخية في الخروج على الحكام وعلى الدول المعاصرة أيضاً كالتجربة المصرية واليمنية والجزائرية، ومحاولة الاستفادة من نقاط القوة فيها. المرحلة الثالثة كانت مرحلة للتعارف بين أعضاء اللجنة المكلفة بالحوار، وقد أخذت وقتا حتى تولدت الثقة بين أعضائها، وخصوصاً أن اللجنة تضم مؤسسة القذافي والأجهزة الأمنية وقيادة الجماعة الليبية المقاتلة. المرحلة الرابعة هي تفريغ الشحنات النفسية والعاطفية والتشنجات لدى جميع الأطراف، بحيث عبر كل طرف عن رأيه وأفكاره وعن دوافع الخروج أو دوافع استخدام العنف المضاد، وذلك حتى تهدأ الأعصاب وترتاح الأنفس، وكان سقف الحرية في هذه المرحلة عاليا جداً. في المرحلة الخامسة تمت تهيئة المناخ المناسب كتسهيل زيارات الأسر ومحاولة تحسين الأوضاع الصحية والغذائية في داخل السجن. بعد هذه المراحل كانت الحوارات الفكرية المفتوحة عن كل شيء، عن العراق وعن الاحتلال الأمريكي، وعن أفغانستان وعن طالبان، وعن الإصلاح في ليبيا وعن الدستور وحرية الرأي والتعبير وعن مؤسسات الدولة، وحتى مسألة شهادات الميلاد للأطفال الذين ولدوا خارج ليبيا تمت مناقشتها، كل شيء كان قابلا للنقاش، طبعا هذه المرحلة أخذت أكثر من 60 جلسة أقل مددها ساعتين ونصف وأحياناً خمس أو ست ساعات. أيضا تهيأت ظروف معينة للقراءات المتعمقة وجمعوا هؤلاء الإخوة في أماكن متقاربة بالسجن ووفرت لهم المراجع أو الموسوعات الإلكترونية في أكثر من 12 ألف مجلد من أجل الاستفادة منها في الحوار ثم كتابة الدراسات التصحيحية. هذه أهم المراحل والمحطات التي مر بها الحوار الذي استمر أكثر من ثلاث سنوات. ما عوامل نجاح تجربة ليبيا في محاورة الجماعة الليبية المقاتلة؟ عوامل النجاح متعددة، والله سبحانه وتعالى من سنته في حركة المجتمعات إذا أراد الله شيئاً هيأ له أسبابه، فالقلوب بيد الله ونواصي العباد خاضعة لمشيئته وهو سبحانه وتعالى يقول: كل يوم هو في شأن. حقيقة السبب الرئيسي في هذا النجاح هو شخصية الدكتور سيف الإسلام كشخصية اعتبارية ومحورية، وبحكم علاقته بوالده وبالأجهزة الأمنية، وبحكم اقتناع الجماعة الليبية المقاتلة بالمبادرة، وهو تبنى هذا الملف وجعله هدفا من أهدافه، إذ عامل أعضاء الجماعة المقاتلة بروح أخوية ومعاني إنسانية رفيعة لامست قلوب قيادة هذه الجماعة. فشخصية الدكتور سيف كانت محور اللقاء ما بين قيادة الجماعة الليبية المقاتلة وبين الوسيط، فأنا كنت وسيطا رئيسيا في هذا الموضوع وكنت مقتنعا بما يطرحه الدكتور سيف في هذا المشروع. شخصية سيف الإسلام كانت مؤثرة جداً في الحوار، بل هو الشخصية المحورية في نجاحه مع عوامل أخرى. من الأشياء التي تذكر في هذا المجال أنه في مرحلة من مراحل الحوار اقترحت على الدكتور سيف الإسلام أن يلتقي بالقيادات مثل أبو عبد الله الصادق وعبد الحكيم بلحاج والشيخ سامي السعدي، فقال لي أنا لا أريد أن ألتقي مع هؤلاء الناس وهم في السجن؛ بل أريد أن ألتقي بهم وهم أحرار، بالفعل لما خرجوا من السجن قبل المؤتمر الصحفي الذي عقده الدكتور سيف في الأيام الأخيرة هذه كنا جالسين أنا والدكتور سيف وهؤلاء الإخوة في جلسة أقرب إلى جلسة إنسانية قال لي الدكتور سيف لقد طلبت مني أن نلتقي بهؤلاء القيادات وقلت لك أنا لا أريد أن ألتقي بهم إلا وهم أحرار، وبالفعل أنا ألتقي بهم اليوم وهم أحرار. فهذه الكلمة من الكلمات التي تسجل في سجل الدكتور سيف الإصلاحي، فهو وعد فأوفى، وعد أن يتلقي بهم وهم أحرار ففعل. أود أن أشير إلى أن الدكتور سيف لم يدخل ملف الجماعة الليبية المقاتلة من فراغ، وإنما كانت هناك أياد بيضاء وأحداث ما بعد 11 سبتمبر ,2001 وأسر بعض اللبيين في أفغانستان تفككت، إذ اهتم الدكتور سيف بكثير من عوائل هؤلاء من خلال مؤسسة القذافي الخيرية، وتواصل معهم ونسق مع الحكومة الباكستانية لإطلاق سراحهم، وحتى لا يبقوا مشردين آوتهم مؤسسته وأعادتهم إلى بلادهم معززين مكرمين؛ فكانت هذه من الأيادي البيضاء للإسلام والليبيين عموماً. والنقطة الثانية أيضا دخوله في ملف الإخوان المسلمين وجهوده من أجل إطلاق سراح سجناء الرأي هؤلاء، فكانت هذه أيضا من الأشياء المساعدة على تبني مبادرة الحوار مع الجماعة المقاتلة، خصوصاً وأن الإخوان في تلك المرحلة كانوا في نفس السجن الذي كانت في الجماعة المقاتلة، إذ كان يتم تناقل الكلام بشأن أعمال الدكتور سيف في هذا الملف، وأيضاً رجوع العشرات بل المئات من الليبيين عن طريق مؤسسته إلى ليبيا بعد غياب 18 سنة، وهذه النقطة كانت رسالة للجماعة الليبية المقاتلة بأن هناك تغيير في جانب الحريات. أيضاً بعض العلماء الذين كانوا ممنوعين منذ فترات سابقة من دخول البلاد ناصرهم الدكتور سيف؛ سواء من خلال الحضور الإعلامي أو السماح لهم بالمحاضرات. أيضاً العامل الثاني والرئيسي هو أن زعماء التنظيم، وخصوصا الشخصيتين المهمتين في هذا الموضوع، وهما الشيخ سامي الساعدي أبو المنذر وأبو عبد الله الصادق اللذين حلا بالسجن متأخرين بعد أحداث سبتمبر، إذ تم القبض عليهما في أحداث أفغانستان وتم تسليمهما من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى ليبيا. فالقيادة المقاتلة كانت على دراية بالتطورات والتغييرات الجوهرية الكونية التي حدثت في الساحة العالمية والإقليمية، ومن الطبيعي أن مثل هذه الأحداث تؤثر في تفكير هؤلاء وتجعلهم يرتبون أولوياتهم، وتعطيهم نوعا من الثقافة والأفكار الجديدة؛ بعكس الناس الذين كانوا في السجن وكانوا مقطوعين عن العالم الخارجي منذ التسعينيات، فلما احتك هؤلاء القادة بقواعدهم في داخل السجن استطاعوا أن يطوروهم، وكل هذا جعلهم يتبنون مبادرة الدكتور سيف بقوة، وكان حديثهم يتسم بروح جماعية وبالمنطق والعقل والوسطية والتفكير العميق. أيضاً نقطة أخرى مهمة جدا وهي دعم الأعضاء السابقين للحوار مثل الأخ النعمان بن عثمان، وهو قيادي سابق في الجماعة الليبية المقاتلة، واستطاع أن يسوي موضوعه مع الدولة الليبية من خلال الدكتور سيف، وتولدت علاقة قوية بين النعمان والدكتور سيف، وزار الإخوة في السجن وكان معي في البدايات الأولى في ملف الحوار، وكان حريصاً على نجاح الحوار ودعمه بما يملك لكي ينجح. ومن الشخصيات الأخرى من الجماعة الليبية المقاتلة، والتي صفت ملفاتها مع الدولة الليبية مثل أبو بكر ارميلة وناصر الفاخري، وهؤلاء الإخوة بحكم علاقتهم بالإخوة في الجماعة المقاتلة استطاعوا أن يزوروهم، فكانت رسالة من الدولة الليبية أنكم إذا تغيرتم وغيرتم أفكاركم تكونون أحرارا مثل النعمان وأبو بكر وناصر، والدليل على ذلك أنهم جاؤوا وزاروكم في السجن وهم يخرجون ويسافرون وينتقلون بكل حرية، فكانت هذه من الأسباب التي أسهمت في نجاح الحوار. النقطة الأخرى هي جهود مؤسسة القذافي المتمثلة في صالح عبد السلام وهو أول من كُلف بهذا الموضوع ومتابعته، وقد بذل جهدا يشكر عليه في تذليل العقبات، وكنت على تواصل معه في إرسال الكتب والمراجع والمصادر للمتحاور معهم، وهو يعتبر من الشخصيات التي أسهمت في نجاح هذا الحوار. أيضاً من العوامل التي ساعدت في نجاح هذا الحوار حقيقة الأجهزة الأمنية الليبية التي اختارت مجموعة من أذكياء جهازها الذين تميزوا بحدة الذكاء، سواء أثناء إجراء الحوار والنقاشات أو في البحث عن وسائل وفي الاختبارات التي مرت بها قضية الحوار، وفي النهاية هم رجال أمن وطبيعتهم أنهم يميلون إلى الاحتراز والشك وكثرة الأسئلة الأمنية. وقد استطاع جهاز الأمن الليبي أن يختار شخصيات تعتبر في نظري من الشخصيات الحادة الذكاء؛ منهم العميد صلاح المشري والعميد محمد الكيلاني والمقدم صبري حليلة. عامل آخر للنجاح هو وجود الوسيط المناسب من الناحية الشرعية والفكرية وهو علي الصلابي، وهذا بحكم علاقتي السابقة بالجماعة الليبية المقاتلة كأصدقاء، وخصوصاً مع الشيخ سامي وعبد الحكيم اللذين تربطني بهما علاقة قديمة جدا تمتد لأزيد من عشرين سنة ولّدت ثقة كبيرة بيننا، والنقطة الأخرى أن الدكتور سيف منحني ثقة كبيرة من أجل أن أنجح في المشروع، وقد حرصت بإخلاص وصدق كبيرين على تبني الملف، وبذلت ما في وسعي ولم أغب يوماً واحداً عن المواعيد برغم كثرة أعمالي وانشغالاتي، وذلك لأكثر من ثلاث سنوات، وأعطيت هذا الملف الأولوية القصوى على المؤتمرات والندوات وعلى أعمالي الخاصة وعلى كل شيء، لأسباب عديدة؛ أولا لإيماني بالله سبحانه وتعالى منطلقين من قول الله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيماً، ولحرصي على نجاح المبادرة ورجوعها بالخير على الشعب الليبي وعلى الدولة. أيضا عامل آخر هو مدير السجن، ذلك أنه بعد توفر توجه سياسي من قيادة سياسية متمثلة في شخصية الدكتور سيف الذي أخذ موافقة من القيادة العليا طبيعي أن يحتاج الحوار إلى تهيئة الأجواء، من الذي قام بتهيئة الأجواء؟ إنه مدير السجن العقيد خليفة ارحومة، فقد استطاع أن يوجد أرضية ممتازة وثقة متبادلة بينه وبين قادة الجماعة السجناء. أيضا توفير المراجع اللازمة المتعلقة بمراجعة الأفكار والمناهج والخروج على الحكام وحمل السلاح كان من الأمور المهمة في هذا الجانب. ولا ننسى نقطة مهمة جدا وهي دعاء الصالحين والصالحات من أقارب السجناء وذويهم ممن كانوا يؤيدون هذا التوجه للحوار، ثم الأرضية المشتركة بين القيادة الليبية والسجناء وهي أرضية ثقافية ودينية ووطنية وتاريخية. كيف تم إنتاج كتاب المراجعات الذي أصدرته الجماعة الليبية المقاتلة؟ الحمد لله الكتاب بني على أسس علمية قوية بالرجوع إلى الكتاب والسنة وأقوال العلماء من أمثال الشاطبي وابن حجر والنووي وابن القيم وابن تيمية، خصوصاً الذين تميزوا بالتأصيل سواء القدامي أو المعاصرين، ومن أكثر ممن نقلوا عنهم من المعاصرين الشيخ الليبي صادق الغرياني وأيضا الشيخ الريسوني من المغرب، واعتمدوا في المادة التاريخية على كتبي (علي الصلابي) إضافة إلى الشيخ سلمان العودة والشيخ حسن الشنقيطي. وخضعت هذه الدراسة للتقييم فقرأها عشرة من العلماء مثل الدكتور محمد أحمد الشريف وأثنى عليها، كما أثنى عليها الدكتور عقيل حسين عقيل وهو من الأكاديميين الليبيين ومن المفكرين، وله علاقاته الجيدة والقوية بالدولة ويثق رجال الدولة في تقييمه. إضافة إلى بعض العلماء المحسوبين على التيار الشعبي العام أو تيار الصحوة أمثال الشيخ الدكتور صادق الغرياني والدكتور حمزة أبو فارس، وهما أيضا أساتذة أكاديميون أشرفوا على رسائل ماجستير ودكتوراه كثيرة جدا. هل المراجعات التي تمت في ليبيا نابعة من اقتناع وإيمان أم هي تكتيك لمرحلة محددة؟ عندما تقرأ كتاب المراجعات ترى فيه الصدق في الأسطر والصفحات الأولى وترى فيها الإخلاص، وهذه المراجعات ليست صفحة أو صفحتين، بل هي مئات الصفحات عبرت فيها الجماعة الليبية عن آرائها وأفكارها بكل صراحة وتواضع واعتراف، وكل من قرأ هذا الكتاب سيجد الصدق والإخلاص فيما كتب هؤلاء، حتى إني أذكر أن أحد المسؤولين الكبار عندنا في ليبيا قال كلمة جميلة، قال: كأن الصحابة يكتبون، ومسؤول آخر قال: مع أنني أخالف هؤلاء في الآراء والأفكار، لكن أن يكون في بلدي أناس بهذا المستوى الفكري والتأصيل مع القدرة على المراجعة وبهذا القلم السيال في الكتابة فأنا أعتز بهم. يرى البعض بأن مراجعات الجهاديين عموما لا تشمل مواقفهم من تنظيم القاعدة وأعماله التخريبية، ما رأيك؟ المراجعات الليبية مثلا تبرأت من الأعمال الانتحارية في الغرب، وقد كان هذا الفصل منصوصا عليه في كتابهم، وقد نظروا إلى الأمر وما ترتب على مثل هذه الأعمال من مآلات، إضافة إلى أن الجماعة الليبية المقاتلة ليس لها علاقة بتنظيم القاعدة، بل هي تنظيم نابع من البيئة الليبية نفسها. هل يمكن أن يكون للمراجعات تأثير في فكر الجماعات المقاتلة سواء في ليبيا أو المغرب أو غيرهما؟ هذه تجربة ربع قرن من حمل السلاح والعنف والاحتكاك مع الدولة، ومئات قتلوا فيها من الطرفين، من الدولة والإسلاميين وكل هؤلاء مسلمون، لقد وجد الذين خاضوا هذه التجربة أنفسهم في نفق مظلم. ولذلك لما يتم الحديث عن هذه التجربة سيستفيد الجيل الحالي والجيل القادم، لكن هذا يحتاج إلى أن الدولة تعطيهم الحرية في الحديث والتعبير عن آرائهم والدعوة إلى الوسطية والحكمة والاعتدال، ويعبروا عن آرائهم بصراحة وبوضوح. وهذا طبعا سيؤثر في الشباب تأثيرا إيجابيا بلا شك وتكون فيه فائدة عظيمة للكل. هناك من يقول إن من تراجعوا عن أفكارهم ليسوا قيادات في التنظيم الجهادي، وأن تأثيرهم لن يكون إلا محدود جدا. أبو عبد الله الصادق وأبو المنذر السعدي كان لهما فكر جهادي وخبرة عسكرية في أفغانستان، ولهما علاقاتهما الواسعة مع أصحاب الفكر الجهادي سابقا، وأيضا عبد الوهاب قايد، ومصطفى قنيفيد وأيضاً خالد الشريف وكذلك مفتاح الدوادي، وكلهم أصحاب خبرة واسعة في هذا المجال، وقيادات معروفة في الفكر الجهادي. وعبد الوهاب هذا هو الشقيق الأكبر لأبو يحيى الليبي المعروف في القاعدة. والشيوخ أبو المنذر السعدي وأبو عبد الله الصادق يعتبر أبو يحيى الليبي من تلاميذهم. هل تعتقد أن تجربة المصالحة والحوار مع السلفية الجهادية إذا تمت في المغرب يمكن أن تنجح؟ أكيد أنها ستنجح، ففي المغرب الأرضية الثقافية والتاريخية والحضارية والدينية لنجاح الحوار متوفرة، ولذلك الحوار مع هؤلاء الناس سيجدي ويفيد، خصوصاً إذا قدمت الدولة المغربية شخصيات مقبولة لهؤلاء الشباب تكون أقرب إلى عقليتهم وقلوبهم، ونحن في تجربة ليبيا استفدنا حقيقة من العلامة الدكتور أحمد الريسوني ومن كتاباته، وخصوصاً ما يتعلق بمقاصد الشريعة، ونحن نعتبره من أعلم أهل الأرض في مقاصد الشريعة الإسلامية وفي علم المصالح والمفاسد، فكتبه وأدبياته استفاد منها السجناء، وقد اعتمد معدو كتاب الدراسات التصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس على كتب الدكتور الريسوني، واستفدنا منه أيضا حتى في تقييم الكتاب، هذا العالم الكبير وغيره من العلماء المغاربة ربما يكون لهم دور كبير جدا في تبني ملف الحوار وإنجاحه. الأرضية بالمغرب مشجعة جداً لنجاح الحوار، لكن الحوار يحتاج إلى أن تتبناه القيادة السياسية كما حدث في ليبيا، فالقيادة السياسية هي التي تبنت الحوار ودعمته بقوة، إذا تبنت هذه القيادة فكرة الحوار وحصل العلماء على دعم منها سيتقدم الحوار إلى الأمام وسيثمر نتائج لن يأتي بها غيره من الوسائل الأخرى. هل من نصيحة للأجهزة والسلطات المغربية والجماعات الجهادية؟ الذي نحب أن نؤكد عليه أننا كلنا مسلمون، ومن ثم فهناك دين وشريعة تحكم السلطات والجماعات الجهادية وغيرهم، فالله سبحانه يقول: ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا، فمعاملة السجناء بالمبادئ الإسلامية الرفيعة باحترامهم من الأخلاق الرفيعة والشهامة والإنسانية العالية، والمعاملة الحسنة أصل أصيل في ثقافتنا، والمغرب مشهور بمعاملته الحسنة للسجناء عبر التاريخ، وهي من القيم الراسخة في مجتمعاتنا، وأتمنى أن تكون دائما حية وحاضرة. والنقطة الثانية أن الحوار لا يأتي إلا بخير، فنحن إخوة في الله جمعنا هذا الدين، وخصومنا وأعداؤنا معروفون وواضحون، ولذلك لا بد من منع الاحتراب الداخلي فيما بيننا، وهذا يرجع بالخير على الإسلام والمسلمين، والطريق إلى هذا الحوار هو الصراحة والمصارحة والأخذ والعطاء، مما يأتي بنتائج إيجابية على الجميع.